مصادر الأدب الجاهلي: بين رمال الشك وجذور التوثيق

كيف انتقلت روائع الأدب الجاهلي عبر قرونٍ من التّيه في صحراء النسيان؟ وكيف حُفِظَت قصائدُ المعلّقات بين طيات الرّيح وألواح الذاكرة؟ بين دفّات القرآن الكريم، أوّل نصّ عربي مُدوَّن بمنهجيةٍ علمية، ورقاع الشعر الجاهلي المتناثرة، تكمن رحلةٌ مثيرةٌ تسبر أغوار تاريخ التدوين والرواية. هل كان العرب الجاهليون أمّةً شفويةً بلا كتابة؟ أم أنّ جذور التدوين تمتدّ إلى عصورهم؟ انطلاقاً من هذه التساؤلات، نغوص في عوالم مصادر الأدب الجاهلي، لنكتشف كيف تحوّل الشعرُ من صدى الصحراء إلى تراثٍ مكتوبٍ خالد.
يعدّ القرآن الكريم أول نص دوّنه العرب تدويناً علمياً صحيحاً، لا يعروه الشك والباطل، فقد تم تدوينه مُفَرَّقاً على ألواح ورقاع بعد نزوله منجماً، ثم أعيد تدوينه في مصاحف بأيدي الذين سمعوه من فم الرسول عليه السلام، وكتبوه، وقرؤوه عليه.
وبعد التدوين تناقله العلماء الأثبات الفصحاء من التابعين عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوصل إلينا متواتراً برسمه وحركاته وسكناته.
ولو فطِن الرواة وحَفَظَةُ الشعر والأدب والأخبار إلى تدوين الأدب الجاهلي على هذا النحو، أو على نحو قريب منه لوصلنا أكثر الأدب الجاهلي صحيحاً موثوقاً.
والحقّ أن كتب اللغة والشعر لم تظهر إلا بعد تدوين القرآن الكريم بقرن ونصف أي في نهاية القرن الثاني الهجري، أو مطلع القرن الثالث. وذهب قوم إلى أن المدونات الأولى لم تكن غير محاضرات ألقاها الرواة على تلاميذهم، ثم دوّنها هؤلاء التلاميذ في نهاية القرن الثالث، ونسبوها إلى شيوخهم.
ويقابل هذا الرأي رأي آخر يفتقر إلى ألية كافية، وهو أن التدوين قديم بدأ في العصر الجاهلي، ثم شُغِلَ عنه العرب، ثم جدده المتأخرون. ومما يحتج به أصحاب هذا الرأي تلك الصحيفة التي دونت فيها حكمة لقمان، وكانت عند سويد بن الصامت قبل أن يسلم.
ومن حججهم كذلك أن القصائد السبع أو العشر الطوال سمّيت (معلقات)؛ لأن عرب الجاهلية كانوا إذا استجادوا القصيدة كتبوها بماء الذهب وعلقوها على جدار الكعبة.
وإذا تراءى لبعض الدارسين أن يحيط كتابة المعلقات بسحاب الشك، فإن هذا السحاب لا يقوى على إغراق الحقيقة. فالعرب لم يكونوا جميعاً يجهلون الكتابة، وإذا جهلها أغمارهم ودهماؤهم فإن خاصّتهم – والشعراء خاصة الخاصة – عرفت الكتابة.
ومن شعراء المدينة الذين كانوا يكتبون: سويد بن صامت الأوسي، وعبد الله بن رواحة، والنابغة الذبياني. ومن الشعراء الذين كانوا كُتَّاباً بالعربية ومترجمين في بلاط فارس: لقيط بن يعمر الإيادي.
ومن الشعراء الذين تعلموا الخط والكتابة في مدارس الحيرة: المرقّش وأخوه حرملة.
والكتابة التي عرفها عرب الجاهلية نمطان: نمط بسيط كتبت به العهود، والرسائل، وأمور التجارة.
ونمط راق، وإليه نقصد في هذا البحث، ويمكن أن نسميه (التدوين).
وفي هذا النمط صورة الكتابة الأدبية، وبه انتقلت الكتابة من الصحف والرقاع المفردة إلى الدفتر والمجموع ((والفرق بين الصورتين – لغة واصطلاحاً – واضح، إذ إن الأولى لا تعني أكثر من مجرد التقييد العابر لما يعرض من شؤون الحياة، ولكن التدوين إنما يعني جمع الصحف، وضمّ بعضها إلى بعض، حتى يكون لنا منها ديوان، وهو مجتمع الصحف، ولا بد للتدوين من أن يكون عملاً مقصوداً متعمداً، يرمي إلى هذه الغاية)).
وسواء أثبت قِدم التدوين أم لم يثبت، فإن نشر الشعر في العصر الجاهلي نُدب له الرواة، إذ كان لكل شاعر راوية يصحبه ويذيع شعره في الناس وظل الرواة يتناقلون النصوص المحفوظة من العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي فالأموي بلا انقطاع.
وحينما بدأ التدوين في العصر العباسي أضاف الرواة إلى السماع والمشافهة الكتابة والتدوين، فقد كان الرواة كالأصمعي وأبي عمرو بن العلاء، وعبيدة مَعْمَر بن المثنى يرحلون إلى مضارب البدو، ويكتبون ما يسمعون، ثم يعودون إلى مجالس العلم ليملوا على تلاميذهم ما حفظوا وما كتبوا.
ثم دخلت رواية الشعر والأدب طوراً ثانياً، يسميه الدكتور ناصر الدين الأسد (دور الرواية العلمية). وفي هذا الدور أضاف المشتغلون بجمع الشعر إلى النسخ من الكتب المدونة تحقيق النصوص، وشرحها، وتفسير غريبها، كما يظهر ذلك في كتاب (الكامل للمبرّد).
ثم أضيفت الأسانيد إلى المتون لتوثيق الرواية، ولخلع الصبغة العلمية الصادقة على النصوص، وربما كان ذلك الصنيع تقليداً لما كان يفعله حفظة الحديث الشريف، ومصنفو كتب الطبقات.
وفي الفقرة التالية التي نقتبسها من طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلّام الجمحي (ت:٢٣١ هـ) توضيح للسند الذي يشفع به الراوي الرواية العلمية. جاء في هذا الكتاب: (أخبرنا أبو خليفة، حدثنا ابن سلام، قال: وأخبرني محمد بن سليمان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، قال: قدم كعب متنكراً…) وبعد هذا السند المتصل الحلقات يذكر ابن سلام إسلام كعبن ويروي لاميته المشهورة (بانت سعاد).
غير أن الحرص على توثيق الرواية بالسند جعل بعض المصنفين يثقلون مصنفاتهم بالأسانيد الطويلة، كأبي الفرج الأصفهاني (ت:٣٥٦هـ) في الأغاني، حتى خُيّل لبعض الناشرين في العصر الحاضر، أن حذف الأسانيد يسقط عن كاهل الكتاب حملاً يبهظه، ويريح القارئ من ذيولٍ تربكه.
مصادر الأدب الجاهلي
ويمكن تقسيم المصادر التي يستطيع الباحث أن يستقي منها الشعر الجاهلي إلى خمسة أقسام هي:
١ -الدواوين المفردة:
وقد دوّن بعضها في عصر صدر الإسلام، وأبعاض من بعضها في العصر الجاهلي، وأقرّ بصحتها علماء الطبقة الأول من الرواة، وشفع لصحتها أن كثيراً منها قد روي مسنداً. وأن بعضها قد رواه أكثر من راو ثقة، كديوان امرئ القيس، وديوان زهير بن أبي سلمى.
- دواوين القبائل: وهذه الدواوين مجموعة من الشعر تخص كل مجموعة منها قبيلة من قبائل العرب. وقد ذكر الحسن بن بشر الآمدي (ت:٣٧٠هـ) ما يقارب ستين مجموعة منها، ولعل أشهرها مجموعة أشعار الهذليين.
- المختارات: وهي دواوين لا يجمع بين قصائدها جامع واضح سوى ذوق من اختارها. ومن أشهر كتبها المطبوعة المفضّليات للمفضل بن محمد الضبي (ت:١٦٨هـ) وفيها مئة وست وعشرون قصيدة أكثرها من الشعر الجاهلي.
وديوان الحماسة لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت:٢٣١هـ) وجمهرة أشعار العرب المنسوبة إلى محمد بن أبي الخطاب القرشي.
٢ -كتب النحو واللغة
ومن أقدمها (الكتاب) لسيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر (ت:١٨٠هـ) وكتاب (إصلاح المنطق) و(تهذيب الألفاظ) لابن السكيت يعقوب بن إسحاق (ت: ٢٤٤هـ).
وهذه الكتب حافلة بالشعر الجاهلي الذي يحتج به النحاة وعلماء اللغة.
٣ -كتب السيرة والمغازي وأيام العرب والتاريخ والأدب والأمثال. ففي هذه الكتب شعر جاهلي كثير، يساق مساق الشواهد في كتب النحو لتأييد فكرة، أو توثيق حادثة، أو الإشادة بمأثرة من مآثر العرب. وهذه الكتب منبع ثرٌّ يستقي منه الباحث فنون الأدب الجاهلي الأخرى، كالخطب، والقصص، والأمثال والوصايا.
وما خصصنا مصادر الشعر بالعناية إلا لأن الشعر ديوان العرب، فيه أكثر أدبهم، وعليه الاعتماد الأول في دراسة نحوهم ولغتهم. وفي صحته اختلف الرواة الأقدمون والدارسون المحدثون. فما مبلغ صحة الأدب الجاهلي بعامّة، وما مبلغ صحة الشعر الجاهلي بخاصة؟
خاتمة
عبر رحلةٍ بين الرّواة الأوائل والمصنّفين العباسيين، تتبيّن لنا ثراءُ مصادر الأدب الجاهلي، رغم ما يحيط بها من ضبابيةٍ وشكوك. فمن دواوين القبائل إلى كتب السّير، ومن ألواح الحيرة إلى مخطوطات الأصفهاني، تشكّل هذه المصادر جسراً نعبرُه لفهم روح العصر الجاهلي. وإن اختلفت الآراء حول صحّة كل نصّ، يبقى هذا التراثُ شاهدا على إبداعٍ لغويٍّ تحوّل بفضل التدوين من زفراتٍ عابرةٍ إلى إرثٍ إنسانيٍّ خالد. فهل نستطيع اليومَ فكَّ شفرات الماضي دون هذه المصادر؟!
الأسئلة الشائعة
ما أوّل نصّ عربي دُوّن تدوينًا علميًا؟
–الإجابة: القرآن الكريم هو أوّل نص عربي دُوّن تدوينًا علميًا دقيقًا، حيث كُتب على ألواحٍ ورِقاع بعد نزوله مُنجَّمًا، ثم جُمِع في مصاحف موحَّدة بأيدي الصحابة وتناقله العلماء عبر الأسانيد المتواترة.
هل عَرَف العرب الجاهليون الكتابة؟
–الإجابة: نعم، عَرَفَت النخبة من العرب الكتابة، خاصة الشعراء وكُتّاب العهود والتجارة. ومن الأمثلة: سويد بن الصامت، والمرقّش الأكبر، ولقيط بن يعمر الإيادي الذي عمل في بلاط فارس.
ما الفرق بين “التقييد العابر” و”التدوين” في العصر الجاهلي؟
–الإجابة: التقييد العابر: تسجيل أمور عابرة كالرسائل والتجارة. أما التدوين: فهو جمع الصحف وترتيبها في دواوين مُنظمة، وهو عملٌ مقصودٌ يهدف لحفظ التراث.
كيف انتقل الشعر الجاهلي إلينا؟
–الإجابة: انتقل عبر الرواة الذين حفظوه شفويًّا ونشروه، ثم دُوّن في العصر العباسي. وأضاف العلماء لاحقًا الأسانيد والشروح لتحقيق النصوص، كما في كتاب “الكامل” للمُبرّد.
ما أبرز مصادر الشعر الجاهلي؟
–الإجابة: تنقسم المصادر إلى:
الدواوين المُفرَدة (كديوان امرئ القيس).
دواوين القبائل (كأشعار الهذليين).
المختارات الشعرية (كالمفضّليات وحماسة أبي تمام).
كتب النحو واللغة (كـ”الكتاب” لسيبويه).
كتب السيرة والتاريخ (كـ”الأغاني” للأصفهاني).
هل صحيح أن المعلّقات كُتبت بماء الذهب وعلّقت على الكعبة؟
–الإجابة: هذا رأيٌ يذكره بعض المؤرخين كدليل على وجود التدوين الجاهلي، لكنه مُثارٌ حوله الجدل. بينما يؤكد المقال أن العرب لم يكونوا جميعًا أميين، وخاصة النخبة منهم.
ما دور الأسانيد في توثيق الشعر الجاهلي؟
–الإجابة: الأسانيد سلاسل نقل تُضاف إلى النصوص لضبط صحتها، مثل: “أخبرنا فلان عن فلان”. وقد اقتبسها أدباء كالأصفهاني من منهج علماء الحديث.
لماذا تأخّر تدوين الأدب الجاهلي حتى القرن الثالث الهجري؟
–الإجابة: لأن العرب اعتمدوا على الرواية الشفوية أولًا، واهتمّوا بتدوين القرآن أولاً. ثم بدأ تدوين الأدب مع ازدهار العلوم في العصر العباسي.
ما أبرز التحديات في دراسة الشعر الجاهلي؟
–الإجابة: اختلاط الصحيح بالمنحول، واعتماد النصوص على الذاكرة الشفوية لفترة طويلة، واختلاف منهجيات النقد بين الرواة القدامى والمحدثين.
هل يُعتبر الشعر الجاهلي مصدرًا موثوقًا لدراسة اللغة العربية؟
–الإجابة: نعم، فهو أساسٌ لدراسة النحو والصرف، إذ احتجّ به علماء كسيبويه وابن السكيت، لكن مع وجود تحفّظات حول بعض النصوص غير المُؤكَّدة.