فيكتور شكلوفسكي: من هو رائد الشكلانية الروسية وما فلسفته في الأدب؟
كيف أعاد شكلوفسكي صياغة نظرتنا للنص الأدبي وجماليات اللغة؟

يمثل فيكتور شكلوفسكي أحد أبرز الأصوات النقدية التي هزّت أركان الدراسات الأدبية في القرن العشرين. لقد كان هذا الناقد الروسي صاحب رؤية ثورية غيّرت طريقة قراءتنا للنصوص الأدبية إلى الأبد.
من هو فيكتور شكلوفسكي وما جذوره الفكرية؟
وُلد فيكتور بوريسوفيتش شكلوفسكي عام 1893 في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، في عصر كانت فيه روسيا تشهد تحولات سياسية وثقافية عميقة. نشأ في بيئة ثقافية غنية، إذ كان والده معلماً وصاحب اهتمامات أدبية واسعة؛ وهو ما أثّر بشكل كبير في تكوين شخصيته الفكرية المبكرة. التحق شكلوفسكي بجامعة سانت بطرسبرغ لدراسة فقه اللغة، ولكن شغفه الحقيقي كان في استكشاف الأدب من زوايا جديدة لم يألفها النقاد التقليديون.
بالإضافة إلى ذلك، عاش فيكتور شكلوفسكي فترات تاريخية مضطربة شملت الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية عام 1917. شارك في الحرب كمتطوع، ثم انخرط لاحقاً في الأحداث الثورية، مما جعله شاهداً حياً على التحولات الجذرية التي غيّرت وجه روسيا. هذه التجارب الحياتية القاسية لم تكن مجرد أحداث عابرة؛ بل شكّلت رؤيته للفن والأدب كوسائل لإعادة تشكيل الإدراك الإنساني.
ما هي الشكلانية الروسية ودور شكلوفسكي فيها؟
تُعَدُّ الشكلانية الروسية (Russian Formalism) واحدة من أكثر المدارس النقدية تأثيراً في تاريخ النقد الأدبي الحديث، وكان فيكتور شكلوفسكي أحد مؤسسيها البارزين. في عام 1916، أسس مع مجموعة من الباحثين الشباب “جمعية دراسة اللغة الشعرية” (OPOYAZ) في بطروغراد، وهي الحلقة التي أصبحت نواة الحركة الشكلانية. فما هي الفكرة المحورية لهذه المدرسة؟ الإجابة تكمن في التركيز على “الأدبية” (Literariness) – أي ما يجعل النص الأدبي أدبياً، وليس مجرد كلام عادي.
كان شكلوفسكي يرفض المناهج التقليدية التي تعامل الأدب كوثيقة اجتماعية أو انعكاس للواقع. بالمقابل، دعا إلى دراسة البنية الداخلية للنص، التقنيات الفنية، والأشكال اللغوية التي تميزه. إن الأدب عنده ليس وسيلة لنقل الأفكار فحسب، بل هو صناعة لغوية لها قوانينها الخاصة وآلياتها المستقلة. هذا وقد اعتبر الشكلانيون الروس أن وظيفة الناقد الأدبي هي تحليل هذه الآليات والكشف عنها، وليس البحث عن المعاني الخفية أو النوايا النفسية للمؤلف.
ما مفهوم الاغتراب عند شكلوفسكي ولماذا يُعَدُّ ثورياً؟
الاغتراب: إحياء الإدراك المتبلد
يُمثل مفهوم “الاغتراب” أو “الغرابة” (Ostranenie) – والذي يُترجم أحياناً إلى “التغريب” أو “إزالة الألفة” (Defamiliarization) – أهم إسهامات فيكتور شكلوفسكي في النظرية الأدبية. طرح هذا المفهوم لأول مرة في مقاله الشهير “الفن كأسلوب” عام 1917، وكان بمثابة زلزال فكري في عالم النقد الأدبي. فما هي الفكرة المحورية هنا؟
يقول شكلوفسكي إن الحياة اليومية تجعلنا نرى الأشياء بطريقة آلية ميكانيكية؛ نمر بجوار الأشياء دون أن نراها حقاً. إذاً كيف يمكن إعادة إحياء إدراكنا المتبلد؟ هنا يأتي دور الفن والأدب. إن وظيفة الأدب الحقيقية – وفقاً لشكلوفسكي – هي جعل الأشياء المألوفة غريبة، إبطاء عملية الإدراك، وإجبارنا على رؤية العالم بعيون جديدة. من خلال أساليب فنية متنوعة مثل:
- استخدام وجهات نظر غير مألوفة (كوصف حصان من منظور حصان نفسه)
- تعقيد اللغة وجعلها صعبة بعض الشيء لإبطاء القراءة
- استخدام الاستعارات والصور الغريبة التي تكسر التوقعات
- تغيير الترتيب الزمني للأحداث أو تقديمها بطرق غير تقليدية
- الإطالة والتفصيل في وصف أمور عادية لإبراز جوانب مخفية منها
التطبيقات العملية للاغتراب
استشهد فيكتور شكلوفسكي بأمثلة عديدة من الأدب الروسي، وأبرزها أعمال ليو تولستوي. في قصة “خولستومير” لتولستوي، يروي الحصان قصته بنفسه، مما يجعلنا نرى المؤسسات الإنسانية مثل الملكية الخاصة كأشياء غريبة وغير منطقية. كما أن تولستوي في رواياته الكبرى كثيراً ما يصف الأحداث بطريقة تجردها من سياقها المألوف – كما في وصفه للأوبرا كأصوات غريبة وحركات لا معنى لها.
بينما كان النقاد التقليديون يبحثون عن “الواقعية” في الأدب، كان شكلوفسكي يؤكد أن قيمة الأدب تكمن في كونه “غير واقعي” بالمعنى الحرفي؛ في قدرته على كسر الرؤية الآلية للواقع وإعادة بنائه بصورة جديدة. إن الأدب العظيم يجعلنا نتعثر في القراءة، نتوقف، نفكر، ونشعر بالأشياء وكأننا نراها للمرة الأولى.
كيف كتب شكلوفسكي أعماله الأدبية وما طبيعتها؟
لم يكن فيكتور شكلوفسكي ناقداً نظرياً فحسب، بل كان أيضاً كاتباً مبدعاً بأسلوب فريد يعكس نظرياته. كتب العديد من الأعمال التي تمزج بين السيرة الذاتية، النقد الأدبي، والتأملات الفلسفية بطريقة تكسر الحدود التقليدية بين الأنواع الأدبية. من أشهر أعماله “حديقة الحيوان: رسائل ليست عن الحب” (Zoo, or Letters Not About Love) الذي كتبه عام 1923 أثناء منفاه في برلين؛ وهو عمل يجمع بين رسائل الحب، التأملات النقدية، والملاحظات عن المنفى بأسلوب تجريبي جريء.
كذلك كتب “الرحلة العاطفية” (A Sentimental Journey)، وهو عمل سردي يروي فيه تجاربه خلال الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية. ما يميز كتابات شكلوفسكي الإبداعية هو أنها تطبيق عملي لنظرياته؛ فهي تستخدم تقنيات الاغتراب، تكسر التوقعات السردية، وتقدم الأحداث بطرق غير مألوفة. إن قراءة أعماله الأدبية توفر فهماً عميقاً لأفكاره النقدية أكثر من قراءة مقالاته النظرية وحدها.
ما منهج شكلوفسكي النقدي وكيف يختلف عن المناهج الأخرى؟
يقوم المنهج النقدي لفيكتور شكلوفسكي على عدة مبادئ أساسية تميزه عن المدارس النقدية السابقة واللاحقة. أولاً، رفض المنهج التاريخي الاجتماعي الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر، والذي كان يدرس الأدب كانعكاس للظروف الاجتماعية والتاريخية. على النقيض من ذلك، أصر شكلوفسكي على أن الأدب له قوانينه الداخلية المستقلة، وأن دراسته يجب أن تركز على خصائصه الشكلية والبنيوية.
ثانياً، اهتم بمفهوم “الحبكة” (Syuzhet) مقابل “القصة” (Fabula). القصة هي الأحداث بترتيبها الزمني الطبيعي، بينما الحبكة هي الطريقة الفنية التي يعيد بها الكاتب ترتيب هذه الأحداث وتقديمها. فقد كان يرى أن الأدب الحقيقي يكمن في التلاعب الإبداعي بالحبكة، وليس في القصة نفسها. من ناحية أخرى، طور شكلوفسكي مفاهيم مثل “التباطؤ” (Retardation) و”الانحراف” (Deviation) لوصف التقنيات التي يستخدمها الكتّاب لتأخير الحل وزيادة التشويق.
ما أهم كتب شكلوفسكي ومساهماته النظرية؟
الأعمال النقدية الكبرى
أنتج فيكتور شكلوفسكي على مدار حياته الطويلة – توفي عام 1984 عن عمر يناهز 91 عاماً – عشرات الكتب والمقالات التي أثرت المكتبة النقدية العالمية. من أهم أعماله النظرية:
- “نظرية النثر” (Theory of Prose): كتاب صدر عام 1925 ويُعَدُّ من أهم النصوص الشكلانية، يحلل فيه تقنيات السرد الروائي والقصصي
- “الفن كأسلوب” (Art as Technique): المقال التأسيسي الذي قدم فيه مفهوم الاغتراب
- “حول نظرية النثر” (On the Theory of Prose): توسيع لأفكاره حول البنية السردية
- “الهامبرغر والشطرنج” (Hamburg Account): تأملات في الحياة والفن والسينما
- “ستيرن وتريسترام شاندي” (Sterne’s Tristram Shandy): دراسة معمقة لرواية لورنس ستيرن كنموذج للشكلانية
التأثير على السينما والفنون الأخرى
لم يقتصر تأثير شكلوفسكي على النقد الأدبي فحسب؛ بل امتد إلى السينما والفنون الأخرى. كتب العديد من الدراسات عن نظرية الفيلم، وكان صديقاً للمخرج السوفييتي الشهير سيرغي آيزنشتاين. الجدير بالذكر أن مفاهيمه عن المونتاج والاغتراب أثّرت بشكل عميق في تطور السينما السوفييتية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. كما أن أفكاره حول التقنيات الفنية أثّرت على المسرح، خاصة في أعمال برتولت بريخت وتقنياته في “التغريب” المسرحي.
كيف تأثر النقد الأدبي العالمي بأفكار شكلوفسكي؟
يمكن القول دون مبالغة إن فيكتور شكلوفسكي أحد الآباء الفكريين للنقد الأدبي الحديث. لقد مهدت الشكلانية الروسية الطريق للبنيوية الفرنسية في الخمسينيات والستينيات، إذ تأثر رولان بارت وجيرار جينيت وتودوروف بأفكار الشكلانيين الروس؛ بل إن تزفيتان تودوروف هو من ترجم نصوصهم إلى الفرنسية وقدمهم للغرب.
وبالتالي، فإن مفهوم الاغتراب أصبح أداة تحليلية أساسية في دراسة الأدب الحديث وما بعد الحديث. هل سمعت بمصطلح “الميتا-سرد” (Metafiction) في الرواية المعاصرة؟ إن جذوره تعود جزئياً لأفكار شكلوفسكي حول كشف التقنيات الفنية وعدم إخفائها. كما أن النقد الجديد الأمريكي (New Criticism) تقاطع مع الشكلانية في التركيز على النص نفسه بمعزل عن سياقاته الخارجية.
من جهة ثانية، تعرضت أفكار شكلوفسكي لانتقادات أيضاً. اتُهم الشكلانيون بالشكلانية المفرطة (بالمعنى السلبي) وإهمال البعد الإنساني والاجتماعي للأدب. في الثلاثينيات، تعرضت الحركة الشكلانية لضغوط سياسية شديدة من النظام السوفييتي الذي فضّل “الواقعية الاشتراكية”، مما اضطر شكلوفسكي لتعديل بعض آرائه والتراجع ظاهرياً عن بعض أفكاره المبكرة.
ما الإرث الدائم لشكلوفسكي في عصرنا الحالي؟
في عصرنا الرقمي، حيث نتعرض لكم هائل من المعلومات والصور التي تمر أمامنا بسرعة مذهلة، تبدو أفكار فيكتور شكلوفسكي أكثر صلة من أي وقت مضى. فهل يا ترى أن مفهوم الاغتراب يقدم لنا مفتاحاً لمقاومة الاستهلاك الآلي للمحتوى؟ برأيكم ماذا يحدث عندما نتوقف لحظة ونرى الأشياء المألوفة بعيون جديدة؟ الإجابة هي: نستعيد قدرتنا على الشعور والتفكير الحقيقيين.
إن إرث شكلوفسكي لا يقتصر على النقد الأدبي الأكاديمي؛ بل يمتد إلى كل من يهتم بالفن والإبداع. الكتّاب اليوم، سواء في الرواية أو السيناريو أو حتى كتابة المحتوى الإبداعي، يستفيدون من مفاهيمه حول كسر التوقعات وتجديد الإدراك. المصممون والفنانون البصريون يطبقون مبادئ الاغتراب في أعمالهم لجذب الانتباه وإثارة التفكير. حتى في التعليم، يمكن استخدام أفكاره لجعل التعلم أكثر فاعلية من خلال تقديم المعلومات بطرق غير متوقعة.
الخاتمة
لقد كان فيكتور شكلوفسكي أكثر من مجرد ناقد أدبي؛ كان فيلسوفاً للإدراك، مجدداً للطريقة التي نفهم بها علاقتنا بالفن واللغة. عاش حياة حافلة بالمغامرات والتحديات، من الحرب والثورة إلى المنفى والعودة، ومع ذلك لم يتوقف عن الكتابة والتفكير حتى أيامه الأخيرة. ومما يثير الإعجاب أن أفكاره التي طرحها قبل أكثر من قرن لا تزال تلهم الباحثين والمبدعين حول العالم.
إن قيمة شكلوفسكي الحقيقية لا تكمن فقط في نظرياته المحددة، بل في دعوته الدائمة لنا للنظر إلى العالم بعيون جديدة، لرفض الآلية والرتابة، وللبحث عن الغرابة في قلب المألوف. في عالم يزداد تشابهاً ونمطية، تبقى رسالته ضرورية ومُلهِمة.
هل أنت مستعد لتطبيق مفهوم الاغتراب في حياتك اليومية، والنظر إلى الأشياء العادية من حولك بعيون مندهشة كأنك تراها للمرة الأولى؟