معلقة امرئ القيس

شرح وإن شفائي عبرة مهراقة

وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ … فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

معاني المفرداتِ

العَبرةُ: الدَّمعةُ، وجمعُهَا عَبراتٌ.

المُهْراقُ والمُراقُ: المَصبُوبُ، وقدْ أَرَقْتُ الماءَ وهَرَقْتُهُ هَرقاً، وأَهْرَقْتُهُ إِهْراقاً؛ أي صَبَبْتُهُ.

الرَّسمُ: الأثرُ، والمعنى: آثارُ الدِّيارِ أوِ الأطلالُ.

دارسٌ: اسمُ فاعلٍ مِنْ (درسَ)، ودرسَ الرَّسمُ إذا عفَا وانمحَى.

المُعَوَّلُ: المُبكي، وقد أعولَ الرَّجلُ وعَوَّلَ إذا بكَى رافعاً صوتَهُ، والمُعَوَّلُ: المعتَمَدُ والمتَّكَلُ عليهِ أيضاً.

أو بمعنى موضعٍ يُنالُ فيهِ حاجةً: يُقالُ: عوَّلْتُ على فلانٍ أي: اعتمدْتُ عليهِ.

-والمعوَّلُ هنا يَحتملُ تفسيرينِ؛ الأول أنْ يكونَ موضعَ عويلٍ، أي بكاءٌ، وكأنَّ الشاعر قالَ: هلْ عندَ رسمٍ منمحٍ مِنْ مَبْكىً؟ وقد أُخِذَ مِنَ العويلِ أي الصِّياحُ، يُقالُ: قدْ أعولَ الرَّجلُ فهوَ معوَّلٍ، إذا صاح، ويُحتملُ أنْ يكونَ المرادُ بكلمة المعوِّلِ موضعاً يَنالُ فيهِ الشاعر حاجتَهُ، وهو مثل قولنا: مُعَوَّلُنَا على فلانٍ، ومُعَوَّلٌ تعني مُحَمَّلٌ، يقالُ: عوَّلَ فلان على فلانٌ، أي حَمَلَ عليهِ، والمعنى على هذا: فهلْ يحملُ على الأثر الذي انمحى ويُعَوِّلُ عليهِ بعدَ أنِ ذهب؟

-قال ابن سيده: فِيهِ قولان:

الأول: أنه مصدر عولت عَلَيهِ بمعنى اتكلت فَلَمَّا قَالَ الشاعر: إِن شفائي عِبْرَة مهراقة، كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا راحتي فِي أن أبكي، فَمَا معنى اتكالي أي امرؤ القيس فِي شِفَاء غليلي على أثر قد انمحى لا يغني شيئاً عني. فسبيلي أَن أقبل على البكاء وَلَا أعول فِي مسألة برد غليلي على شيء لَا غنى عِنْده، وقد أدخل الْفَاء فِي قَوْله: (فَهَل)، لكي تربط آخر الْكَلَام بأوله فصار كَأَنَّهُ قَالَ: إِذا كَانَ شفائي فِي أن يفيض دمعي فسبيلي أَلا أعول على أثر انمحى لكي أدفع حزني، وَيَنْبَغِي عليَّ أَن أبدأ فِي الْبكاء الَّذِي هُوَ سَبَب في الشِّفَاء.

القول الثاني: أَن يكون معول مصدر للفعل عولت، والمعنى: أعولت أَي بَكَيْت، فَيكون معنى الشطر فَهَل عِنْد أثر دارس من بكاء وإعوال.

اقرأ أيضاً:  شرح وقوفاً بها صحبي علي مطيهم: معلقة امرئ القيس

وفي كلتي الحالتين حملت المعول، فدخول الفاء على (فَهَل عِنْد رسم) هو أمر حسن جميل. أما إِذا جعلت الْمعول بِمَعْنى الإعوال والعويل: أَي الْبكاء فيكون المعنى: إِن شفائي أَن أبكي، ثمَّ خَاطب امرؤ القيس نَفسه أَو ربما صَاحِبيهِ فَقَالَ: إِذا كَانَ الْأَمر على مَا قلت من أَن فِي الْبكاء شِفَاء لي من وجدي فَهَل من بكاء أبدأه لكي أشفي بِهِ غليلي. فَهَذَا الكلام ظَاهره اسْتِفْهَام لنَفسِهِ. وَمَعْنَاهُ التحضيض لَهذه النفس على الْبكاء، وهو مثل قولك: قد أحسنت إِلَى فَهَل أشكرك، والقصد فلأشكرنك، ومثله: زرتني فَهَل أكافئنك؟ والمعنى: فلأكافئنك، وَإِذا خَاطب امرؤ القيس صَاحِبيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قد عرفتكما على مَا هو سَبَب شفائي وَهُوَ الْبكاء، فَهَل تبكيان معي لكي أشفى ببكائكما.

لكن هَذَا التَّفْسِير مبني على رأي من رأى أن المعنى: إِن المعول بِمَنْزِلَة الإعوال، والْفَاء ها هنا عقدت آخر الْكَلَام بأوله؛ كَأَنَّ امرأ القيس قَالَ: إِذا كنتما يا صاحبي قد عرفتما مَا أفضله من الْبكاء فأعولا وابكيا معي، وَكَأَنَّهُ إِذا استفهم نَفسه قَالَ: إِذا كنت أنا قد علمت أَن فِي الإعوال والبكاء رَاحَة لي فَلَا عذر لي فِي ترك هذا الْبكاء.

معنى البيتِ

وإنَّ مَخْلَصِي ممَّا أصابَنِي مِنَ الحُزنِ يكونُ بأنْ أَصُبَّ الدَّمعَ وأبكِي، ولكنْ لا ينفعُ البكاءُ في موضعٍ قدِ انمحَى أثرُ الدِّيارِ فيهِ؛ لأنَّهُ لا يَرُدُّ حبيباً، ولا يَشفي قلبَ المحبِّ.

أو كأنَّهُ خاطبَ صاحبيهِ فقالَ: إذا كنْتُمَا قدْ عَرَفْتُمَا مَا أُوثِرهُ مِنَ البكاءِ فابكِيَا وأعْوِلَا معِي.

كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا … وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ

معاني المفرداتِ

كدأبِكَ: الدأْبُ والدأَبُ، هو العادة والحال والشأن، وأصل المعنى متابعة العمل والجد في السعي، دأب يدأب دأباً ودئاباً ودءوباً، وأدأبت السير: تابعته. وهو مصدر دأب في العمل إذا جد فيه واجتهد.

أم الحويرث: الحويرث: تصغير الحارث، وأم الحويرث هي هر أم الحارث بن حصن بن ضمضم الكلبي التي كان كثير الذكر لها في أشعاره.

اقرأ أيضاً:  شرح ففاضت دموع العين مني صبابة

قبلها: أي: قبل هذه التي شغفت بها الآن.

أم الرباب: امرأة من بني كلب أيضاً، وقيل: هما امرأتان من قضاعة.

مأسَل: هو اسم لجبل، ومأسِل، بكسر السين: اسم لماء، والرواية بفتح السين.

موضع بنجد يقال له: مأسل الحمار، وقيل: هو جبل بعينه، وقيل: هو ماء بعينه.

قال أبو جعفر النحاس في شرحه وتبعه الخطيب التبريزي: الكاف تتعلق بقوله: قفا نبك كأنه قال: قفا نبك كدأبك في البكاء فهي في موضع مصدر. والمعنى بكاء مثل عادتك. ويجوز أن تتعلق بقوله: وإن شفائي عبرة والتقدير: كعادتك في أن تشفى من أم الحويرث.

والباء في قوله: بمأسل متعلقة بدأبك كأنه قال: كعادتك بمأسل. وهو جبل.

وزاد الخطيب: وأم الحويرث هي هر أم الحارث بن حصين بن ضمضم الكلبي وأم الرباب من كلب أيضاً.

معنى البيت

لقيتَ بكاءً من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث وجارتها أم الرباب.

أو: عادتك في حب هذه كعادتك من أم الحويرث وأم الرباب، قلة حظك من وصال هذه ومعاناتك الوجد بها كقلة حظك من وصالهما، ومعاناتك الوجد بهما.

إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا … نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

معاني المفرداتِ

قَامَتَا: نهضتا، فألف التثنية تعود إلى أم الحُوَيْرِثِ وأم الرَّبَابِ المذكورتين في البيت السابق.

تَضَوَّعَ: فاح وانتشر.

المِسْكُ: يذكر ويؤنث، وكذلك العنبر، وقيل: من أنت ذهب به إلى معنى الريح.

نَسِيْمَ الصَّبَا: أي تنسم الرياح، وهو هبوب رياح الصبا لينة هادئة.

جاءت: حملت معها، يستعمل لازماً ومتعدياً، فإن كان بمعنى حضر فهو لازم، قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} وإن كان بمعنى وصل فهو معتد، قال تعالى: {إذا جاءك المؤمنات}.

الرَّيَّا: الرائحة الطيبة.

القَرَنْفُلِ: ثمر شجرة كالياسمين، وهو أفضل الأفاويه الحارة، واحدته قرنفلة وقرنفولة.

اقرأ أيضاً:  شرح فجئت وقد نضت لنوم ثيابها وحتى وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش

-قال الدينوري في كتاب النبات: القرنفل أجود ما يؤتى به من بلاد الصين، وقد كثر مجيء الشعر بوصف طيبه، وأنشد هذا البيت ثم قال: وقالوا قد أخطأ امرؤ القيس، فإنه لا يقال تضوع المسك حتى كأنه ريا القرنفل، إنما كان ينبغي أن يقول: تضوع القرنفل حتى كأنه ريا القرنفل، إنما كان ينبغي أن يقول: تضوع القرنفل حتى كأنه ريا المسك. انتهى، وتبعه الإمام الباقلاني في كتاب (إعجاز القرآن) وزيف هذا من وجوه.

-هذا البيت اتسع النقاد في تأويله: فمن قائل: تضوع مثل المسك منهما بنسيم الصبا ومن قائل: تضوع نسيم الصبا منهما ومن قائل: تشوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا وهذا هو الوجه عندي ومن قائل: تضوع المسك منهما بفتح الميم يعني الجلد بنسيم الصبا.

وقال ابن المستوفى في شرح أبيات المفصل: حدثني الإمام أبو حامد سليمان قال: كنا في خوارزم وقد جرى النظر في بيت امرئ القيس: إذا قامتا تضوع المسك منهما

فقالوا: كيف شبه تضوع المسك بنسيم الصبا والمشبه ينبغي أن يكون مثل المشبه به والمسك أطيب رائحة وطال القول في ذلك فلم يحققوه وكان سألني عنه فأجبت لوقتي أنه شبه حركة المسك منهما عند القيام بحركة نسيم الصبا لأنه يقال: تضوع الفرخ أي: تحرك ومنه تضوع المسك تحرك وانتشرت رائحته: وذلك أن المرأة توصف بالبطء عند القيام فحركة المسك تكون إذا ضعيفة مثل حركة النسيم وانتشاره كانتشاره فالتشبيه صحيح.

معنى البيتِ

إذا قامتْ أمُّ الحويرثِ وأمُّ الرَّبابِ منْ مكانهما فاحتْ وانتشرتْ ريحُ المسكِ منهما، مثلَ انتشارِ ريحِ الصَّبَا اللَّيِّنةِ الهادئةِ إذا حملتْ معها رائحةَ القَرَنْفُلِ الطَّيِّبةِ ونشرتها.

شبَّه طيبَ رائحتهما بطيبِ نسيمٍ هبَّ على قَرَنْفُلِ وأتى برائحتِهِ الطَّيِّبةِ، ثمَّ لـمَّا وصفهما بالجمالِ وطيبِ الرائحةِ وصفَ حالَهُ بعدَ بُعدهما في البيتِ التَّالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى