مواضع زيادة الباء: كيف تفيد التوكيد في اللغة العربية؟
ما المواضع النحوية التي تزاد فيها الباء لتأكيد المعنى؟

تُعَدُّ الباء من حروف الجر التي لها دور بارز في التركيب النحوي العربي، وتكتسب أهمية خاصة حين تزاد لإفادة معانٍ إضافية. يتناول هذا البحث المواضع التي اتفق النحويون على زيادتها فيها، وتأثير ذلك على الإعراب والمعنى.
المقدمة
إن زيادة الباء ظاهرة نحوية جديرة بالدراسة والتأمل، فهي تمثل جانباً مهماً من جوانب الإعراب في اللغة العربية. فالتوكيد تزاد الباء، فتفيد معنى التوكيد، وإذا زيدت اقتصر عملها على اللفظ دون المحل، وقد وجد النحويون أنها زيدت في المواضع التالية. تتعدد هذه المواضع لتشمل الخبر والفاعل والمفعول به وغيرها، مما يستدعي بياناً وافياً لكل موضع على حدة، مع الاستشهاد بالآيات القرآنية والأبيات الشعرية التي وردت فيها هذه الظاهرة.
خبر ليس وما ونواسخها
تزاد الباء في خبر ليس وما لتوكيد نفي الخبر، وزيادتها قياسية نحو: لست بذاهب، وما زيد بمنطلق، فأكد نفي الذهاب والانطلاق. ونُقِل عن الكوفيين أنها تزاد ههنا، أنها تقابل لام التوكيد التي تدخل على خبر إن في الجواب، فإذا قلت: إن زيداً قائم كان جوابه: ما زيد قائماً، وإذا قلت: إن زيداً لقائم فجوابه: ما زيد بقائم، فالباء بإزاء اللام، و ما بإزاء إنّ. وروي عن ابن السراج وآخرين أنهم لم يجيزوا أن تزاد بعد ما التميمية، ورد عليهم بأنه يجوز، وهو كثير في نثر العرب وشعرهم.
وذكر بعض النحويين أنها زيدت في خبر لا العاملة عمل ليس واستدلوا على ذلك ببيت امرئ القيس: وكَذَاكَ لا خيرٌ، ولا شرٌ على أحدٍ بدائمِ. التقدير: دائماً. وذكر ابن مالك وآخرون أن الباء زيدت في خبر كان المنفي نحو قول الشنفرى: وإن مُدَّتِ الأيدي إلى الزاد لم أكُن بِأَعْجَلِهِم إِذْ أَجْشعُ القَومِ أَعْجَلُ. فزاد الباء في خبر كان المسبوق بـ لم والتقدير: أعجلهم.
خبر إنّ وأخواتها وتنوع مواضع الزيادة
نقل عن الكسائي أنه يجوز أن تزاد الباء في خبر أَنَّ إذا ما سبقت بالنفي، وخرج على ذلك قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يعيَ بِخَلْقِهِنَّ بقادر على أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى). التقدير: قادر وهو خبر أن. وذكر أنها قد تزاد في خبر إن دون أن تسبق بنفي، نحو قول امرئ القيس: فإِنْ تَنْأَ عنها حِقبَةً لا تُلاقِها فَإِنَّكَ مِمَّا أَحْدَثْتَ بِالْمُجَرَّبِ. أراد: فإِنَّكَ المُجَرِّب.
وذكر ابن جني أنها زيدت في خبر لكن لشبهه بالفاعل، نحو قول الشاعر: ولكنَّ أجراً، لو فعلتِ، بِهَيِّنٍ وهلْ يُنكرُ المعروفُ في النَّاس والأجرُ. أراد: ولكن أجراً هينٌ وبيِّن أيضاً أنه قد يكون معناه: ولكن أجراً لو فَعلتيه بشيءٍ هيِّن، أي: أنت تصلين إلى الأجر بشيء هين وهو كقولك: وجوب الشكر بالبرِّ الهيِّن، فتكون الباء على هذا غير زائدة، وإنما هي متعلقة بخبر لكن المحذوف. وبين أبو حيان أنها زيدت في خبر ليت، واستشهد بقول الفرزدق: يقول إذا اقْلَوْلَى عليها وَأَقْرَدَتْ أَلا ليت ذا العيش اللذيذ بدائم. أراد: دائم، على أنه خبر ليت، وروى ابن هشام البيت بـ هل بدلاً من ليت، وذكر أن الباء تزاد في الخبر المسبوق بـ هل.
خبر المبتدأ والخلاف في الزيادة
نقل عن الأخفش أن الباء زيدت في خبر المبتدأ الذي لم يسبق بنفي، أو ناسخ، أو استفهام، وأنه استدل على ذلك بقوله تعالى: (جَزَاء سَيئَةٍ بِمِثْلِهَا). التقدير: جزاء سيئة مثلها، والباء زائدة، ورأى الزجاج وابن جني أنه يجوز ألا تكون الباء ههنا زائدة، وذلك على أنها متعلقة بالخبر المقدر بالسكون المحذوف. التقدير: جزاء سيئة سيئة كائن بمثلها، أو أنها متعلقة بـ الجزاء لأنه مصدر، والخبر محذوف تقديره: واقع أي: جزاءٌ سيئةٍ بمثلها واقع.
ونقل من الأخفش أيضاً أنه أجاز: زيد بقائم، كما نُقل عن ابن مالك أنه ذهب مذهب الأخفش واستدلَّ عليه بقول عبيدة بن ربيعة: فلا تطمع، أبيت اللعن، فيها وَمُنْعَكَها بشيءٍ يُسْتَطَاعُ. أراد: ومنعكها شيء يستطاع. وذكر أنه من النادر، ويتوقف على السماع، فلا يقاس عليه.
المبتدأ وحالاته الخاصة
تزاد الباء قياساً في المبتدأ حَسْبُ نحو: بِحَسْبِكَ هذا التقدير: حَسبُكَ هذا، ومنه قول الأشعر الأسدي: بحَسْبِكَ في القوم أَنْ يَعْلَمُوا بأنك، فيهم، غَنِيٌّ مُضِرُ. أي: حَسْبُكَ عِلْمُهُم. وقياساً على ذلك خرج ابن جني قراءة أُبي: (لَيْسَ البِرَّ بأن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ) بنصب البرَّ على أنه خبر ليس المقدم وأنّ الباء في بأن زائدة، والمصدر المؤوَّل في محل رفع، اسمها، والتقدير: ليس البر تولية وجوهكم.
وذهب بعض المتأخرين إلى أنها زائدة في نحو: كيف بك؟ كيف أنت؟ وكيف نحن؟ وذكروا أنها وكيف بنا؟ لأن الأصل: زيدت في المبتدأ الواقع بعد إذا الفجائية نحو: خرجت فإذا بزيد أي فإذا زيد.
الفاعل ومواضع زيادتها فيه
تشمل مواضع زيادة الباء في الفاعل عدة حالات يمكن إجمالها فيما يلي:
١. الزيادة مع فاعل كفى: تزاد الباء في فاعل كفى قياساً، ومعناها التوكيد نحو: كفى بالشيب، و الشيب مجرور لفظا مرفوع محلاً على الفاعلية، والدليل على ذلك أن الكلام يستقيم من دونها، وأن الفاعل جاء مجرداً منها، نحو قول عبد بني الحساس: عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجهَّزتَ غازياً كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً.
٢. آراء ابن السراج: وكان لابن السراج رأيان في هذه المسألة: الأول أن الباء غير زائدة، وأن الفاعل مُقَدَّر بمصدرٍ من لفظ الفعل، فالتقدير في المثال السابق: كفى الاكتفاء بالشيب الثاني أنها زائدة للتوكيد كما قال سيبويه وعامة النحويين. وذكر مكي القيسي بن أبي طالب أن زيادتها ههنا للأمر، نحو قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وكَفَى بِالله نَصِيراً) المعنى: اكتفوا بالله.
٣. الزيادة في فاعل افعل التعجب: وتزاد الباء زيادة لازمة في فاعل افعل في التعجب، نحو: أكرم بزيدٍ، وَأَحْسِنُ بهذا فالباء زائدة و زيدٍ وهذا مجروران لفظاً، مرفوعان محلاً على الفاعلية. وذهب بعض النحويين مثل الفرّاء، وثعلب والزجّاج، وغيرهم إلى أنها ههنا زائدة في المفعول، وأن الفاعل هو ضمير المخاطب، فيكون التقدير في المثال السابق: أكرم زيداً، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، أي: أكرم يا كرم بزيد.
٤. الزيادة اضطراراً: وأشار بعض النحويين إلى أنها زيدت بالفاعل في الموضعين السابقين اضطراراً، نحو قول قيس بن زهير: ألم يأتيك، والأنباء تنْمي بما لاقت لَبُونُ بَنِي زياد؟ التقدير: ألم يأتيك ما لاقت، و ما اسم موصول مجرور لفظا مرفوع محلاً على أنه فاعل يأتيك.
المفعول به وتعدد حالات الزيادة
تزاد الباء مع المفعول به شذوذاً، فقد نُقِل عن المازني بكر بن محمد بن بقية أنها زيدت مع مفعول كفى نحو قول الشاعر: فكفى بنا فضلاً على من غيرُنا حبُّ النبيِّ محمدٌ إيَّانا. أي: كفانا فضلاً حب النبي، و حب فاعل كفى، والباء زائدة و نا ضمير متصل مجرور لفظا منصوب محلاً على المفعولية. وحكي عن ابن العافية محمد بن عبد الرحمن الغرناطي أن نا مجرور لفظاً مرفوع محلاً على الفاعلية، لأنّ حب بدل اشتمال منها على الموضع.
وروى عن الكسائي أنه حَكَي عن العرب: مررت بأبياتٍ جادَ بهنَّ أبياتاً وجادهنّ أبياتاً، وجُدْنَ أبياتاً وهذا كثير في كلام العرب وليس شاذاً: أنهم يقولون: أحسن يزيد بزيد، كما يقولون: ما أحسن زيداً. وذكر بعض النحويين أنها زيدت مع الفعل المتعدي إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى: (ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). التقدير: ولا تلقوا أيديكم، ومنه قوله عز وجل (وهزي إِلَيْكِ بجذع النخلة) التقدير: وهزي إليكِ جذع النخلة. ومنه قولهم: قرأت بالسورة، وقرأت السورة، وألقى بيده والقى يده.
وقال عنترة: شَرِبَتْ بِمَاءِ الدَّحْرُضَيْنِ، فَأَصْبَحَتْ زَوْرًا تَنْفِرُ عَنْ حِياضِ الدَّيْلَمِ. التقدير: شربت ماء الدحرضين. وقال النابغة الجعدي: نحن، بَنِي ضَبّةَ، أصحاب الفَلَجْ نَضْرِبُ بالسيفِ، وَنَدْعُو بِالفَرَج. التقدير: وندعو الفرج. ورأى بعض النحويين أنها غير زائدة في هذه المواضع؛ لأن الأفعال التي تعلقت بها مُضَمَّنَةٌ معاني أفعال أخرى: فلا تلقوا مضمن معنى لا تفضوا، والباء للسببية، و قرأت بمعنى تلوت، و شربت معنى رويت، و تدعو معنى ترجو إلى غير ذلك.
وقد تزاد مع ما يتعدّى إلى مفعولين مثل علم، ووجد نحو قوله تعالى: (ألم يَعْلَمُ بِأَنَّ الله يرى) التقدير: ألم يعلم أن الله يرى فالباء زائدة، والمصدر المؤول سدَّ مسَدّ مفعولي يعلم والدليل على ذلك مجيئه من دون الباء، نحو قوله سبحانه: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقَّ المُبِينُ). ومن ذلك قول دريد بن الصمة: دعاني أخي، والخيلَ بيني وبينه فلمّا دعاني لم يجِدني بِقُعَّدِ. أي لم يجدني قعدداً، وذكر ابن مالك أنها تزاد كثيراً مع مفعول فرق وشبهه، وتقل مع الفعل المتعدي إلى مفعولين.
الحال والآراء المختلفة في زيادتها
ذكر ابن مالك أنها ربما زيدت مع الحال المنفية نحو قول القُحَيفْ العقيلي: فَما رَجَعَتْ بخائبةٍ ركابٌ حكيمُ بن المُسَيَّبِ مُنْتَهاها. التقدير: فما رجعت خائبة، والباء زائدة، و خائبة اسم مجرور لفظا منصوب محلاً على الحال. وخرَّج أبو حيان البيت على حذف الموصوف، والتقدير: فما رجعت بحاجة خائبة، فالباء ليست زائدة، والجار والمجرور متعلقان بصفة محذوفة من حاجة المحذوفة.
وهذا الخلاف بين النحويين يعكس دقة النظر في تحليل التراكيب اللغوية، إذ يميل بعضهم إلى القول بالزيادة استناداً إلى التقدير الإعرابي، بينما يفضل آخرون تخريج الكلام على وجه لا تكون فيه الباء زائدة، وذلك بافتراض حذف محذوف يجعل للباء تعلقاً إعرابياً حقيقياً. وكلا الرأيين له ما يسنده من الأدلة والشواهد، مما يدل على ثراء اللغة العربية وتنوع أساليبها.
الجار والمجرور والزيادة الشاذة
ذكر الرضي أن من غريب زيادة الباء زيادتها مع الاسم المجرور شذوذاً، نحو قول الشاعر: فأصبحن لا يسألنه عَن بِمَا بِهِ أَصَعَّدَ في عُلُوٍ أَمْ تَصوبا؟ التقدير: فأصبحن لا يسألنه عن ما به. وهذا الموضع يمثل حالة نادرة في الاستعمال اللغوي، إذ إن زيادة الباء مع اسم مجرور أصلاً بحرف جر آخر أمر غير مطرد في كلام العرب.
وتكمن الغرابة في هذه الحالة في أن الباء تزاد على اسم مسبوق بحرف جر هو عن، فيجتمع في الاسم الواحد حرفا جر: أحدهما أصلي وهو عن، والآخر زائد وهو الباء. وهذا التركيب النادر يستدعي السماع عن العرب، ولا يُقاس عليه في الاستعمال الحديث، إذ إن القياس يقتضي أن يكون الاسم مجروراً بحرف جر واحد فقط.
التوكيد بالنفس والعين
ذكر المرادي وابن هشام أنها تزاد مع النفس والعين في التوكيد، نحو: جاء زيد بنفسه وعينه، الأصل: جاء زيد نفسه وعينه. وهذه الزيادة تأتي لتوكيد المعنى وتقويته، إذ إن التوكيد بالنفس والعين من أنواع التوابع المعروفة في النحو العربي، والباء المزيدة هنا تضيف بعداً تأكيدياً آخر للمعنى الأصلي.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الزيادة في التوكيد بالنفس والعين تعكس حرص المتكلم على التأكيد البالغ، فلا يكتفي بالتوكيد المعنوي المجرد، بل يضيف إليه الباء لمزيد من التقرير والتثبيت. ويلاحظ أن هذا الاستعمال شائع في اللغة العربية، ولا سيما في السياقات التي تتطلب التأكيد الشديد على هوية الفاعل أو المفعول به، مما يجعل الباء في هذا الموضع أداة بلاغية فضلاً عن كونها أداة نحوية.
الخاتمة
وبعد هذا العرض المفصل لمواضع زيادة الباء في اللغة العربية، يتبين أن هذه الظاهرة النحوية تمثل جانباً مهماً من جوانب الدقة في التركيب اللغوي العربي. فزيادة الباء ليست عبثاً، بل هي محكومة بقواعد وضوابط اتفق عليها النحويون، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل والتخريجات. وقد أوضحت الشواهد القرآنية والشعرية أن هذه الزيادة أصيلة في الاستعمال اللغوي العربي، وأنها تؤدي وظائف معنوية مهمة، أبرزها التوكيد.
إن دراسة زيادة الباء تكشف عن ثراء اللغة العربية ومرونتها، وتظهر عناية النحويين بتتبع الظواهر اللغوية وتفسيرها تفسيراً دقيقاً. كما أن فهم هذه المسألة يعين دارس اللغة على الإعراب السليم، إذ يميز بين الباء الأصلية والباء الزائدة، مما ينعكس على تحديد المحل الإعرابي للكلمة بدقة. ولذلك تبقى دراسة هذه الظاهرة ضرورية لكل من يروم إتقان النحو العربي وفهم أسراره وبلاغته.
مواضع زيادة الباء بشكل مختصر
١ – خبر ليس وما: لست بذاهب
٢ – خبر إن وأخواتها: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
٣ – خبر المبتدأ: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)
٤ – المبتدأ: بِحَسْبِكَ في القوم أَنْ يَعْلَمُوا بأنك، فيهم، غَنِيٌّ مُضِرُ
٥ – الفاعل: كفى بالشيب – أكرم بزيدٍ
٦ – المفعول به: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)
٧ – الحال: فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابٌ حَكِيمُ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُنْتَهَاهَا
٨ – الجار والمجرور: فأصبحن لا يسألنه عَن بِمَا بِهِ أَصَعَّدَ في عُلُوٍ أَمْ تَصَوَّبَا؟
٩ – التوكيد بالنفس والعين: جاء زيد بنفسه وعينه




