مصطلحات أدبية

اللغة المرسلة: ما سر جمال الأسلوب النثري الخالي من التكلف؟

كيف تكتب بوضوح وتأثير دون الحاجة للسجع والزخرفة اللفظية؟

بقلم: د. أحمد محمود الأديب – متخصص في البلاغة العربية والأساليب الأدبية الكلاسيكية والمعاصرة


عندما تقرأ نصاً يسري في ذهنك كالماء الرقراق، لا يعترضك فيه تكلف ولا تصنع، بل تجد المعنى واضحاً والعبارة سلسة، فاعلم أنك أمام اللغة المرسلة في أبهى صورها. إنها الأسلوب الذي اختاره كبار الكتّاب عبر العصور للتعبير عن أفكارهم دون قيود السجع أو المحسنات اللفظية المتكلفة.

ما اللغة المرسلة وما تعريفها الدقيق؟

من تجربتي في تدريس البلاغة لأكثر من خمسة عشر عاماً، لاحظت أن أول سؤال يطرحه الطلاب هو: ما المقصود بهذا المصطلح تحديداً؟

اللغة المرسلة (Plain Prose) هي أسلوب نثري ينساب بحرية تامة دون التقيد بالسجع أو الجناس أو أي محسن لفظي مُتعمّد؛ إذ تُبنى الجملة فيه لخدمة المعنى أولاً وأخيراً. كما أن الكاتب هنا يُرسل كلامه إرسالاً طبيعياً كما يجري الحديث في مساره الطبيعي، دون أن يُقيّد نفسه بضرورة إنهاء الجمل بحروف متشابهة أو أوزان متماثلة.

لقد عرّف علماء البلاغة العرب هذا الأسلوب بدقة متناهية. فابن الأثير في كتابه الشهير “المثل السائر” أشار إلى أن النثر المرسل هو “الكلام الذي لا يتقيد صاحبه بسجع ولا وزن، بل يُطلق عنان قلمه حسب ما يقتضيه المعنى”. يمكنك الاطلاع على هذا المرجع البلاغي الأصيل عبر المكتبة الوقفية التي تحتوي على مخطوطات ونسخ رقمية من كتب البلاغة الكلاسيكية.

بينما النثر المسجوع يُلزم الكاتب بإيجاد كلمات تنتهي بحروف متشابهة، فإن اللغة المرسلة تحرره من هذا القيد تماماً. إنها لغة الفكر الحر والتعبير المباشر.

لماذا سُميت بـ “المرسلة”؟

التسمية نفسها تحمل معناها؛ إذ كلمة “مرسلة” من الإرسال، أي الإطلاق والتحرير. فالكاتب يُرسل عباراته دون تقييد أو تكلف، تماماً كما تُرسل الناقة في الصحراء دون قيد. هذا وقد أكد مجمع اللغة العربية في القاهرة على هذا المعنى في تعريفاته اللغوية، ويمكنك زيارة الموقع الرسمي لمجمع اللغة العربية للاستزادة من المصطلحات البلاغية المعتمدة.

ما الفرق بين اللغة المرسلة والنثر المسجوع؟

الخطأ الأكثر شيوعاً الذي أرى الطلاب والكتّاب المبتدئين يرتكبونه هو الخلط بين هذين الأسلوبين، أو الاعتقاد بأن أحدهما أفضل من الآخر بشكل مطلق.

الفروق الجوهرية:

1. القيد اللفظي:

  • النثر المسجوع: يلتزم الكاتب بإنهاء الجمل (الفقرات) بحروف متماثلة أو متقاربة في النغم. مثال: “البخيلُ مذمومٌ غيرُ محمود، والكريمُ محبوبٌ غيرُ مردود”
  • اللغة المرسلة: لا قيد على نهاية الجمل، بل تنتهي حسب ما يستدعيه المعنى

2. الأولوية:

  • في السجع: قد يضحي الكاتب أحياناً بدقة المعنى ليحافظ على السجع
  • في المرسلة: المعنى هو السيد دائماً، والألفاظ خادمة له

3. الجهد الذهني:

  • السجع يتطلب مهارة لغوية عالية في إيجاد الكلمات المناسبة
  • المرسلة تركز على وضوح الفكرة وسلاسة العبارة

فهل يا ترى السجع عيب دائماً؟ بالطبع لا. لقد استخدم القرآن الكريم السجع في مواضع كثيرة دون تكلف، وهذا ما يُسمى بـ”السجع المطبوع” وليس “المتكلف”. بالإضافة إلى ذلك، فإن السجع في الخطب والمواعظ قد يضيف جمالاً ووقعاً في النفس. على النقيض من ذلك، فإن اللغة المرسلة أنسب للمقالات العلمية والنقاشات الفكرية والمراسلات الأدبية.

اقرأ أيضاً:  التشبيه المؤكد: دراسة في مفهومه البلاغي وأثره الأسلوبي

ما خصائص وسمات اللغة المرسلة؟

من خلال قراءاتي لآلاف النصوص المرسلة عبر العصور، استطعت تحديد السمات الأساسية التي تميز هذا الأسلوب:

1. الوضوح والمباشرة

اللغة المرسلة لا تحتاج إلى تأويل عميق؛ إذ المعنى يصل مباشرة إلى القارئ. انظر إلى هذا المثال من رسائل عبد الحميد الكاتب: “إن الكتابة صناعة شريفة، وموهبة كريمة، لا يحسنها إلا من أوتي حظاً من العلم والأدب”.

2. التدفق الطبيعي

الجمل تتوالى بسلاسة دون تعثر أو تكلف في البحث عن سجع. كما أن القارئ لا يشعر بأن الكاتب يبذل جهداً في انتقاء الكلمات لمجرد الزخرفة.

3. تنوع طول الجمل

بينما السجع قد يفرض طولاً محدداً للجمل، فإن اللغة المرسلة تسمح بجمل قصيرة حادة وأخرى طويلة متأنية حسب الحاجة.

4. خدمة المعنى لا الشكل

هذه هي الخاصية الأبرز. فما هي الفائدة من جملة منغمة إن كان معناها غامضاً أو ضعيفاً؟ اللغة المرسلة تجيب: لا فائدة.

5. المرونة والقدرة على التعبير الدقيق

إذ لا يضطر الكاتب لتغيير كلمة دقيقة بأخرى أقل دقة فقط ليحافظ على السجع.

الجدير بالذكر أن هذه الخصائص لا تعني أبداً الإهمال اللغوي أو العامية؛ بل هي فصاحة خالصة متحررة من القيود الشكلية.

أين نجد اللغة المرسلة في التراث العربي؟

عندما أقرأ نصوصاً مرسلة أصيلة، أشعر وكأنني أحاور الكاتب مباشرة دون حواجز. ومما يدهشني دائماً هو ثراء تراثنا العربي بنماذج رائعة من هذا الأسلوب.

1. في القرآن الكريم والحديث النبوي

فهل القرآن الكريم مكتوب كله بلغة مرسلة؟ الحقيقة أن القرآن يجمع بين الأسلوبين بإعجاز فريد. ففي بعض الآيات نجد السجع غير المتكلف كقوله تعالى: “وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ۝ النَّجْمُ الثَّاقِبُ” (الطارق: 1-3). بينما آيات أخرى تأتي بأسلوب مرسل كقوله: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” (الحجرات: 13).

أما الحديث النبوي الشريف، فمعظمه بلغة مرسلة واضحة. انظر إلى قوله ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”. هنا لا سجع ولا تكلف، بل وضوح تام وعمق في المعنى.

2. في النثر الجاهلي والإسلامي المبكر

الخطب والوصايا العربية القديمة كانت في معظمها مرسلة. فقد كان العرب يقدرون جزالة اللفظ ووضوح المعنى. وعليه فإن خطب الخلفاء الراشدين جاءت غالباً بهذا الأسلوب، كخطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة النبي ﷺ: “من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”.

3. كتابات الجاحظ

برأيكم ماذا يميز أسلوب الجاحظ في “البيان والتبيين” و”كتاب الحيوان”؟ الإجابة هي: اللغة المرسلة البديعة التي تجمع بين العمق والسلاسة. لقد كان الجاحظ من أبرز من استخدم هذا الأسلوب في العصر العباسي، مع لمسات ساخرة وفكاهية. يمكنك قراءة نصوص الجاحظ الأصلية عبر موقع الوراق الذي يضم مكتبة شاملة من التراث العربي.

اقرأ أيضاً:  البلاغة العربية: فنونها وأسرارها

4. الرسائل الديوانية والإخوانية

رسائل عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع في “كليلة ودمنة”، وابن خلدون في “المقدمة” – كلها نماذج راقية للغة المرسلة التي تخدم الفكر والفلسفة.

5. الأدب الحديث والمعاصر

طه حسين في “الأيام”، والعقاد في مقالاته، ونجيب محفوظ في رواياته – جميعهم استخدموا اللغة المرسلة كأسلوب رئيس. إن الكتابة الصحفية والمقالات الفكرية اليوم تعتمد شبه كلياً على هذا الأسلوب.

يمكنك استكشاف المزيد من هذه النماذج عبر مكتبة المصطفى التي توفر آلاف الكتب الأدبية القديمة والحديثة.

كيف تكتب بأسلوب مرسل فعّال؟

ما لاحظته عبر السنوات هو أن الكتابة بلغة مرسلة جيدة أصعب مما يتصور الكثيرون. فالتحرر من قيود السجع لا يعني الكتابة العشوائية.

خطوات عملية للكتابة المرسلة:

1. ابدأ بالفكرة لا باللفظ
قبل أن تكتب، اسأل نفسك: ما الذي أريد قوله بالضبط؟ إذاً، دع الفكرة تتضح في ذهنك أولاً، ثم ابحث عن أنسب الألفاظ للتعبير عنها، لا العكس.

2. تجنب الحشو والتطويل
اللغة المرسلة لا تعني الإسهاب غير المبرر. كل كلمة يجب أن تؤدي وظيفة. من ناحية أخرى، لا تكن مقتضباً لدرجة الغموض.

3. نوّع في طول الجمل وبنيتها
جملة قصيرة حادة، تليها جملة أطول توضح وتشرح، ثم جملة متوسطة تربط الأفكار – هذا التنوع يمنع الرتابة.

4. اختر الكلمة الدقيقة
بما أنك لست مقيداً بسجع، فلديك حرية اختيار الكلمة الأدق. هل تريد “قال” أم “صرح” أم “همس” أم “نطق”؟ كل واحدة تحمل ظلالاً مختلفة.

5. اقرأ نصك بصوت عالٍ
هل يسير الكلام بسلاسة؟ هل هناك تعثر أو تنافر؟ اللغة المرسلة الجيدة تجري على اللسان بيسر.

6. راجع واحذف الزوائد
من جهة ثانية، راجع ما كتبت واسأل نفسك: هل كل جملة ضرورية؟ هل هناك تكرار غير مقصود؟

تمرين عملي:

جرب أن تكتب فقرة عن “أهمية القراءة” بأسلوبين:

  • الأول مسجوع: “القراءةُ غذاءُ العقولِ ونورُ القلوب، بها تُنالُ العلومُ وتُدرَكُ الفنون”
  • الثاني مرسل: “القراءة هي الوسيلة الأولى لتنمية العقل وتوسيع الأفق. إنها تفتح أمامنا أبواباً من المعرفة لم نكن لنصل إليها بغيرها”

لاحظ الفرق؟ الأول جميل نغمياً لكنه محدود في التعبير. بالمقابل، الثاني أكثر حرية ودقة في توصيل الفكرة.

متى نستخدم اللغة المرسلة ومتى نتجنبها؟

السؤال الذي يطرحه كل كاتب واعٍ: في أي سياق أستخدم هذا الأسلوب؟

متى تُفضّل اللغة المرسلة:

1. الكتابة العلمية والأكاديمية
المقالات البحثية والدراسات تحتاج إلى دقة ووضوح؛ إذ السجع هنا قد يشوش على المعنى العلمي.

2. المقالات الفكرية والنقدية
عندما تناقش فكرة فلسفية أو تنقد عملاً أدبياً، أنت بحاجة لحرية التعبير الكاملة.

3. القصص والروايات
السرد الروائي الحديث يعتمد على اللغة المرسلة لتصوير الأحداث والشخصيات بواقعية.

4. المراسلات والرسائل
سواء كانت رسمية أو ودية، فاللغة المرسلة أنسب للتواصل الواضح.

5. الصحافة والإعلام
الخبر الصحفي والتقرير يجب أن يكونا واضحين مباشرين دون زخرفة.

اقرأ أيضاً:  تعريف الجاهلية: بين أهواء المفسرين والتحديدات التاريخية

متى قد نفضل أساليب أخرى:

1. الخطابة والمواعظ
السجع المطبوع (غير المتكلف) قد يضيف قوة ووقعاً في النفس. إن الإيقاع الصوتي يساعد على الحفظ والتأثير.

2. الشعر المنثور
إذا كنت تكتب نصاً أدبياً يعتمد على الجمال اللغوي والموسيقى اللفظية.

3. الإعلانات والشعارات
قد يكون السجع أو الجناس أكثر جاذبية وأسهل للتذكر.

وبالتالي، فإن الحكمة تقتضي اختيار الأسلوب المناسب للسياق، لا التعصب لأسلوب واحد. وكذلك فإن الجمع بين الأسلوبين في النص الواحد قد يكون مقبولاً إن كان بلا تكلف.

الخاتمة

لقد حاولت في هذا المقال أن أزيل الغموض عن مفهوم اللغة المرسلة، وأن أوضح أنها ليست مجرد “كلام بلا سجع”، بل هي فن قائم بذاته يتطلب مهارة وذوقاً رفيعاً. إنها الأسلوب الذي يحترم عقل القارئ ويقدم له المعنى صافياً دون تعقيد أو مبالغة.

من تجربتي الطويلة في تدريس البلاغة، أؤكد لك أن إتقان اللغة المرسلة هو أساس الكتابة الجيدة في عصرنا. فبينما المحسنات البديعية قد تزين النص، فإن الوضوح والدقة هما ما يبقى في أذهان القراء.

تذكر دائماً: الكتابة الجيدة ليست تلك التي تبهر باللفظ، بل تلك التي تُغني بالمعنى وتصل إلى القلب مباشرة. كما أن أفضل النصوص هي تلك التي يفهمها القارئ دون عناء، ويستفيد منها دون حاجة لقاموس أو شرح.


الأسئلة الشائعة

س1: هل اللغة المرسلة أفضل من المسجوعة؟

لا يمكن الحكم بالأفضلية المطلقة؛ إذ لكل أسلوب مجاله وسياقه. اللغة المرسلة أنسب للكتابة العلمية والفكرية والسردية، بينما السجع قد يكون أكثر تأثيراً في الخطب والمواعظ والنصوص الأدبية القصيرة. الحكمة في اختيار الأسلوب المناسب للمقام. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن الأثير في المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر حيث فصّل في مواضع استخدام كل أسلوب.

س2: ما الفرق بين اللغة المرسلة والعامية؟

الفرق جوهري وكبير. اللغة المرسلة هي فصحى خالصة تلتزم بقواعد النحو والصرف والبلاغة، لكنها تتحرر من قيود السجع فقط. أما العامية فهي لهجة محكية تخالف قواعد اللغة العربية الفصيحة. إذاً، المرسلة = فصاحة + حرية من القيود اللفظية، بينما العامية = خروج عن الفصحى كلياً. لمزيد من التوضيح حول معايير الفصاحة، راجع موقع مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

س3: هل يمكن أن تحتوي اللغة المرسلة على محسنات بديعية؟

نعم بالتأكيد، لكن بشرط عدم التكلف. فاللغة المرسلة تتجنب السجع المقصود والمحسنات المتعمدة التي تُقيّد الكاتب، لكنها لا تمنع المحسنات التي تأتي عفوياً دون بحث أو تصنع. فقد تجد في نص مرسل جناساً غير مقصود أو طباقاً عفوياً، وهذا لا يخرجه عن كونه مرسلاً ما دام المعنى هو الموجّه الأول. للمزيد عن البلاغة العربية ومصطلحاتها، يمكنك زيارة موسوعة الأدب العربي.


والآن، بعد كل ما قرأت عن اللغة المرسلة وخصائصها وجمالها: كيف ستغير هذا الفهم من أسلوبك في الكتابة؟ هل ستحرر قلمك من قيود السجع غير الضرورية، أم ستبقى أسير الزخرفة اللفظية على حساب عمق المعنى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى