النحو

ما الحجازية وكيف تعمل عمل ليس في النحو العربي؟

هل يختلف بنو تميم عن أهل الحجاز في إعمالها؟

تعد أدوات النفي من الركائز الأساسية في بناء الجملة العربية، وتبرز “ما” كأداة ذات خصوصية جدلية بين القبائل العربية القديمة، إذ تتجاذبها لهجاتٌ متباينة وأحكامٌ دقيقة. يتناول هذا المقال تفاصيل عملها وشروطها واختلاف النحاة حولها بأسلوب علمي شامل، مستعرضاً آراء سيبويه والمدارس النحوية المختلفة.

كيف عرّف سيبويه والنحاة “ما” وعملها؟

في المصطلح والعمل، سمّى إمام النحاة سيبويه هذه الأداة بلغتها ومعناها، موضحاً أنها لهجة حجازية أصيلة تعمل فيها (ما) عمل (ليس) في مواضع محددة. فكما يقول المتكلم: “عبدُ الله منطلقٌ”، يمكنه النفي بلفظ (ما) قائلاً: “ما عبدُ الله منطلقاً”، فتؤدي بهذا اللفظ معنى النفي تماماً كما يقول: “ليس عبدُ الله منطلقاً”. وقد استمد النحويون مصطلحاتهم من عبارات سيبويه الدقيقة، فبعضهم أطلق عليها اسم (ما) الحجازية، وآخرون سموها (ما) المشبهة بـ (ليس)، وربما جمع البعض بين الاسمين معاً في مصنفاتهم.

أما من حيث العمل، فإن القياس النحوي يقتضي ألا تعمل؛ والعلة في ذلك أنها غير مختصة، إذ تدخل على الجملتين الاسمية والفعلية على حد سواء، ويقتصر شبهها بالفعل (ليس) على المعنى فقط، ولم تشبهه في اللفظ والمعنى كما هو الحال في (إنّ) وأخواتها. ولهذا السبب، أهملها بنو تميم ولم يُعملوها في كلامهم. ونُقل عن الأصمعي قوله بأن (ما) لم تقع في الشعر العربي إلا على لغة تميم (أي مهملة)، وروى أبو حيان عن ابن هشام اللخمي أنه تصفح ذلك واستقصاه، فألغى عملها كما ذكر الأصمعي ما خلا ثلاثة أبيات، منها بيتان وقع فيهما خلاف. كما روى عنه أيضاً أنها لم ترد في القرآن الكريم إلا عاملةً على لغة أهل الحجاز، ما خلا حرفاً واحداً في قراءة حمزة. وبين سيبويه وجمهور النحويين أنها لا تنصب الخبر إلا بشروط دقيقة.

ملخص القسم:

  • (ما) الحجازية تعمل عمل (ليس) عند أهل الحجاز، وتهمل عند بني تميم.
  • القياس يقتضي عدم إعمالها لعدم اختصاصها، وشبهها بـ (ليس) في المعنى فقط.
  • الأصمعي يرى أنها مهملة في الشعر (لغة تميم)، بينما هي عاملة في القرآن (لغة الحجاز).

اقرأ أيضاً:

متى يبطل عمل “ما” إذا تقدم الخبر على الاسم؟

الشرط الأول لإعمالها ألا يتقدم خبرها على اسمها؛ فإن تقدم بطل عملها، وفي هذه الحالة تستوي اللهجتان: الحجازية والتميمية في الرفع، نحو قولك: “ما منطلقٌ عبدُ الله”، و”ما مسيءٌ مَن أعتب”. إلا أن بعض النحويين أعملها حتى مع تقديم الخبر، مستشهدين بقول الفرزدق:
فأصبحوا قد أَعادَ اللَّهُ نِعْمَتَهُم * إذ هم قُرَيشٌ، وإذ ما مِثْلَهُم بَشَرُ
حيث نصب (مثلَهم) وجعله خبراً مقدماً، وقد وُصف هذا الاستعمال بالقليل الذي لا يكاد يُعرف.

وقد تمسك فريق من النحويين بهذا الشرط تمسكاً صارماً، فلم يقبلوا ما ذكره سيبويه في توجيه بيت الفرزدق؛ حيث وصف المبرد إعمالها هنا بالخطأ الفاحش، ورأى أن وجه الصواب أن يكون (مثلهم) حالاً، قياساً على قولهم: “فيها قائماً رجلٌ”. وذكر الأعلم الشنتمري أنه منصوب على الظرفية، كما تقول: “ما فوقهم بشرٌ”. بينما غلّط بعضهم الفرزدق نفسه؛ لأنه تميمي تحدث بلهجة غيره (الحجازية)، فظن خطأً أن (ما) تعمل مع تقدم خبرها. ومن جهة أخرى، بيّن ابن عصفور أنه يجوز أن يكون (مثلهم) مرفوعاً على الابتداء، ولكنه بُني على الفتح لإضافته إلى مبني (الضمير).

اقرأ أيضاً:  عطف البيان: تعريفه وفائدته وأحكامه والفرق بينه وبين البدل

ملخص القسم:

  • يبطل عمل (ما) إذا تقدم الخبر، وتعود الجملة مبتدأ وخبراً.
  • خالف الفرزدق القاعدة في بيت شعري، مما أثار جدلاً واسعاً بين النحاة.
  • تعددت التخريجات لبيت الفرزدق بين النصب على الحال، أو الظرفية، أو التغليط، أو البناء على الفتح.

اقرأ أيضاً:

هل يجوز الفصل بين “ما” واسمها بمعمول الخبر؟

الشرط الثاني ألّا يُفصل بين (ما) واسمها بمعمول الخبر، فلا يجوز ذلك؛ لأن (ما) لا يكون فيها ضمير الشأن كما هو الحال في (ليس). فلا يجوز أن تقول: “ما زيداً عبدُ اللهِ ضارباً” وأنت تريد: “ما عبدُ اللهِ ضارباً زيداً”، ولا يجوز: “ما زيداً أنا قاتلاً”. وقد ورد في قول مزاحم العقيلي:
وقالوا: تَعَرَّفَها المنازِلَ مِنْ مِنًى * وما، كُلَّ مَنْ وَافَى مِنًى، أنا عارفُ
حيث روي: “وما كلُّ” بالرفع، ووجهه أن (كلُّ) اسمها، وجملة (أنا عارف) خبرها، وذلك على تقدير إضمار الضمير العائد، والتقدير: “وما كلُّ من وافى منى أنا عارفُه”.

أما إذا كان معمول الخبر ظرفاً أو جاراً ومجروراً، فقد جاز تقديمه والفصل به؛ لأن الظرف يتوسع فيه ولا يعد فاصلاً قوياً بين العامل ومعموله، نحو: “ما اليومَ زيدٌ ذاهباً”.
وذكر ثعلب وآخرون أنه يجوز تقديم خبرها على اسمها وإن لم يكن ظرفاً أو مجروراً، نحو: “ما طعامَكَ زيدٌ آكلاً”؛ لأن المفعول من صلة الفعل وتكملته، فلم يعبؤوا به كفاصل، فكأنهم قالوا: “ما زيدٌ آكلاً طعامَكَ”.
وحكي عن الكوفيين أنهم أجازوا تقديم معمول خبرها عليها، نحو: “طعامَكَ ما زيدٌ آكلاً”؛ معللين ذلك بأنها بمنزلة حروف النفي التي يجوز أن يتقدم معمول ما بعدها عليها، نحو: “زيداً لن أضربَ”، و”زيداً لم أضرب”. وقد رُدَّ عليهم بأن معناها النفي ويليها الاسم والفعل، فأشبهت حرف الاستفهام، وحرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله.

ملخص القسم:

  • لا يجوز الفصل بين (ما) واسمها بمعمول الخبر إلا إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً.
  • الكوفيون أجازوا تقديم المعمول قياساً على أدوات النفي الأخرى، ورد البصريون ذلك لشبهها بالاستفهام.

