لا النافية للجنس العاملة عمل إنَّ، معناها وشروط عملها وتكرارها
إن البحث عن الإتقان في اللغة العربية يفتح أمامنا أبواباً متعددة لفهم جمالياتها وتراكيبها الدقيقة. من بين الأدوات المهمة في هذا السياق تأتي “لا النافية للجنس”، التي تمتاز بقدرتها على نفي الجنس بصيغة جازمة ومؤكدة، مما يجعلها أساسية في بناء الجمل القوية والمعبرة. في هذا المقال، سنتناول معنى “لا النافية للجنس”، وكيفية عملها وأهميتها في النحو العربي، مقدّمين أمثلةً وشروحات تعزز من فهمنا لهذه الأداة النحوية الفريدة. انضموا إلينا في هذه الرحلة الاستكشافية الممتعة لاكتشاف أسرار النحو العربي عبر نافذة “لا النافية للجنس”.
معنى لا النافية للجنس
تدل على النفي الصريح المؤكد لجنس ما بعدها. تقول: (لا خائنَ بينَنَا، ولا حاقدَ رابحٌ، ولا متخاذلَ وطنيٌّ)، فقد نفت (لا) جنس ما بعدها نفياً عاماً صريحاً مؤكداً، فلا وجود لجنس الخائنين بيننا وجنس الحاقدين غير رابح…إلخ.
شروط عمل لا النافية للجنس
تعمل عمل (إنَّ) وهي محمولة عليها حمل النقيض على نقيضه؛ لأن معنى (إنَّ) التوكيد أي توكيد الاثبات، ومعنى (لا) توكيد النفي، فـ (لا) تنصب الاسم، وترفع الخبر، ولا يكون لها ذلك إلا إذا توافرت فيها شروط، هي:
١ -أن يراد بها استغراق النفي لجميع أفراد الجنس نصاً لا احتمالاً؛ فإن أفادت احتمال نفي الوحدة أو الجنس كانت عاملة عمل (ليس)؛ لأنها تفقد عنصر التوكيد؛ وهو الذي يؤدي إلى استغراق النفي، وهذا معنى قولنا (نصّاً)، فهو يعني عدم الاحتمال وعدم الشك بل الثبوت وتأكيد النفي، تقول: (لا رجلَ قائمٌ) إن أردت نفي الجنس، وتقول: (لا رجلٌ قائماً) إن أردت احتمال نفي الوحدة أو الكل، ومثل ذلك إن جعلتها مهملة، فقلت: (لا رجلٌ قائمٌ).
وكل هذه المعاني متقاربة، ولكنك إن أردت توكيد النفي استخدمت (لا) النافية للجنس، فيستغرق النفي جنس ما بعدها.
٢ -أن يكون اسمها وخبرها نكرتين، فإن كانا معرفتين، أو إن كان أحدهما معرفة لم تعمل، بل تصبح مهملة، تقول: لا غاشَّ رابحٌ، وقال الفرزدق:
فلا قومَ شرٌّ منهمُ غير أنَّهم * تظنُّهُم أمثالَ تُرْكٍ وكَابِلِ
فقد نفى الشاعر جنس القوم الذين هم أكثر شراً منهم، فهم أشر الأقوام.
وقد يكون اسمها نكرة في المعنى لا اللفظ، كأسماء الأعلام المشتهرة بصفات معينة، تقول: (لا حاتمَ فيكم، ولا عنترةَ بينكم)، والمعنى: لا كريمَ ولا شجاعَ؛ لأن حاتم مشهور بالكرم، وعنترة مشهور بالشجاعة. وقال عمر رضي الله عنه: (قَضَيَّةٌ ولا أبا حسنٍ لها). والمراد: لا رجل ذكيّاً مثل أبي حسن يستطيع أن يحل مشكلة هذه القضية، وأبو حسن هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الزبير السدي:
أرى الحاجاتِ عندَ أبي خبيب * نَكِدْنَ، ولا أُمَيَّةَ بالبلادِ
فأبو خُبيب هو عبد الله بن الزبير، وكان مشهوراً بقلة عطائه للشعراء، أما أميّة فهو كناية عن الكرم والعطاء، فالشاعر يرى أن حاجاته لا يمكن أن تقضى عند عبد الله بن الزبير (أبي خبيب)، وليس هنالك كرم كخلفاء بني أمية.
فكل هذه الأعلام مؤولة بالنكرات؛ لأن اسم العلم نفسه ليس مقصوداً، بل المقصود هو صفته، فهو منزَّل منزلة النكرة بتقدير مضاف محذوف هو كلمة (مثل).
٣ -ألا يتقدم خبرها على اسمها أو ألا يفصل فاصل بينها وبين اسمها، فإن فصل فاصل لم تَعُدْ نافية للجنس، وارتفع الاسم على أنه مبتدأ، وحينئذ لا بد من تكرارها. قال تعالى: {لَا فِيهَا غَولٌ، وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}، فلما تقدم الخبر أو ما تعلق به الخبر (فيها) ففصل بينها وبين اسمها أُهملت، وكُرِّرَت، وأصبح الاسم المرفوع مبتدأً.
٤ -ألا يدخل عليها حرف جرٍّ، فإن دخل عليها حرف الجر أَبطل عملَها، وجَرَّ الاسم الذي بعدها، وعُدَّت نافية فاصلة بين حرف الجر ومجروره، تقول: (حضرت بلا كتب، وغضب أخي من لا شيء)، وقال ابن ميّادة:
وارتَشْنَ حينَ أردنَ أنْ يرمينَنا * نبْلاً بلا ريشٍ ولا بقداح
فقد دخل حرف الجر (الباء) على (لا) فبطل عملها، وجُرَّ الاسم بعدها، وأصبحت (لا) نافية فاصلة بين حرف الجر والاسم المجرور.
اسم لا النافية للجنس
يأتي اسم (لا) مفرداً ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، ويأتي مضافاً، ويأتي شبيهاً بالمضاف.
ويبنى اسم (لا) المفرد على الفتح أو على ما ينصب به، وهو في محل نصب.
تقول: (لا عالمَ متكبرٌ، ولا علماءَ متكبرون، ولا صديقين متنافران، ولا كاذبِينَ محترمون، ولا والداتِ قاسيات). فاسم (لا) في الأمثلة التي مرت مفردة؛ لأنه ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، وإن كان مثنى أو جمعاً، وهو مبني على الفتح أو على الياء أو على الكسر؛ لأنه يبنى على ما ينصب به، فنقول في إعراب (كاذبين) من قولنا (لا كاذبِينَ محترمون): اسم لا مبني على الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم في محل نصب. وقال سلامة بن جندل:
أودى الشَّبابُ الَّذي مجدٌ عواقبُهُ * فيهِ نَلَذُّ ولا لذَّاتِ للشَّيبِ
فكلمة (لذات) اسم (لا) مبني على الكسر في محل نصب، وبني على الكسر عوضاً عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.
أما المضاف والشبيه بالمضاف فمعربان منصوبان، وعلامة النصب فيهما الفتحة أو ما ينوب عنها.
فمن المضاف قولك: (لا رجلَ سوءٍ بيننا، ولا ذا خلقٍ ذميمٍ يصاحبنا، ولا مهملاتِ عملٍ مكرماتٌ).
فاسم (لا) في المثال الأول منصوب؛ لأنه مضاف وعلامة نصبه الفتحة، واسمها في المثال الثاني منصوب وعلامة نصبه الألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، وفي المثال الثالث علامة النصب الكسرة عوضاً عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.
ومن الشبيه بالمضاف قولك: (لا خيراً من الكتاب لك، ولا سَيِّئاً فِعْلُه محترمٌ، ولا مُؤذياً جارَهُ بيننا، ولا راغباتٍ في الشهرة مستريحاتٌ، ولا عشرينَ رجلاً حاضرون). فاسم (لا) فيما مرّ شبيه بالمضاف، فهو إما مشتقٌّ عَمِلَ فيما بعده، أو لفظ مبهم جاء بعده التمييز ليوضحه، فـ(خيراً) اسم تفضيل تعلق به جار ومجرور، و(سيِّئاً) صفة مشبهة رفعت الفاعل ( فعلُه)، واسم (لا) في المثال الثالث (مؤذياً) اسم فاعل نصب المفعول به (جارَه)، و (راغبات) اسم فاعل تعلق به جار ومجرور ( في الشهرة)، وهو منصوب وعلامة نصبه الكسرة عوضاً عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و( عشرين) في المثال الأخير اسم مبهم منصوب؛ لأنه اسم (لا)، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وهو شبيه بالمضاف؛ لأنه جاء بعده التمييز (رجلاً).
العطف على اسم لا النافية للجنس
يجوز في الاسم المعطوف النكرة النصب والرفع، تقول: لا رجلَ وامرأةٌ في الدَّار، ولا كتابَ وقلماً أو وقلمٌ على الطاولة. قال الشاعر:
لا أبَ وابناً مثلُ مروانَ وابنِه * إذا هو بالمجد ارتدى وتأزَّرا
فقد عطف (ابناً) على (لا) المبني على الفتح، فعطفه منصوباً، والعطف بالنصب إتْباع على اللفظ، وبالرفع إتباع على محل (لا واسمها)، فمحلهما الرفع على الابتداء، ومراعاة اللفظ أحسن.
نعت اسم لا النافية للجنس
يجوز في الصفة ما جاء في الاسم المعطوف: النصب والرفع، تقول: (لا رجلَ سَيِّئاً بيننا، ولا رجلَ سَيِّئٌ بيننا)، فإن كان اسم (لا) مفرداً كالذي مرّ جاز وجه ثالث وهو بناء الصفة على الفتح، تقول: (لا رجلَ سَيِّئَ بيننا). أما إذا كان اسم (لا) مضافاً أو شبيهاً بالمضاف فلا يجوز البناء، تقول: (لا رجلَ علمٍ متقاعساً أو متقاعسٌ بيننا)، ومراعاة اللفظ أحسن.
تكرار لا النافية للجنس
إذا كُرِّرَتْ (لا) جاز إعمالها وإهمالها، وجاز إعمال إحداهما وإهمال الأخرى، فإذا أهملت الثانية وأعملت الأولى جاز رفع ما بعدها معطوفاً على محل ما قبلها، وجاز نصبه معطوفاً على لفظ ما قبلها، تقول:
١ -لا رجلَ ولا امرأةَ في البيت. (عملت الاثنتان).
٢ -لا رجلٌ ولا امرأةٌ في البيت. (أهملت الاثنتان).
٣ -لا رجلَ ولا امرأةً في البيت. (عملت الأولى، وأُهملت الثانية، وعُطف ما بعدها على لفظ اسم الأولى).
٤ -لا رجلَ ولا امرأةٌ في البيت. (عملت الأولى وأُهملت الثانية، وعُطف ما بعدها على محل ما قبلها).
٥ -لا رجلٌ ولا امرأةَ في البيت. (أهملت الأولى، وعملت الثانية).
قال الشاعر:
يُحشَرُ النَّاسُ لا بَنِيْنَ ولا آ * باءَ إلَّا وقد عَنَتْهُم شُؤونُ
فأعمل الشاعر الاثنتين، قال جرير:
بِأَيِّ بَلاءٍ يا نُمَيْرُ بنَ عامرٍ * وأنتُمْ ذُنَابى لا يَدَيْنِ ولا صَدْرُ
فأهمل الثانية، وعطف ما بعدها على محل ما قبلها، وكذلك فعل شاعرٌ من مذحج حين قال:
هذا لعمرُكمُ الصّغار بعينِهِ * لا أُمَّ لي إنْ كانَ ذاكَ ولا أبُ
وقال أنس بن عباس:
لا نَسَبَ اليومَ ولا خلَّةً * اتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقعِ
أعمل الأولى، وأهمل الثانية، وعطف على لفظ اسم الأولى.
وقال أمية بن أبي الصلت:
فلا لغوٌ ولا تأثيمَ فيها * ولا حَيْنٌ ولا فيها مُليمُ
فأهمل الأولى، وارتفع ما بعدها على أنه مبتدأ وخبره محذوف دلَّ عليه خبر الثانية. وأعمل الثانية، وأهمل الثالثة والرابعة. وقال مجنون ليلى:
أظنُّ هواها تاركي بِمَضَلَّةٍ * مِنَ الأرضِ لا مالٌ لديَّ ولا أهلُ
فأهمل الاثنتين، فارتفع الاسمان بعدهما.
حذف خبر لا النافية للجنس واسمها
يُحذَف خبرها كثيراً إذا كان شبه جملة، نحو قولهم: (لا بأسَ، ولا مالَ)، والتقدير: لا بأسَ عليك، ولا مال لي. وكثيراً ما يكون خبرها كوناً عاماً محذوفاً يدل عليه شبه جملة. فإن لم يدل عليها دليل وكان كوناً خاصاً فلا بُدَّ من ذكره، قال رسول الله (ص): (لا أحدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ) وقال أيضاً: (لا فقرَ أشدُّ مِنَ الجهلِ، ولا مالَ أعزُّ مِنَ العقلِ، ولا وَحشةَ أشدُّ من العُجْبِ)
ويحذف اسمها إذا كان معلوماً، نحو قولهم: لا عليك، والتقدير: لا بأسَ عليك.
ومن تراكيب (لا) النافية للجنس قولهم: (لا أبا لك)، قال الشاعر:
سَئِمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعِشْ * ثمانينَ حولاً لا أبا لكَ يَسْأمِ
وقد اختلف النحويون في إعراب هذا التركيب، وهذه هي آراؤهم:
١ –أبا: اسم (لا) منصوب، وعلامة نصبه الألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، وهو مضاف، واللام في (لك) زائدة، والكاف في محل جر مضاف إليه، والخبر محذوف تقديره (هالك).
٢ –أبا: أصلها (أبَ) اسم لا مبني على الفتح في محل نصب، والألف لإشباع حركة البناء، والجار والمجرور (لك) متعلقان بخبر محذوف.
٣ –أبا: اسم (لا) مبني على فتح مقدر على الألف، وعُومِلَ هنا معاملة الاسم المقصور. (لك) جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف.
خاتمة
في نهاية المطاف، يتضح لنا أنَّ “لا النافية للجنس” ليست مجرد أداة نحوية في اللغة العربية، بل هي وسيلة تعبيرية قوية تمكّننا من صياغة الأفكار بجملٍ واضحة ومؤكدة. من خلال هذه المقالة، استعرضنا معناها وأهميتها وأشكال استخدامها، مما يساهم في تعزيز قدرتنا على الكتابة والتحدث بشكلٍ أدق وأكثر إبداعًا. لنتذكر دائماً أن فهم قواعد اللغة هو خطوة أساسية نحو إتقانها واستخدامها بأفضل الطرق الممكنة. شكراً لقراءتكم واهتمامكم، ونأمل أن تكونوا قد استفدتم واستمتعتم برحلتنا في عالم “لا النافية للجنس”.