وضع الشعر الجاهلي ونحله: قراءة في الأصالة والتأثير

هل ما نُسب إلى شعراء الجاهلية هو حقًا من إبداعهم؟ سؤال لطالما أثار جدلاً واسعًا في أروقة الأدب العربي. فبينما نستمتع ببلاغة أشعارهم وصورها البديعة، يطل علينا شبح “النحل” و”الوضع” ليثير الشكوك حول أصالة هذه النصوص. فما هو “النحل” و”الوضع” تحديدًا؟ ولماذا اتجه البعض إلى عزو أشعار لم يقولوها إلى فحول الشعر الجاهلي؟ وهل نجت هذه الفترة الذهبية من الأدب العربي من عبث المتلاعبين؟ هذه المقالة تأخذنا في رحلة استكشافية لتسليط الضوء على هذه القضية الشائكة، مرورًا بآراء النقاد القدامى والمعاصرين، وعلى رأسهم العلامة طه حسين الذي هزّت آراؤه الأوساط الأدبية في مطلع القرن العشرين، وصولًا إلى الحقيقة التي استقرت عليها الدراسات الحديثة حول أصالة الشعر الجاهلي ونحله.
النحل في الشعر الجاهلي
لم يكن النّحل -ومعناه عزو النصوص الأدبية القديمة إلى غير أصحابها من الأقدمين -قاصراً على الشعر، بل اتسع نطاق النحل، حتى شمل فنون الأدب الأخرى، وما يتصل بهذه الفنون من أسباب بعيدة أو قريبة. أما الوضع فيعني اختلاق النصوص في زمان متأخر، وعزوها إلى الأقدمين.
وذهب بعض النقاد إلى أن هذه الظاهرة لم تكن خاصة للعرب، فالأمة العربية ليست (أول أمة نُحل فيها الشعر نحلاً، وحمل على قدمائها كذباً وزوراً، وإنما نحل الشعر في الأمة اليونانية، والأمة الرومانية من قبل، وحُمل على القدماء شعرائهما).
وهذه الظاهرة لم تكن لتخفى على الرواة الذين نقلوا الشعر الجاهلي عن الأعراب ولا على العلماء الذين وضعوا هذا الشعر على محك التمحيص. يقول ناصر الدين الأسد: (قلما نجد روايةً عالماً من القرن الثاني والقرن الثالث لا تذكر لنا الأخبار المروية عنه أنه نصّ نصاً صريحاً على أن بيتاً أو أبياتاً بعينها موضوعة منحولة).
وربّما كان طه حسين أبرز النقاد العصريين الذين أثاروا مسألة النحل إثارة عنيفة سعّرت نار الحرب القلمية بينه وبين لِداته وأقرانه من كتاب ونقاد. فقد طلع على الناس في الربع الأول من القرن العشرين بآراء تحمل نفوس القراء على الارتياب في صحة كثير من الشعر الجاهلي، وظاهَر هذه الآراء بمجموعة من البراهين، وشفعها بذكر الدوافع التي تثبت وقوع النحل، وأهم هذه الدوافع:
أ -وأولها الدوافع السياسية التي جعلت القبائل في فترة الصراع على الخلافة تستكثر من طريف المجد وتالده، وجعلت كل واحدة منها – في سبيل الظفر بالحكم أو بشيء منه – تحرص ((على أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعاً مُؤَثَّلاً بعيد العهد.. فاستكثرت من الشعر، وقالت منه القصائد الطِّوال، ونحلتها شعراءها القدماء)).
ب -ورأى طه حسين أن الدوافع السياسية مازجت الدوافع الدينية التي اتخذت صوراً وأهدافاً متعددة، منها (إرضاء حاجات العامّة الذين يريدون المعجزة في كل شيء) ومنها (ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش) ومنها (هذا الذي يلجأ إليه القُصّاص لتفسير ما يجدونه مكتوباً في القرآن من أخبار الأمم القديمة البائدة كعاد وثمود ومن إليهم. فالرواة يضيفون إليهم شعراً كثيراً).
