البلاغة

التشبيه الضمني: بلاغة البرهان الخفي وأسرار الإيحاء

يحتل التشبيه مكانة رفيعة في علم البلاغة العربية، فهو فن واسع النطاق يهدف إلى إيضاح المعاني وتقريبها إلى الأذهان من خلال عقد مماثلة بين أمرين يشتركان في صفة ما. وتكمن روعته في قدرته على إخراج الخفي إلى الجلي، وإضفاء الجمال والوضوح على الأفكار. وفي حين أن التشبيه الصريح بأركانه المعروفة (المشبه، والمشبه به، والأداة، ووجه الشبه) هو الشكل الأكثر شيوعاً، إلا أن هناك أسلوباً بلاغياً أكثر دقة وعمقاً، يرتقي بالمعنى من مجرد المقارنة إلى الإقناع والبرهان، وهو ما يُعرف بـالتشبيه الضمني.

مفهوم التشبيه الضمني وخصائصه

يُعرَّف التشبيه الضمني بأنه تشبيه لا يأتي على الصورة المعهودة والمباشرة، فلا يتم فيه التصريح بأركان التشبيه بشكل واضح. بدلاً من ذلك، يُفهم من سياق الكلام ومضمونه، حيث يُلمح إلى المشبه والمشبه به في التركيب دون استخدام أي أداة من أدوات التشبيه الصريحة كالكاف أو كأن أو مثل. يكمن جوهر التشبيه الضمني في تقديمه قضية أو فكرة تبدو بحاجة إلى دليل، ثم يتبعها بحقيقة أو حكمة عامة تعمل كبرهان يؤكد صحة تلك القضية.

تتكون بنية التشبيه الضمني غالباً من شطرين أو جملتين:
١. الجملة الأولى (المشبه): تعرض حكماً خاصاً أو ادعاءً قد يبدو غريباً أو مستبعداً.
٢. الجملة الثانية (المشبه به): تأتي كقاعدة عامة أو مثال مسلم به، لا يختلف عليه اثنان، لتكون برهاناً ودليلاً على إمكانية وقوع الحكم المذكور في الجملة الأولى.

وهذا الانتقال من الخاص إلى العام هو ما يميز التشبيه الضمني ويمنحه قوته الإقناعية.

الوظيفة البلاغية للتشبيه الضمني: الإقناع والبرهان

تتجلى الوظيفة الأساسية للتشبيه الضمني في تجاوز مجرد توضيح الصفة إلى إثباتها والبرهنة على إمكانية حدوثها. فحين يسوق المتكلم فكرة غير مألوفة، فإنه يستعين بهذا الأسلوب ليقنع السامع بصحتها، وذلك عن طريق استدعاء صورة من الواقع أو حكمة متداولة تدعم فكرته. بهذا، يصبح الشطر الثاني من الكلام بمثابة دليل منطقي يؤيد الشطر الأول، وهذا البرهان هو السمة المميزة للتشبيه الضمني. إن بلاغة التشبيه الضمني تكمن في أنه يجعل المتلقي يستنتج العلاقة بنفسه، مما يترك أثراً أعمق في النفس وأكثر رسوخاً في الذهن.

أمثلة تطبيقية على التشبيه الضمني مع التحليل

لكي تتضح صورة هذا الفن البلاغي الرفيع، لا بد من استعراض بعض الشواهد الشعرية التي تعد نماذج خالدة على قوة التشبيه الضمني.

المثال الأول: قول أبي الطيب المتنبي:

|| من يهن يسهل الهوانُ عليه *** ما لجُرحٍ بميَّت إيلامُ

في هذا البيت، يقدم المتنبي في الشطر الأول قضية نفسية عميقة، وهي أن من يعتاد على الذل والهوان يفقد الإحساس به ويصبح أمراً هيناً عليه. قد يبدو هذا الادعاء غريباً، فيأتي الشطر الثاني ليقدم الدليل القاطع. وهنا يتجلى التشبيه الضمني ببراعة، حيث يشبه الشاعر حال الشخص الذي اعتاد الهوان (المشبه) بحال الجسد الميت (المشبه به)، والجامع بينهما (وجه الشبه) هو انعدام الإحساس بالألم. لم يستخدم الشاعر أداة تشبيه، بل ترك للمتلقي استنباط هذه العلاقة التي تؤكد أن فقدان الإحساس أمر ممكن الحدوث.

اقرأ أيضاً:  ائتلاف اللفظ مع اللفظ: دراسة في البلاغة العربية وتجلياته في الشعر

المثال الثاني: قول المتنبي أيضاً:

|| فإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال

يطرح الشاعر في الشطر الأول فكرة قد تستدعي الاستغراب، وهي إمكانية تفوق إنسان على أقرانه مع أنه واحد منهم. ولإثبات هذه الفكرة وإزالة أي شك حولها، يسوق في الشطر الثاني حقيقة من الطبيعة لا جدال فيها. إن العلاقة بين الشطرين هي علاقة تشبيه ضمني، حيث شبه حالة الممدوح الذي فاق بني جنسه (المشبه) بحالة المسك الذي هو أثمن العطور مع أنه مجرد جزء من دم الغزال (المشبه به). ووجه الشبه هو إمكانية أن يخرج من الشيء ما هو أفضل منه بكثير. يعد هذا البيت مثالاً كلاسيكياً على التشبيه الضمني الذي يؤتى به لبيان إمكان وجود المشبه.

المثال الثالث: قول أبي فراس الحمداني:

|| سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

يتنبأ الشاعر بحاجة قومه إليه في وقت الشدائد والملمات، وهو ادعاء قد يُرى فيه نوع من الفخر. ولتأكيد صدق مقولته، يستحضر حقيقة كونية ثابتة. يستعرض هذا المثال قوة التشبيه الضمني في الإقناع، فحال الشاعر الذي سيفتقده قومه وقت الشدة (المشبه) يشبه حال البدر الذي تشتد الحاجة لنوره في الليلة المظلمة (المشبه به). ووجه الشبه هو “الحاجة إلى الشيء الثمين عند غيابه في وقت الأزمات”. إن هذا التشبيه الضمني يرفع من قيمة الشاعر ويجعل فكرته مقبولة ومنطقية.

المثال الرابع: قول أحد الشعراء:

|| علا فما يستقر المال في يده *** وكيف تمسك ماءً قنةُ الجبل

يصف الشاعر ممدوحاً بلغ من علو الهمة والكرم حداً لا يبقى معه مال في يده. هذه الصورة قد تحتاج إلى تثبيت في ذهن السامع، وهنا يأتي دور التشبيه الضمني ليؤدي هذه المهمة. فشبه الشاعر حال الممدوح الذي لا يستقر المال في يده لعلو مكانته (المشبه) بحال قمة الجبل الشاهقة التي لا يمكنها الاحتفاظ بالماء (المشبه به). ووجه الشبه هو “عدم استقرار الشيء الثمين في المكان العالي”. هذا الربط الخفي بين الصورتين يقدم برهاناً حسياً على فكرة معنوية، مما يوضح جماليات التشبيه الضمني.

في الختام، يتضح أن التشبيه الضمني ليس مجرد أداة للزينة اللفظية، بل هو أسلوب فكري وبلاغي عميق يعكس قدرة المبدع على الربط بين الأفكار والحقائق بطريقة غير مباشرة، فهو يحول الادعاء إلى حقيقة، والفكرة المجردة إلى صورة ملموسة، تاركاً للمتلقي لذة اكتشاف العلاقة بنفسه، مما يجعله من أسمى فنون البيان وأكثرها تأثيراً وخلوداً. إن إتقان التشبيه الضمني هو علامة على البراعة اللغوية والعمق الفكري.

السؤالات الشائعة

١- ما هو جوهر التشبيه الضمني وما الذي يميزه عن غيره من أنواع التشبيه؟

جوهر التشبيه الضمني يكمن في كونه علاقة مشابهة غير مصرح بها، تُفهم من سياق الكلام وتلمح في التركيب دون الاعتماد على أدوات التشبيه المعروفة. ما يميزه بشكل أساسي هو بنيته القائمة على قضيتين: الأولى تمثل ادعاءً خاصاً (المشبه)، والثانية تأتي كحقيقة عامة أو حكمة مسلم بها (المشبه به) لتعمل كبرهان على صحة الادعاء الأول. على عكس التشبيه الصريح الذي يهدف إلى “التوضيح” المباشر، يهدف التشبيه الضمني إلى “الإقناع” وإثبات إمكانية وقوع أمر يبدو غريباً أو مستبعداً، مما يجعله أسلوباً بلاغياً يعتمد على الاستدلال المنطقي الخفي.

اقرأ أيضاً:  الإغراب في الأدب: فن نزع الألفة وإيقاظ الإدراك الجمالي

٢- كيف يختلف التشبيه الضمني عن التشبيه الصريح في البنية والغاية؟

يختلفان اختلافاً جوهرياً. فالتشبيه الصريح يعتمد على بنية واضحة تذكر فيها الأركان الأربعة أو بعضها (المشبه، المشبه به، الأداة، وجه الشبه)، وغايته الأساسية هي بيان حال المشبه أو مقداره أو تزيينه من خلال مقارنته مباشرة بالمشبه به. أما التشبيه الضمني، فبنيته مختلفة تماماً؛ فهو يتألف من جملتين مستقلتين ظاهرياً، لا يربطهما رابط تشبيه لفظي، حيث تكون الأولى فكرة تحتاج دليلاً، والثانية هي الدليل نفسه. وغايته ليست المقارنة المباشرة، بل إقامة حجة منطقية وإقناع المتلقي بصحة الفكرة المطروحة عبر الاستشهاد بحقيقة لا تقبل الجدل، فالانتقال فيه ذهني واستنتاجي وليس لفظياً.

٣- ما هي الوظيفة البلاغية الأساسية للتشبيه الضمني، ولماذا يعد أداة إقناع فعالة؟

وظيفته البلاغية الأساسية هي “البرهنة والإقناع” وتثبيت المعنى في نفس السامع. يعد أداة إقناع فعالة لأنه لا يفرض المشابهة فرضاً، بل يقود المتلقي إليها عقلياً. عندما يقدم الشاعر أو الكاتب فكرة غير مألوفة أو ادعاءً جريئاً، فإن ذكرها بشكل مجرد قد يثير الشك أو الرفض. لكن عندما يتبعها بحقيقة واقعية أو حكمة متفق عليها، فإنه يبني جسراً منطقياً بين فكرته وبين ما هو مسلم به في عقل المتلقي، مما يزيل الغرابة ويجعل الفكرة مقبولة وممكنة. هذه القدرة على دعم الادعاء بالدليل هي سر قوته الإقناعية.

٤- هل توجد أركان واضحة للتشبيه الضمني كما في التشبيه الصريح؟ وكيف يمكن للمتلقي استنباطه؟

لا توجد في التشبيه الضمني أركان مذكورة صراحة كما في التشبيه الصريح؛ فلا تجد فيه أداة تشبيه، ولا يتم التصريح بوجه الشبه بشكل مباشر. يمكن للمتلقي استنباطه من خلال ملاحظة العلاقة المنطقية بين جزأي الكلام: الجزء الأول الذي يعرض حالة خاصة أو فكرة تحتاج إلى إثبات، والجزء الثاني الذي يقدم مبدأً عاماً أو مثالاً معروفاً. عندما يدرك المتلقي أن الجزء الثاني لم يأتِ عبثاً، بل جاء ليؤكد ويدعم الجزء الأول، فإنه يستنتج وجود علاقة مشابهة خفية بين الحالتين، ويكون وجه الشبه هو المبدأ العام الذي يربطهما.

٥- لماذا يُعتبر البرهان والدليل سمة ملازمة للتشبيه الضمني؟

لأن الغاية من وجوده هي إثبات صحة فكرة قد تكون مستغربة. لو كانت الفكرة عادية ومقبولة لما احتاجت إلى دليل يؤكدها، ولكان التشبيه الصريح كافياً لتوضيحها. لكن التشبيه الضمني يُستخدم خصيصاً للمواقف التي يُسند فيها إلى المشبه أمر مستغرب يحتاج إلى تثبيت وإيضاح. فالشطر الثاني (المشبه به) لا يعمل كمجرد طرف في مقارنة، بل كشاهد أو برهان منطقي يُستدعى لإزالة الشك وإقرار صحة الحكم الذي أُسند إلى المشبه في الشطر الأول.

اقرأ أيضاً:  ائتلاف المعنى مع المعنى: دراسة في البلاغة العربية وتطبيقاتها في الشعر

٦- هل يمكن أن يحتوي التشبيه الضمني على أداة تشبيه؟ وما أثر غيابها على بلاغته؟

لا يمكن أبداً أن يحتوي التشبيه الضمني على أداة تشبيه، فغياب الأداة هو شرط أساسي لتحققه. لو ذكرت الأداة لتحول فوراً إلى تشبيه صريح. أثر غياب الأداة عميق جداً على بلاغته؛ فهو الذي يخلق الإيحاء ويجعل العلاقة مكتشفة وليست معطاة، وهذا يمنح المتلقي متعة المشاركة في بناء المعنى. كما أن غيابها يوهم باستقلال الفكرتين، مما يجعل البرهان (الشطر الثاني) يبدو وكأنه حقيقة موضوعية ومحايدة، وليس مجرد مقارنة من صنع المتكلم، وهذا يعزز من قوته الإقناعية بشكل كبير.

٧- ما الفرق الدقيق بين التشبيه الضمني والاستعارة؟

الفرق الدقيق يكمن في وجود طرفي التشبيه. في التشبيه الضمني، المشبه والمشبه به كلاهما مذكوران في الكلام، ولكن على هيئة جملتين مستقلتين (قضية ودليلها). أما في الاستعارة، فيتم حذف أحد طرفي التشبيه: ففي الاستعارة التصريحية يُحذف المشبه ويُصرح بالمشبه به (مثل: رأيت أسداً يخطب)، وفي الاستعارة المكنية يُحذف المشبه به ويُرمز له بشيء من لوازمه (مثل: حدثني التاريخ). إذن، التشبيه الضمني يحتفظ بالطرفين وإن كان بصورة غير مباشرة، بينما الاستعارة تقوم على حذف أحدهما.

٨- ما سر الأثر النفسي القوي الذي يتركه التشبيه الضمني في المتلقي مقارنة بالتشبيه المباشر؟

يكمن السر في أنه ينقل المتلقي من دور المستمع السلبي إلى دور المشارك النشط في العملية الإبداعية. فبدلاً من أن تُقدَّم له المشابهة جاهزة، يُترك له عبء اكتشافها بنفسه عبر إعمال الفكر والربط بين الفكرة ودليلها. هذا الجهد الذهني يولد “لذة الاكتشاف”، ويجعل المعنى الذي يتوصل إليه المتلقي أكثر رسوخاً وتأثيراً في نفسه، لأنه يشعر أنه هو من استنتجه. هذا الأسلوب أوقع في النفس وأبلغ في التأثير لأنه يخاطب العقل ويحترم ذكاء المتلقي.

٩- هل يمكن اعتبار كل تشبيه ضمني نوعاً من تشبيه التمثيل؟

في كثير من الحالات، نعم. تشبيه التمثيل هو ما كان وجه الشبه فيه هيئة منتزعة من أمور متعددة. والتشبيه الضمني غالباً ما يشبه حالة مركبة بحالة مركبة أخرى (مثل تشبيه حالة من يعتاد الهوان بحالة الميت الذي لا يتألم)، وبهذا يكون وجه الشبه هيئة منتزعة، فيدخل ضمن تعريف تشبيه التمثيل. لكن الفرق الجوهري يبقى في “طريقة العرض”: تشبيه التمثيل يمكن أن يكون صريحاً (باستخدام الأداة)، أما التشبيه الضمني فهو دائماً خفي وبدون أداة، وبنيته قائمة على الادعاء والبرهان.

١٠- هل يجوز عكس ترتيب شطري التشبيه الضمني، بحيث يأتي البرهان قبل الادعاء؟

نظرياً يمكن ذلك، ولكن بلاغياً يفقد الأسلوب معظم قوته وتأثيره. فالترتيب الطبيعي والمنطقي الذي يحقق الغاية البلاغية هو تقديم الادعاء أو الفكرة المستغربة أولاً، لإثارة ذهن المتلقي ودفعه للتساؤل عن صحتها، ثم يأتي البرهان كإجابة شافية تزيل الشك وتقرر المعنى. لو بدأ بالبرهان (الحقيقة العامة)، ثم أتبعه بالحالة الخاصة، لضعف الرابط المنطقي وبدا الكلام مفككاً، ولضاعت المفاجأة البلاغية والأثر الإقناعي المقصود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى