صباح اللغات ومساء اللهجات
بقلم: أبو بكر وسام عابد
عند انبثاق أشعة الشمس الذهبية كل صباح، نستيقظ آملين في يوم ملؤه الخير والتفاؤل والإنجاز، وأول حروف تجري على ألسنتنا هي حروف عبارة صباح الخير. لم تعد بيوتنا كالسابق حيث أصبحت كالقوالب يتبدل الكلام فيها ويتحول من حال إلى آخر. فإذا نظرنا إلى عبارة صباح الخير، سنجدها متقلبة الأحوال من بيت لآخر. فهي عربية شامخة في بيت جدي، وعربية مترحلة في بيت أبي، وغريبة مُعرّبة في بيت أخي، وفي بيت ابني مهاجرة مغتربة. هذا هو صباحنا، تتغير لغته حسب الزمن والتطور. من صباح الخير إلى Good morning وما بينهما صباح البونجور وأحلى مورنينج عليك وBon matin إلخ، تتغير الكلمات وتتبدل اللغات والمكان واحد.
أما خلال أعمالنا التي نقضيها كل صباح، فصباحنا هذا له لغة أيضًا، فما هي يا تُرى؟
من المعروف أن توقيت فترات العمل بين الناس مختلفة، إما أن تكون في الصباح أو المساء، والأغلب تكون فترة عمله صباحًا. إن لغة العمل يكسوها غالبًا طابع الرسمية، وبين الزملاء تلبس رداء اللطف والمزاح. إن أحد أبرز متطلبات العمل في العصر الحالي هو اللغة الإنجليزية. فالكثير من العاملين- كالمترجمين والمسوقين والمصممين والمهندسين والأطباء وغيرهم- تأخذ الإنجليزية نصيبًا كبيرًا من كلامهم. وتصبح صباح الخير ذات وظائف متعددة غير تشكلاتها المختلفة بين اللغات. فالمترجم سيُصبح بإحدى لغتيه أو أكثر التي يتقنها. والمسوق سيجلب الزبائن بصباح الخير، وكأنها أداة تسويقية. والمصمم سيتفنن في رسمها وزخرفتها في تصاميمه، والمهندس سيبني حروفها كما لو أنها نصب تذكاري في وسط المدينة. أما عند الطبيب، فسيعالج بها مرضاه. وهنا تبتسم اللغات كلها لمفرداتها التي آضت أكثر من مجرد كلام يُقال.
والكثير منا يتعلم اللغات المختلفة، على اختلاف مهنته وهدفه، فمنهم من يتعلم لغة لحبها وآخر لحاجتها وآخر ليمتهنها إلى غير ذلك من الغايات المتباينة. على مدار السنين الأخيرة عَلت اللغة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية القمة عند الناس عمومًا وعند العرب خصوصًا، وتوسطت اللغات المعقدة كالصينية واليابانية والتركية الترتيب. وأخذت اللغات الأخرى كالإندونيسية والبرتغالية والهندية تحاول الصعود من القاع. هذا هو الحال العام اليوم، ولغة الصباح أيضًا صارت تتنقل بين هذه اللغات في كثير من بلداننا وأحيائنا العربية.
أما لهجاتنا العربية، فكثيرة هي ومتفرعة، عددها كعدد النجوم اللامعة في السماء. ومنها طرق لفظ مختلفة -اللكنات- كالخليلية والغزاوية والبدوية في الفلسطينية مثلًا. فحين ينقضي صباح العمل، وتبدأ الشمس بمغادرة السماء ويحل ستار الظلام، يمسي بعضنا مع عائلته أو مع أصحابه، أو على مواقع التواصل الاجتماعي يدردش مع أصدقائه. فتتنوع الجلسات واللهجات واللكنات. فعادة طلاب الجامعات احتساء كوب من قهوة إنجليزية في الصباح، وفي المساء يعشقون القهوة العربية، وقد يختلف هيلها فمنها ما هو سوري أو فلسطيني أو أردني أو خليجي أو سعودي أو غير ذلك. وفي أحيان أخرى، تسمع سوريًّا مقيمًا في فلسطين مثلًا يتوه بين اللغات واللهجات، فهو صديق الفلسطينية في الصباح ورفيق السورية في المساء، ويا عيني إن كان مجيدًا للإنجليزية ولهجاتها، سيصبح كالمجنون الذي لا يكاد أن يلتقط أنفاسه أو يريح عقله من التمييز بين كل تلك التعقيدات في رأسه. فهكذا المساء، فيه تختلف اللهجات في حديثنا مع أهالينا وأصحابنا وعوائلنا. وما زالت عبارة مساء الخير كرفيقتها صباح الخير، لا يفترقان في الدلالة والأهمية مع أي من يستخدمها.
أما أسباب هذه الظاهرة، فهي كثيرة. فمن المؤكد أن الحداثة هي أبرز سبب، فاللغة الإنجليزية اليوم هي محور الكرة الأرضية، كما أن اللغة الصينية بدأت تتزايد في أهميتها وربما ستحل مكان الإنجليزية يومًا ما. أما لهجاتنا ولكناتنا فاكتسبناها مذ نعومة أظافرنا، بل وصلنا لمرحلة جديدة اليوم، وهي امتلاك لكنة أو لهجة على حسب المكان أو الهوى. فتجد بدويًّا يعيش في المدينة يتحدث اللكنة المدنية أفضل من أهلها، وتجد قرويًّا يعيش في القرى تميزه اللكنة البدوية والمدنية فقط بسبب حبه لهذه اللكنات.
ويبقى في النهاية أن التنوع في اللغات شيء رائع وجميل، ولكن لا بد من الحذر من البعد عن ثقافاتنا ولغتنا العربية التي كانت وما زالت وستدوم حبيبتنا التي لا نستطيع أن نفارق النظر في عينيها.