اقرأ أيضاً:

ماذا يحدث إذا انتقض نفي “ما” بـ “إلا”؟

الشرط الثالث ألا ينتقض نفيها بـ (إلا). فإذا وقعت (إلا) بين اسمها وخبرها بطل عملها؛ لأن معناها (النفي) قد انتقض وتحول لإيجاب، تقول: “ما زيدٌ إلا منطلقٌ” بالرفع، وكقوله عز وجل: (مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا).
ونُقل عن يونس بن حبيب وآخرين أنهم أجازوا إعمالها وإن انتقض نفيها بـ (إلا)، واستدلوا بقول الشاعر:
وما الدهر إلا مَنْجَنُونَاً بِأَهْلِهِ * وما صاحبُ الحاجات ِإلا مُعذَّبا
وقد أوَّلَ ابن عصفور البيت لتخريجه على القواعد، فذكر أنّ (منجنوناً) نائب عن المصدر وتقديره: “وما الدهر إلا دورانَ منجنونٍ”، وأن (مُعَذَّباً) مصدر ميمي مثل (مُمزّق)، فيكون التقدير من باب المفعول المطلق: “ما أنت إلا سيراً”، أي: “ما صاحب الحاجات إلا يُعَذِّبُ عذاباً”.
ونُقل عن ابن بابشاذ أن (منجنوناً) منصوب بنزع الخافض، والتقدير: “وما الدهر إلا كمنجنون”، ووصف هذا القول بالفساد؛ لأن موقع المجرور الرفع، فلو حذف حرف الجر لوجب الرفع. وقيل: إن (منجنوناً) اسم في موضع الحال، والخبر محذوف، تقديره: “وما الدهر موجوداً إلا على هذه الحال مثل المنجنون”.

اقرأ أيضاً:  بله في النحو العربي: أوجهها المتعددة ومذهب الأخفش في الاستثناء

واستنتج بعض النحويين من هذا الشرط شرطاً آخر، وهو ألا ينتقض النفي بنفيٍ آخر؛ لأن نفي النفي إيجاب، فلا يجوز أن يقال: “ما ما زيدٌ قائماً”. وحكي عن الكوفيين جوازه، والدليل قول الراجز:
لا يُنْسِكَ الأسَى تأسِّياً، فما * ما مِنْ حِمَامٍ، أَحَدٌ مُعْتَصِما
حيث كرر (ما) وأبقى عملها.

ملخص القسم:

  • يبطل عمل (ما) إذا دخلت (إلا) بين الاسم والخبر، فتصير الجملة مثبتة.
  • أجاز يونس إعمالها مع (إلا) مستدلاً ببيت شعري، وخرج النحاة البيت تخريجات متعددة (مفعول مطلق، نزع خافض، حال).
  • نفي النفي يبطل العمل عند الجمهور، وأجازه الكوفيون.

اقرأ أيضاً:

كيف تؤثر “إن” الزائدة والبدل على عمل “ما”؟

الشرط الرابع ألا يُبدلَ من خبرها في الاستثناء؛ فإذا أبدل من خبرها في سياق الاستثناء استوت اللغتان (الحجازية والتميمية) في الرفع، وصارت (ما) على أقيس الوجهين، أي: أهملت، نحو: “ما أنت بشيءٍ إلا شيءٌ لا يُعْبَأُ به”، وكأنك قلت: “ما أنت إلا شيءٌ لا يُعْبَأُ به”.

الشرط الخامس ألا تُكَفَّ بـ (إنْ)؛ حيث تَكُفُّ (إنْ) الزائدة (ما) الحجازية عن العمل، كما تكُفُّ (ما) الزائدة (إنَّ) وأخواتها عن العمل، نحو: “ما إنْ زيدٌ ذاهبٌ”. ومنه قول فروة بن مُسَيْك:
وما إنْ طِبُّنَا جُبْنٌ، ولكنْ * منايانا، ودولةُ آخرينا
فرفع (جُبْنٌ) وهو الخبر؛ لأن (ما) كُفَّتْ عن العمل بـ (إنْ).
ونُقل عن الكوفيين جواز إعمالها مع كفِّها بـ (إن)، نحو: “ما إنْ زيدٌ فاضلاً”، ونحو قول الشاعر:
بني غُدَانَةَ، ما إنْ أنتُمُ ذهباً * ولا صريفاً، ولكن أنتُمُ الخَرَفُ
وهذا النقل عن الكوفيين يوافق ما حكي عنهم من أن (إنْ) ههنا نافية غير كافّةٍ، وهم يجيزون أن يؤكد النفي بالنفي.

ملخص القسم:

  • إذا أبدل من خبر (ما) بإيجاب، بطل عملها.
  • دخول (إن) الزائدة بعد (ما) يكفها عن العمل عند الجمهور.
  • الكوفيون يجيزون إعمالها مع (إن) معتبرين إياها نافية مؤكدة وليست زائدة كافة.

اقرأ أيضاً:

اقرأ أيضاً:  إعراب سورة الكوثر

ما الزمن الذي تنفيه “ما” وما علاقتها بـ “لا” النافية للجنس؟

فيما يخص معناها وزمنها، تفيد (ما) نفي الحال؛ قال سيبويه: “وأما (ما) فهي نفيٌ لقوله: هو يَفْعَلُ، إذا كان في حال الفعل”. ولذلك لا يجوز أن يقع خبرها ماضياً، فلا يقال: “ما زيدٌ قامَ أمسِ”؛ لأنها مخصصة لنفي الحال الحاضر.
ونُقل عن الأخفش أنها وقعت بمعنى لا النافية للجنس وروي عنه أنه أنشد:
وما يأسَ، لو رَدَّتْ علينا تَحيَّةٌ * قليلٌ، على من يعرف الحقَّ، عابُها
حيث ركب (ما) مع النكرة (يأسَ) وبناها على الفتح تشبيهاً لها بـ (لا) النافية للجنس، وقد وُصف هذا الاستخدام بالشاذ الذي لا يقاس عليه.

ملخص القسم:

  • (ما) مختصة بنفي الزمن الحال (الحاضر) ولا تنفي الماضي.
  • ورد عن الأخفش استخدام نادر لـ (ما) مركبة مع النكرة كعمل (لا) النافية للجنس، وعده النحاة شاذاً.

اقرأ أيضاً:

هل ترى أن تيسير النحو يتطلب الأخذ برأي التميميين بإهمال “ما” مطلقاً؟

دعوة لاتخاذ إجراء
إن فهم دقائق اللغة العربية وفروق لهجاتها يفتح أمامك آفاقاً واسعة لتذوق النصوص الأدبية والقرآنية بعمق أكبر. لا تكتفِ بقراءة القواعد نظرياً، بل حاول تطبيق شروط “ما” الحجازية على نصوص تقرؤها يومياً، أو جرب صياغة جملك الخاصة مستخدماً لغة أهل الحجاز مرة ولغة تميم مرة أخرى؛ لترسخ الملكة اللغوية لديك وتكتشف سحر التنوع في لغتنا الجميلة.

المراجع

  1. سيبويه، ع. ب. ع. (1988). الكتاب (تحقيق عبد السلام هارون، ط. 3). مكتبة الخانجي. (يُعد المصدر الأساسي الذي استقى منه المقال تعريف “ما” ومصطلحاتها).
  2. ابن هشام، ع. ب. ي. (1985). مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (تحقيق مازن المبارك). دار الفكر. (مرجع محوري في تفصيل أدوات النفي وشواهدها الشعرية والقرآنية).
  3. القرشي، ع. (2012). الدلالات النحوية لأدوات النفي في القرآن الكريم. مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية، 28(1)، 45-70. (دراسة توضح التطبيق القرآني لـ “ما” وشروط إعمالها كما ورد في المقال).
  4. التميمي، م. (2015). اللهجات العربية في القراءات القرآنية: دراسة لغوية مقارنة. مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث، 12(3)، 112-145. (يدعم المقال في توضيح الفرق بين لهجتي تميم والحجاز في الإعمال والإهمال).
  5. السامرائي، ف. (2000). معاني النحو (ط. 1). دار الفكر. (كتاب أكاديمي يشرح الفروق الدلالية والزمنية لأدوات النفي وعلاقتها بالحال).
  6. حسن، ع. (1975). النحو الوافي. دار المعارف. (مرجع تطبيقي شامل يناقش الشواهد الشعرية مثل بيت الفرزدق والردود عليها بالتفصيل).

المصداقية

تمت مراجعة المعلومات الواردة في هذا المقال بالاستناد إلى أمهات كتب النحو العربي (الكتاب لسيبويه، ومغني اللبيب)، بالإضافة إلى دراسات أكاديمية محكمة في الدوريات اللغوية. ننوّه بأن الآراء الواردة تمثل المدارس النحوية (البصرية والكوفية) كما نُقلت في المصادر الأصلية.

جرت مراجعة هذا المقال من قبل فريق التحرير في موقعنا لضمان الدقة والمعلومة الصحيحة. فريق التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى