غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي: دراسة تحليلية للذوق الجمالي العربي

مقدمة في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي
يُعد غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي من أجود أنماط الشعر الغزلي وأقربها إلى جوهر الفن، حيث يتميز بقدرته الفائقة على مزج الجمالين: جمال الطبيعة وجمال المرأة. إن هذا اللون الشعري، وهو غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي، يُعتبر الأنجع في الكشف عن الذوق العربي الأصيل في تصوّر الجمال وتصويره. إن تحليل غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي يكشف عن أبعاد فنية وثقافية عميقة.
لقد تم التطرق سابقاً إلى ولع الشاعر العربي بالطبيعة، سواء في عناصرها الجامدة أو الحية، وقد عُرضت صور متعددة من هذا الوصف الذي رسم فيه الشاعر الصحراء بكثبانها وغدرانها، والسماء بغيومها ونجومها، والحيوان ببرّيه وأليفه. وقد لوحظ كيف أحب الشاعر الجاهلي بيئته على الرغم مما فيها من قسوة وجفاف، وهو ما انعكس بوضوح في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي.
غير أن الطبيعة، على الرغم من حسنها وجمالها، لم تكن كافية لتروي ظمأ الشاعر، ولم تغنه عن جمال الأنثى الذي كان يمثل في وجدانه المثل الأعلى للجمال. ففي صميم غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي، كان جمال المرأة هو المحور الذي يتغنى به الشاعر، ويُسَخِّر لإبرازه كل ما في الطبيعة من عناصر مثل الأشجار والأزهار والدر والجوهر والظباء والجآذر والنعام والحمام. إن غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي استخدم الطبيعة كأداة لوصف المرأة.
فبشرة المرأة في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي تُشبّه ببيض النعام، وعينها بعين المهاة، وشعرها بقنو النخلة، وساقها بالقصبة الروية، وقامتها كالغصن، ومحياها كالشمس، وأناملها كريش اليمامة، وأسنانها كالبرد أو الأقحوان. بعبارة موجزة، يمكن القول إن الشاعر قد اختصر الطبيعة بأكملها فكانت المرأة، وصور الجمال كله فكان جمالها، وهذا هو جوهر غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي.
الصورة النموذجية للمرأة في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي
لقد استخلص الدكتور نصرت عبد الرحمن، بالاعتماد على أشعار غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي، صورة للمرأة العربية ذات الجمال التام كما صوّرها الجاهليون. تتمثل هذه الصورة في امرأة «بيضاء البشرة أو صفراء، أو بيضاء مشربة بالصفرة، وليست سوداء. وهي بادن القدّ، ليست نحيلة ولا جبلة، وقامتها نياف “طويلة مشرعبة”، قد جمعت المدادة والجهارة. وهي مصقولة الترائب، جماء التراقي، ريانة غير زلاء، جيداء، ممتلئة الذراعين ريا المعصمين، ودرماء المرفقين، نبيلة موضع الحجلين، ريانة الساقين والقدمين. لها خصر دقيق، وكشح هضيم أملس ذو عكن وغير مفاضة، حتى إذا قامت كاد خصرها ينقصف. ولها شعر أسود وارد أثيث، ووجه أغر نقي اللون، غير محدد، أصلت، لم يعبه الحف، وعينان كحيلان فيهما فتور وحور، وخد أسيل وجبين حسن أبلج، وأنف أشم. وهي في فمها حواء لمياء، لثاتها حمش سود مخضلة بالريق، وأسنانها مؤشرة بيض مفلجة رتل، قد تناغم نبتها، ولم يعبها طول أو انقضام، وهو خَصِر شبم لذيذ المذاق طيب الرائحة. أما كفها فمخضبة رخصة غير موشومة، وأناملها سباط خصيب، وهي على العموم برهرة بهكنة رؤدة، خرعوب، رخصة هركولة. وهي نؤوم الضحى راقدة الصيف منعمة من سروات النساء. وحديثها لذيذ، وصوتها خفيض لا تفحش فيه ولا تنشر الأسرار في الحي. وهي غير قطوب». وهذا التوصيف الدقيق هو خلاصة غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي.
اقرأ أيضاً: غزل المطالع في الشعر الجاهلي: دراسة تحليلية في بنية القصيدة الجاهلية
لقد قام الدكتور نصرت عبد الرحمن بتلخيص جوهر غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي، فاستخرج خلاصته التي تمثلت في هذه القسمات الجمالية. تُعتبر هذه القسمات عامة، ويمكن القول إنها تمثل ربة الجمال في العصر الجاهلي كما كانت في الواقع أو كما أراد لها الشعراء أن تكون في خيالهم. ومع ذلك، لم يكن الشعراء يلتقون جميعاً عند هذا التصور الموحد، بل كانوا يشتركون في رسم إطاره العام، ثم يختلفون في جوانب كثيرة من جزئيات التصور والتصوير، وهو اختلاف تظهر فيه أذواقهم الخاصة. وتتجلى هذه الأذواق في تناولهم للمعنى الواحد والتعبير عنه بأشكال مختلفة، وهذا لا يعني الخروج على المثل الأعلى للجمال، بل يدل على تعدد الأذواق، وتأثر بعضهم بالبداوة وبعضهم الآخر بالحضارة. إن فهم غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي يتطلب إدراك هذا التنوع. ولعل في توضيح بعض الشواهد دليلاً على هذا التعدد في الفروع، والتوحد في الأصل الذي يميز غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي.
تأثير البداوة والحضارة على غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي
وصف المرقش الأصغر وجه صاحبته الأبيض وشعرها الأسود، فاكتفى بتشبيه ضفائرها بالحبال، وهي صورة بدوية جافة تعكس بيئته، مما يوضح جانباً من غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
ألا حبَّذا وجه ترينا بياضه *** ومنسدلاتٍ كالمثاني فواحا
بينما تناول امرؤ القيس المعنى نفسه، فجعل وجه صاحبته الغارق في شعرها الأسود كمصباح راهب يضيء ظلام الليل، فكان أقرب إلى الحضارة، مما يمثل تطوراً في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
تضيء الظلام بالعِشَاء كأنها *** منارة لمسى راهب منبتل
ورسم شعرها الفاحم الذي ينسدل بعضه على كتفيها، ويُعقص بعضه بالأمشاط، فجعله كقِطْفِ النخلة المتداخل، وبذلك مزج بين الحضارة والبداوة دون أن يخرج على المعنى العام، وهذا من روائع غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
وفرعٍ يزينُ المتنَ أسودَ فاحمٍ *** أثيث كقنو النخلة المتَعثكل
غدائرهُ مُستَشزراتٌ إلى العُلا *** تضلّ المَدارىَ في مُثَنَى ومرسل
وتحدث امرؤ القيس عن بياض البشرة المشوب بصفرة، فقرنه ببيض النعام ليكون أقرب إلى البداوة، وعن إشراق الصدر والنحر فاستمده من لمعان المرآة ليكون أقرب إلى الحضارة، مما يعكس غنى غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
هَفَهُفَةٌ بيضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ *** تراثيها مصقولة كالجَنْجَل
کبکرِ المقاناةِ البياض بصفرةٍ *** غذاها نميرُ الماءِ غيرُ المحلّلِ
وتناول النابغة الذبياني هذا المعنى عينه، لكنه استعار لبشرة المتجردة، التي خالط بياضها الناصع صفرة وحمرة، العديد من أدوات الحضارة. فجعلها، وهي تتراءى من خلف النسيج الرقيق، كالشمس المشرقة والدرة الصافية والتمثال المنحوت من المرمر، وهي صور مترفة تليق بغانية في قصر ملك، ليرتقي بذلك بـ غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
قامت تراءى بين سجفي كلّة *** كالشمس يوم طلوعِها بالأسعد
أو درّةٍ صدفيةٍ، غوّاصُها *** بَهجٌ، متى يرها يَهِلّ ويسجد
أو دُميةٍ من مرمرٍ مرفوعةٍ *** بُنيَت بآجرٌ يُشَاءُ وَقَرْمَدُ
لكن صور الحضارة الطارئة على الشعر الجاهلي بقيت وشياً غريباً يزين جوهره البدوي ولا يفسده. وبقي الشعراء المتأثرون بالحضارة يرسمون جمال المرأة بخطوط وأصباغ بدوية يستمدونها من الصحراء، وهذا هو الطابع الغالب على غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي. وصف امرؤ القيس صاحبته فجعل خصرها الضامر كالحبل، وساقها الغضة كقصبة رويت من ماء غزير، فقال:
وكشح لطيف كالجديـل مُخصّرٍ *** وساقٍ كأنبوب السَّقيّ المذلّلِ
والتزم في رسم هذه الصورة ما التزمه أشد الشعراء إيغالاً في البداوة، مثل بشر بن أبي خازم في قوله، وهذا يؤكد على ثوابت غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
نبيلةُ موضعِ الحِجلين خَوْدٌ *** وفي الكشحين والبطن اضطمارُ
وقد التقى النابغة وبشر بن أبي خازم في تصوير الأسنان عند تشبيهها بزهر الأقحوان، مما يوضح وجود نماذج جمالية مشتركة في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي. فقال النابغة:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة *** برداً أسفّ لثاته بالإثمدِ
كالأقحوان غداة غبّ سمائه *** جفّت أعاليه، وأسفله ندِ
وقال بشر بن أبي خازم:
يُفلّجنَ الشَّفاهَ عن اقْحُوانٍ *** جَلاه غِبَّ ساريةٍ قِطَارُ
اختلاف الأذواق الجمالية في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي
وإذا كانت قسمات الجمال قد اختلفت لاختلاف الشعراء في قربهم من الحضارة أو البداوة، فإن هذه القسمات قد اختلفت كذلك لاختلاف الشعراء في الطباع والأهواء. إن هذا التباين هو من صميم غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي.
فمنهم من كان يؤثر القامة الهيفاء، والعنق الأجيد، والساق الدقيقة البضة، والكشح الضامر كامرئ القيس. فإذا تصورت ما صوره امرؤ القيس في بيته الذي ذكرناه سابقاً، والذي يُعد مثالاً على غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
وكشحٍ لطيفٍ كالجديـلِ مُحصّرٍ *** وساق كأنبوبِ السّقيّ المذلّلِ
ماست بين عينيك غادة متناسبة الأجزاء منسابة الأعضاء من رأسها إلى قدمها كأنها عارضة أزياء.
ومنهم من يجمع إلى الغيد في الجيد والهيف في الكشح، امتلاء الصدر وبروز الكفل، كالأعشى الذي جعل صاحبته ذات جيد مديد كجيد ظبية تمده بين أغصان الشجر لتلتقط الثمر والورق. ودون هذا الجيد ترائب ناعمة بضة، وخصر هضيم يعلو ردفاً رجراجاً كأنه كثيب من الرمل، أغنته ضخامته عن النطاق الذي تشده المرأة النحيلة على ردفها الضامر لإبرازه. وهذا النموذج يمثل رؤية أخرى في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي. قال الأعشى:
وجيد أدماءَ لم تُذْعَرْ فرائِصُها *** ترعى الأراك تَعَاطَى المَرْدَ والوَرَقا
وكفلٍ كالنَّقا مالتْ جوانبهُ *** ليست مِن الزُّلِّ أوراكاً، وما انتطقا
ومنهم من كان يؤثر السمنة على الهزال والعبالة على الاعتدال، فيجعل ذراعي صاحبته كذراعي ناقة بيضاء سمينة لم تحمل ولداً قط، ويشبه نهدها في بياضه واستدارته بحق من عاج فخم. ويصور قامتها فإذا هي امرأة طوالة عراضة، لكنها على طولها وعرضها تعجزها عجيزتها الثقيلة الروانف، فتمضي بها متثاقلة لا يقوى على حملها عزم ولا يتسع لها باب. وأما ساقاها فعمودان من مرمر أبيض اكتنزا لحماً وشحماً. على هذا النحو صور عمرو بن كلثوم صاحبته، مقدماً نموذجاً مختلفاً في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
تريك إذا دخلتْ على خلاءٍ *** وقد أمنتْ عيونَ الكاشحين
ذراعي عَيطلٍ أدماءَ بكرٍ *** هجان اللون لم تقرأ جنينا
وثدياً مثل حُقِّ العاج رخَصاً *** حَصاناً من أكفّ اللامسينا
ومتني لدنة سمقت وطالت *** روادفها تنوء بما ولينا
ومأكمة يضيقُ البابُ عنها *** وكشحاً قد جننت به جنونا
وساريتي بلنط أو رخام *** يرنّ خشاش حليهما رنينا
ويبدو من مقارنة بعض الآراء ببعض أن السمنة المفرطة كانت أحب إلى الشعراء من الرشاقة المهزولة، وأن جل الشعراء كانوا على رأي ابن كلثوم. إن هذا التفضيل يعكس جانباً مهماً من غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي. وصف بشر بن أبي خازم صاحبته ببيت واحد لخص فيه رأيه في جمالها، فإذا هي كما تتراءى لك في هذا البيت: عظيمة العجيزة، لفاء الفخذين، ممكورة الساقين، ثقيلة الحركة، إن تناهضت أقعدها كفلها، وإن تكلفت الجري تقطعت أنفاسها. وهذا يعزز فكرة التفضيل الجمالي في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
ثَقَالٌ كلّما رامت قياماً *** وفيها حين تندفع انبهارُ
وربما جعل الشعراء المفتونون بالسمنة كبشر بن أبي خازم بدانة المرأة دليلاً على الترف والسرف، وموضعاً للمفاخرة بوفرة الزاد ودوام النعمة في بلاد يقل فيها الزرع ويجف الضرع، وتذوب فيها لحوم الجسوم من الجوع والظمأ. إن هذا الربط الاجتماعي هو من خصائص غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
من اللائي غُذين بغير بُؤسٍ *** منازلها القَصيمةُ فالأوارُ
غذاها قارصٌ يجري عليها *** ومَحْضٌ حين تُبْتَعَثُ العِشَارُ
وإذا ثبت أن لطبيعة الأرض أثراً في تصور الجمال وتصويره، وفي تحديد ما يحب الإنسان وما يكره، قلنا: لعل خوف الشاعر الجاهلي من الجوع ورغبته في الشبع والري كانا يرغبانه في نمط معين من الجمال ويصرفانه عن نمط آخر. كانا يرغبانه فيما يدل على الاكتفاء والامتلاء، ويزهدانه فيما يوحي بالحرمان والنقصان. وهذا البعد النفسي أساسي في فهم غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي.
ومن هذا القبيل جاء حرص الشاعر الجاهلي على أن يسقي صاحبته ويشرب منها: يسقيها من واكف السحاب ويستقي منها خمر الرضاب. فعلقمة بن عبدة دعا لمحبوبته ليلى بوابل يهمي عليها من سحاب غزير المطر قريب من الأرض، وهو ما يجسد هذا الشوق في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
سقاك يمان ذو حبي وعارض *** تَرُوحُ به جُنْحَ العَشيَ جَنُوبُ
والحادرة شغلته ابتسامة صاحبته عن حديثها، ولم يقنع منها بإشراقة الدر المنضود بين شفتيها، بل أحرقه الظمأ إلى رضابها، وخُيّل إليه أنه أمام غدير استمد ماءه من سحابة ساقتها ريح لينة فهمى مطرها النقي السخي عليه وترقرق فيه. فكلما افتر ثغرها ماج الري فيه وتألق، وود الشاعر لو يكرع منه حتى يرتوي. إن هذه الصورة الحسية هي من صلب غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
وإذا تُنازعُكَ الحديث رأيتها *** حسناً تَبَسُمُها لذيذ المَكْرَع
بغريض سارية أدرتْهُ الصَّبا *** من ماءٍ أسجَرَ طَيِّبِ المُسْتَنْقَعِ
فإن كان الشاعر من المستهترين بالخمر كالأعشى، ولم يجد في الماء رياً، جعل من فم صاحبته زقاً مفعماً بالخمر، ومضى يرتشف منه شراباً مزاجه رضابها العذب، وعسل النحل، وخمر عانة، وماء بارد تحدّر من نهير رصفت أرضه بالحجارة البيضاء الرقيقة. إن هذا المزج بين الخمر والرضاب هو سمة متكررة في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
كان جنيّاً من الزنجبيـ *** لِ خالط فاها وأَرْياً مَشُور
واسفنْطَ عَانَةَ بعد الرقا *** د ساق الرِّصافُ إليها غديرا
ولا يخفى ما في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي من الصدق في التصوير والتعبير، ومن تأثير البداوة والحضارة في صنع الذوق الفني، ومن مزج الطبيعة بالغزل، وطغيان الحس على الفن، وارتباط المحاسن بالغرائز.
المحاسن الروحية والأخلاقية في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي
لكن ذلك كله لا يعني أن المفاتن المحسوسة قد شغلت الشاعر عن نفس المرأة وخلقها. فقد أُعجب الأعشى بخلق صاحبته هريرة، وبإعراضها عن التجسس ومراقبة الجيران للوقوف على خفاياهم، وهذا بعدٌ أخلاقي مهم في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
ليست كمن يكره الجيران طلعتها *** ولا تراها لسر الجار تختتلُ
وعُني النابغة بما في كلام المتجردة من حوار آسر، وبديهة حاضرة تخلب العابد الزاهد المعرض عن النساء وتغذي قلبه بالمتعة الفكرية الراقية. إن هذا الجانب الفكري يثري غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
لو أنها عرضت لأشمط راهب *** عبد الإله ضرورة متعبد
لرنا لبهجتها وحسن حديثها *** ولخاله رشداً وإن لم يُرشد
وهذه العناية نابعة من حب العرب للبيان الساحر ومن افتتانهم بالجواب المسكت والذكاء المتوقد. فجمال الشكل لا يغني العربي عن كمال العقل، وملاحة الوجه لا تحل محل فصاحة اللسان. وإذا كان لكل قسمة من قسمات الحسن مكانها من نفس الشاعر ونفوس غيره من البشر، فإن للمحاورة الذكية تأثيراً في سمع الشاعر وقلبه لا تحس مثله أسماع الناس وقلوبهم. ولذلك، قال النابغة في صفة صاحبته، جامعاً بين جمال الشكل والفصاحة في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي:
غراء أكمل من يمشي على قدم *** حسناً وأملح من حاورته الكلما
وقد يعروك العجب، وأنت مبهور البصر بالجمال المحسوس، حين ترى الشاعر الجاهلي يعرض عن محاسن الجسد ويتغنى بمحاسن الروح، وبما يعتقد أنه أفضل فضائل المرأة. وقد ينقلب عجبك إلى إعجاب حين تعلم أن هذا الشاعر فاتك صلب، يهابه أعتى العتاة، ويتقيه أقسى القساة، لكنه إن نظر إلى طرف غضيض منسدل على عين امرأة تمشي على استحياء، أرسل بصره فيها وراء الطرف الكسير يحلل النظرة وما وراءها، والمشية وما تدل عليه. فإذا الشنفرى، هذا الصعلوك الشرس الذي قتل تسعة وتسعين فارساً من أقوى الرجال، قتيل أضعف النساء. فما الذي أعجبه من جمال صاحبته أميمة في غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي؟
أعجبه منها نقاء الروح لا سحر الجسد؛ أعجبه الاستتار بالخمار، والمشية الرزان، والزهد في التبرج، ومجانبة الإغواء، وطهارة العرض، والنجاة من ألسنة السوء. وحسبها عفافاً أنها إذا سارت بين الناس خافت العيون النهمة، فأطرقت ولم تتلفت وأرسلت مقلتيها المذعورتين في الأرض، كأنها تبحث عن ضالة فقدتها. وأنها إذا تكلمت عقل الحياء لسانها، فتقطعت أنفاسها، ثم أسكتها الخفر. وأعجبه منها ذكرها العطر، وخلقها القويم، وبعدها عن مظان السوء. إن هذا النموذج الرفيع يمثل ذروة غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي الأخلاقي. قال الشنفرى:
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها *** إذا ما مشت ولا بذات تلَفُّتِ
تَحُلُّ بمنجاةٍ من اللّوم بيتَها *** إذا ما بيوتٌ بالمذمّة حُلَّتِ
كأنَّ لها في الأرض نسْياً تقصُّه *** على أَمِّها، وإن تكلَّمك تَبْلَتِ
أميمةُ لا يُجْزِي نَثَاهَا حَليلها *** إذا ذكِر النِّسوانُ عَفَّت وجَلَّتِ
إذا هو أمسى آبَ قُرَّةَ عيِنهِ *** مآبَ السّعيدِ لم يَسَلْ أين ظلّتِ
خاتمة: مكانة غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي
في الختام، لا يمكن إنكار أن غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي قد أعطى الأولوية لوصف الجسد على حساب الروح، حيث كان الشاعر الجاهلي يعكس في كثير من الأحيان نزعة حسية ومادية تبررها طبيعة عصره. ومع ذلك، فإن الإشارات، وإن كانت قليلة، إلى المحاسن الروحية والأخلاقية تحمل دلالة بالغة الأهمية. فكما يرى الدكتور شوقي ضيف، تُعد هذه الإشارات دليلاً جلياً على سمو النفس العربية، وتمثل الجذور الأولى التي نبت منها الغزل العذري لاحقاً.
وهذا ما يجعل هذا الفن الشعري لا يقتصر على كونه مجرد وصف حسي، بل يتجاوزه ليكون سجلاً ثقافياً متكاملاً ومرآة تعكس الذوق الجمالي، القيم الاجتماعية، والأسس النفسية للإنسان في ذلك العصر. وبذلك، يثبت غزل المحاسن والمفاتن في الشعر الجاهلي أنه إرث أدبي خصب وحقل معرفي لا ينضب، يستدعي المزيد من الدراسة والتحليل لفهم أبعاده الفنية والحضارية العميقة.