إن هذه الدوافع في رأي طه حسين دفعت المتزيدين والوضّاعين إلى نظم الشعر وعزوه إلى قدماء الشعراء.
ج -والدافع الثالث إلى النحل أدنيّ فنيّ خالص، يتصل بالأخبار والقصص القديمة التي كان العرب حراصاً على روايتها، حراصاً على تجميلها بالشعر ليكون وقعها في النفوس أعمق وأعلق من القصص الخالصة.
ورأى طه حسين (أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل، أو إلى قائل مجهول إنما هو شعر مصنوع موضوع نحل نحلاً)، ورأى أن طائفة من القصائد المتقنة الافتراء (خدعت فريقاً من العلماء، فقبلوها على أنها صدرت عن العرب حقاً).
د -وللشعوبية التي اتخذت مظهراً سياسياً واجتماعياً في آن واحد أثرُها القوي في نحل الشعر، واختلاق المقطّعات التي تحطّ من شأن العرب، وتعلي أقدار غيره وتدفع خصوم الشعوبية من العرب إلى مجابهة الوضع بالوضع، قال طه حسين: (نحن نعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد نحلوا أخباراً وأشعاراً كثيرة، وأضافوها على الجاهليين والإسلاميين. ولم يقف أمرهم عند نحل الأخبار والأشعار، بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى النحل والإسراف فيه).
هـ -والدافع الأخير الذي نختاره من كتاب طه حسين (في الأدب الجاهلي) هو مفاخرة الرواة بما يحفظون، ورغبتهم في التكسّب بشعر يخترعونه، ويتوددون به إلى ذوي الثراء والشأن، أو تأثرهم بالمناخ السياسي والاجتماعي الذي يكنفهم، فهؤلاء الرواة (بين اثنين: إمّا أن يكونوا من العرب فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب، وإما أن يكونوا من الموالي فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة) والنتيجة في الحالين الوضع والتزيّد.
ولا يفهمنّ من آراء طه حسين أن الريبة القاتلة سرت في أوصال الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي. فإن هذه الآراء أثارت النقاد والكتاب، فعكفوا عليها يدرسونها، ويكشفون عن مراميها البعيدة، ويدحضون ما فيها من غُلو وشطط.
واختلفت أشكال الرد وطرائقه: بين إغارة صاعقة كرد مصطفى صادق الرافعي، ودراسة متأنية رَزان كرد محمد أحمد الغمراوي. وبين مقالة في جريدة، وبحث مفصل في كتاب كامل. وتمخضت هذه المعركة القلمية عن انقشاع سحب الشك التي غشيت هذا الشعر فترة قصيرة، وعن عودة الأدب الجاهلي شعره ونثره إلى موضعه الصحيح من تاريخ الأدب العربي، لا تعرو الريبة غير مقطعات يسيرة منه نبّه عليها الرواة من قديم، وبقيت كثرته الكاثرة صحيحة موثوقة، يُجمع المحدثون على براءتها من الافتراء والنحل، ولم يزدها اختلاف الناس فيها إلا رسوخاً وشموخاً.
خاتمة
في الختام، يمكن القول إن قضية نحل ووضع الشعر الجاهلي قد مرت بمراحل مد وجزر، بدأت بشكوك قوية أثارها طه حسين، لتنتهي بتأكيد معظم الدراسات على أصالة الجزء الأكبر من هذا التراث الأدبي العظيم. فبينما لا يمكن إنكار وجود بعض النصوص المنحولة أو الموضوعة، فإنها تبقى بمثابة الشذرات القليلة التي لم تستطع أن تطمس بريق الغالبية العظمى من الشعر الجاهلي، الذي ظل شامخًا كشاهد حي على فصاحة اللغة العربية وبلاغة أهلها في تلك الحقبة الزمنية الهامة. لقد أثبتت المعركة القلمية التي خاضها النقاد والعلماء أن التمحيص الدقيق والبحث العلمي الرصين قادران على كشف الزيف وإجلاء الحقيقة، ليظل الشعر الجاهلي نبراسًا يضيء لنا دروب الأدب العربي وتاريخه العريق.
الأسئلة الشائعة
ما المقصود بمصطلحي “النحل” و”الوضع” في سياق الشعر الجاهلي؟
الإجابة: يشير مصطلح “النحل” في هذا السياق إلى عملية عزو نصوص أدبية قديمة، وخاصة الشعر، إلى غير أصحابها الأصليين من شعراء العصر الجاهلي. أما مصطلح “الوضع” فيعني اختلاق نصوص شعرية جديدة في عصور لاحقة ونسبتها زورًا إلى شعراء جاهليين. الفرق الأساسي يكمن في أن “النحل” يتعلق بنقل عمل موجود إلى شخص آخر، بينما “الوضع” يتعلق بإنشاء عمل جديد ونسبته إلى الماضي.
من هو طه حسين، وما هو دوره في النقاش حول الشعر الجاهلي؟
الإجابة: طه حسين (1889-1973) هو أديب ومفكر مصري بارز، يُعد من أهم أعلام النهضة الأدبية في مصر والعالم العربي. لعب دورًا محوريًا في النقاش حول الشعر الجاهلي من خلال كتابه الشهير “في الأدب الجاهلي” الذي صدر في عام 1926. طرح حسين فيه آراءً جريئة شككت في صحة نسبة الكثير من الشعر المتداول إلى العصر الجاهلي، مما أثار جدلاً واسعًا ومعارك فكرية حادة.
ما هي أهم الدوافع التي ذكرها طه حسين لوقوع النحل والوضع في الشعر الجاهلي؟
الإجابة: ذكر طه حسين عدة دوافع رئيسية، أبرزها:
- الدوافع السياسية: حيث كانت القبائل المتنافسة في فترة الصراع على الخلافة تختلق أشعارًا وتنسبها إلى أسلافها لتعزيز مجدها وتاريخها.
- الدوافع الدينية: مثل محاولة إرضاء العامة بالمعجزات، أو تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال نسبه، أو تفسير قصص القرآن بأشعار منسوبة إلى الأمم البائدة.
- الدوافع الفنية والأدبية: حيث كان الرواة والقُصّاص يضيفون الشعر إلى الأخبار والقصص القديمة لجعلها أكثر تأثيرًا وجاذبية.
- الدوافع الشعوبية: حيث كانت بعض الجماعات غير العربية تختلق أشعارًا تحط من شأن العرب وتمجد غيرهم، مما دفع بعض العرب إلى الرد بالمثل.
- مفاخرة الرواة ورغبتهم في التكسب: حيث كان بعض الرواة يخترعون أشعارًا ليتباهوا بحفظهم أو ليتقربوا بها إلى الأثرياء وأصحاب النفوذ.
هل كان طه حسين يعتقد أن كل الشعر الجاهلي منحول أو موضوع؟
الإجابة: لم يذهب طه حسين إلى حد إنكار وجود أي شعر جاهلي أصيل. ولكنه كان يرى أن نسبة كبيرة من الشعر المتداول على أنه جاهلي مشكوك في صحتها. وقد دعا إلى ضرورة إخضاع هذا الشعر للتمحيص النقدي الدقيق وعدم التسليم بصحته لمجرد نسبته إلى تلك الفترة.
ما هي أهم الردود التي وجهها النقاد لآراء طه حسين حول الشعر الجاهلي؟
الإجابة: واجهت آراء طه حسين ردودًا قوية من العديد من النقاد والعلماء، الذين دافعوا عن أصالة الشعر الجاهلي. من أبرز هذه الردود:
- الاعتماد على الرواية الثابتة: حيث أكدوا على أن الشعر الجاهلي وصل إلينا عبر روايات متواترة وموثوقة من قبل علماء ثقات.
- تحليل اللغة والأسلوب: حيث أشاروا إلى أن خصائص اللغة والأسلوب في الشعر الجاهلي تتفق مع ما هو معروف عن تلك الفترة وتختلف عن لغة العصور اللاحقة.
- الاستشهاد بالشواهد التاريخية: حيث استدلوا ببعض الأحداث والشخصيات المذكورة في الشعر الجاهلي والتي تتوافق مع معلومات تاريخية أخرى.
- رفض التعميم: حيث رأوا أن وجود بعض النصوص المنحولة لا يعني بالضرورة أن كل الشعر الجاهلي مشكوك فيه.
ما هو الأثر الذي أحدثته آراء طه حسين في دراسة الأدب الجاهلي؟
الإجابة: على الرغم من الجدل الذي أثارته آراء طه حسين، إلا أنها كان لها أثر إيجابي كبير على دراسة الأدب الجاهلي. فقد دفعت النقاد والباحثين إلى إعادة النظر في الموروث الأدبي بعين ناقدة، وإلى تطوير مناهج البحث وأدوات التحليل الأدبي. كما ساهمت في إثراء النقاش الأكاديمي وتشجيع البحث عن أدلة جديدة تدعم أو تدحض صحة نسبة الشعر الجاهلي.
هل يتفق العلماء المعاصرون بشكل عام مع تقييم طه حسين للشعر الجاهلي؟
الإجابة: لا يتفق العلماء المعاصرون بشكل كامل مع تقييم طه حسين. فبينما يُقر الكثيرون بوجود بعض النصوص المنحولة أو الموضوعة، إلا أنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن الجزء الأكبر من الشعر الجاهلي المتداول هو أصيل وصحيح. وقد توصلت الدراسات الحديثة إلى أدلة لغوية وأسلوبية وتاريخية تدعم هذه الرؤية.
بالإضافة إلى الدوافع السياسية والدينية، ما هي الأسباب الأخرى التي قد تكون أدت إلى نحل أو وضع الشعر؟
الإجابة: بالإضافة إلى الدوافع المذكورة، يمكن أن تشمل الأسباب الأخرى:
- الرغبة في إظهار البراعة اللغوية والأدبية: حيث كان بعض الشعراء أو الرواة يختلقون أشعارًا لإظهار قدرتهم على الإبداع.
- تلبية طلب الجمهور: حيث كان الجمهور في بعض الأحيان يفضل أنواعًا معينة من الشعر أو القصص، مما دفع البعض إلى اختلاقها ونسبتها إلى القدماء.
- التفسير والتوضيح: حيث كان البعض يضيفون أبياتًا شعرية لتوضيح أو تفسير بعض الأحداث أو الأفكار الواردة في النصوص القديمة.
كيف تعامل الرواة والعلماء الذين نقلوا الشعر الجاهلي مع مسألة احتمال النحل أو الوضع؟
الإجابة: لم يكن الرواة والعلماء الذين نقلوا الشعر الجاهلي غافلين عن احتمال النحل أو الوضع. فقد ذكر العديد منهم في رواياتهم إشارات صريحة إلى أن بعض الأبيات أو القصائد كانت موضوعة أو منحولة. كما وضعوا معايير للتحقق من صحة الشعر المروي، واعتمدوا على الثقة في الرواة وسلاسل السند.
ما هو الإجماع العلمي الحالي بشأن أصالة الشعر الجاهلي؟
الإجابة: الإجماع العلمي الحالي يميل إلى أن الغالبية العظمى من الشعر الجاهلي المتداول هي أصيلة وموثوقة. وبينما يُعترف بوجود بعض النصوص المنحولة أو الموضوعة، فإنها تعتبر استثناءً لا القاعدة. وقد ساهمت الدراسات اللغوية والأسلوبية والتاريخية الحديثة في تعزيز هذا الرأي، مع التأكيد على أهمية التمييز بين النصوص الصحيحة والمشكوك فيها من خلال البحث والتحليل النقدي المستمر.