مصطلحات أدبية

الميتاسرد: كيف تكسر الرواية الجدار الرابع وتروي نفسها؟

ما الذي يجعل السرد الواعي بذاته ظاهرة أدبية فريدة؟

في عالم السرد الأدبي، تبرز ظواهر فنية تتحدى المألوف وتعيد تشكيل علاقة القارئ بالنص. من بين هذه الظواهر يأتي الميتاسرد كأحد أكثر الأساليب جرأة وابتكاراً، إذ يكشف للقارئ أسرار صناعة الحكاية ذاتها.

المقدمة

لقد شهد الأدب عبر تاريخه الطويل محاولات عديدة لتجاوز الحدود التقليدية بين العمل الفني والمتلقي. وإن كانت الرواية الكلاسيكية تسعى لإيهام القارئ بواقعية الأحداث وتغرقه في عالمها الخيالي دون أن تلفت انتباهه إلى طبيعتها كنص مصنوع، فإن الميتاسرد يسلك طريقاً معاكساً تماماً. إنه يكسر الوهم ويعلن بصراحة عن طبيعته الاصطناعية، مما يخلق تجربة قراءة فريدة تجمع بين المتعة الجمالية والوعي النقدي.

بالإضافة إلى ذلك، يُعَدُّ هذا النوع من السرد أداة فلسفية تطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الحقيقة والخيال، وحول دور الكاتب والقارئ في صناعة المعنى. فما هي حقيقة هذه الظاهرة الأدبية؟ وكيف تطورت عبر الزمن؟ وما الذي يجعلها جذابة للكتّاب والقراء على حد سواء؟

ما هو الميتاسرد وما أصوله التاريخية؟

الميتاسرد (Metafiction) هو شكل من أشكال الكتابة الأدبية التي تلفت الانتباه بشكل متعمد إلى طبيعتها كعمل فني مصنوع، وليس كتمثيل شفاف للواقع. إن المصطلح مشتق من البادئة اليونانية “ميتا” التي تعني “ما وراء” أو “حول”، وبالتالي فإن الميتاسرد هو سرد حول السرد نفسه، أو رواية تروي عملية روايتها.

من ناحية أخرى، فإن جذور هذه الظاهرة تمتد إلى قرون خلت، رغم أن المصطلح نفسه حديث نسبياً. لقد ظهرت بذور الميتاسرد في أعمال كلاسيكية مثل “دون كيخوته” لميغيل دي ثربانتس في القرن السابع عشر، إذ يناقش الجزء الثاني من الرواية شهرة الجزء الأول ويشير إلى وجود نسخة مزيفة من القصة. كما أن لورانس ستيرن في روايته “حياة وآراء تريسترام شاندي” استخدم تقنيات ميتاسردية جريئة كمخاطبة القراء مباشرة والتعليق على عملية الكتابة ذاتها. بينما شهد القرن العشرون ازدهاراً كبيراً لهذا الأسلوب مع كتّاب ما بعد الحداثة أمثال خورخي لويس بورخيس، وإيتالو كالفينو، وجون بارث، الذين جعلوا من الميتاسرد سمة مميزة لأعمالهم.

لماذا يلجأ الكتّاب إلى كسر الجدار الرابع؟

إن مفهوم “الجدار الرابع” (Fourth Wall) مستعار من المسرح، ويشير إلى الحاجز الوهمي بين العمل الفني والجمهور. فعندما يكسر الكاتب هذا الجدار في النص السردي، فإنه يخاطب القارئ مباشرة أو يعترف بوجوده، مما يحطم الوهم بأن الأحداث تجري بشكل مستقل عن عملية السرد نفسها.

اقرأ أيضاً:  الأدب المقارن: جسور بين الثقافات

فلماذا يختار الكتّاب هذا المسار المعقد؟ الإجابة متعددة الأبعاد. فقد يهدف الكاتب إلى تحقيق مسافة نقدية تسمح للقارئ برؤية الآليات التي تحكم بناء السرد، مما يعزز وعيه بطبيعة الفن كصناعة بشرية. كما أن كسر الجدار الرابع قد يكون وسيلة لخلق نوع من الحميمية بين الراوي والقارئ، إذ يتحول القارئ من مستهلك سلبي للنص إلى شريك فعّال في عملية صناعة المعنى. بالإضافة إلى ذلك، يُعَدُّ هذا الأسلوب أداة نقدية يستخدمها الكتّاب للتعليق على الأعراف الأدبية السائدة أو لفضح الطبيعة الإيديولوجية للسرد نفسه. الجدير بالذكر أن بعض الكتّاب يلجؤون إليه ببساطة لإضفاء طابع لعبي ومرح على النص، مما يخلق تجربة قراءة فريدة ومسلية.

كيف يتجلى الميتاسرد في الأشكال السردية المختلفة؟

تتنوع تجليات الميتاسرد وتختلف من عمل لآخر، مما يجعله ظاهرة غنية ومتعددة الأوجه. فهل يا ترى توجد أنماط محددة لهذه الظاهرة؟ في الواقع، يمكن رصد عدة أشكال بارزة:

الأشكال والتقنيات الميتاسردية

  • المخاطبة المباشرة للقارئ: إذ يتوجه الراوي أو الشخصية مباشرة إلى القارئ، معترفاً بوجوده ومحاوراً إياه حول الأحداث أو عملية السرد نفسها.
  • الرواية داخل الرواية: حيث يكتب أحد الشخصيات رواية أو يقرأها، مما يخلق مستويات متداخلة من السرد ويثير تساؤلات حول الحدود بين الواقع والخيال.
  • التعليق على عملية الكتابة: بينما يسرد الكاتب الأحداث، يعلق على صعوبات الكتابة أو خياراته السردية أو يناقش تردده بين بدائل مختلفة للحبكة.
  • كسر الاستمرارية السردية: من خلال تقديم نهايات متعددة، أو التوقف المفاجئ لمناقشة قضية نظرية، أو القفز بين مستويات سردية مختلفة.
  • الإشارات النصية الذاتية: كما أن بعض الأعمال تشير إلى نفسها ككتاب مادي، مع ملاحظات حول أرقام الصفحات أو هوامش تعليقية وهمية.

من جهة ثانية، تتفاوت درجة الوعي الذاتي في الميتاسرد، فبعض الأعمال تستخدمه بشكل خفيف وعابر، بينما تبني أعمال أخرى بنيتها الكاملة على هذا المبدأ. إن رواية “إذا كان المسافر في ليلة شتاء” لإيتالو كالفينو مثال صارخ على الميتاسرد الكامل، إذ تخاطب القارئ منذ الجملة الأولى وتحول تجربة القراءة نفسها إلى موضوع الرواية.

ما العلاقة بين الميتاسرد والقارئ؟

لقد غيّر الميتاسرد طبيعة العلاقة بين النص والقارئ بشكل جذري. إذاً كيف يحدث ذلك؟ في السرد التقليدي، يُفترض أن يذوب القارئ في العالم الخيالي، ناسياً أنه يقرأ نصاً مصنوعاً. وعليه فإن الميتاسرد يقاطع هذه الحالة من الانغماس السلبي ويطالب القارئ بوعي نقدي مستمر.

إن هذا النوع من السرد يحوّل القارئ من متفرج إلى مشارك فعّال في عملية صناعة المعنى. فقد يُطلب منه اتخاذ قرارات تؤثر على مسار السرد، أو قد يُدعى للتفكير في طبيعة العملية السردية ذاتها. بالمقابل، يمكن أن يشعر بعض القراء بالإحباط أو الارتباك عند مواجهة نص ميتاسردي، خاصة إذا كانوا معتادين على السرد التقليدي المباشر. هذا وقد أشار نقاد عديدون إلى أن الميتاسرد يتطلب نوعاً خاصاً من القراء، قراء على استعداد للمشاركة في لعبة فكرية معقدة تتحدى توقعاتهم وتفترض مستوى معيناً من المعرفة بالأعراف الأدبية.

اقرأ أيضاً:  التداخل الاندماجي: من المرايا اللانهائية إلى البنية السردية في الأدب والسينما

من ناحية أخرى، يخلق الميتاسرد علاقة حميمية فريدة بين الراوي والقارئ. إذ عندما يخاطبك الراوي مباشرة، يعترف بوجودك كقارئ، يشاركك شكوكه وتردداته، فإنه يؤسس لنوع من الشراكة السردية. وكذلك، فإن هذه العلاقة تحمل في طياتها عنصراً من السخرية والوعي المشترك بطبيعة اللعبة الأدبية، مما قد يعزز متعة القراءة لدى القارئ الواعي.

ما الخصائص الفنية المميزة للسرد الواعي بذاته؟

يتميز الميتاسرد بمجموعة من الخصائص الفنية التي تميزه عن أشكال السرد الأخرى. انظر إلى هذه السمات المحورية:

السمات الأسلوبية والبنائية

  • التناص الواعي: ومما يميز الميتاسرد استخدامه المتعمد للإشارات إلى نصوص أدبية أخرى، مع الاعتراف الصريح بهذه الإشارات ومناقشة علاقتها بالنص الحالي.
  • تعدد الأصوات السردية: بينما قد يستخدم العمل الواحد رواة متعددين يتنافسون أو يتناقضون في رواياتهم للأحداث نفسها، مما يثير تساؤلات حول الحقيقة وموثوقية السرد.
  • البنية اللاخطية: إذاً، فإن كثيراً من الأعمال الميتاسردية تتخلى عن البنية السردية الخطية التقليدية لصالح بنى معقدة تعكس وعياً ذاتياً بعملية البناء السردي.
  • المفارقة والسخرية: كما أن السخرية الذاتية تشكل عنصراً أساسياً في الميتاسرد، إذ يسخر النص من نفسه ومن الأعراف الأدبية التي يوظفها أو ينتهكها.
  • التجريب اللغوي: وبالتالي، فإن الميتاسرد غالباً ما يترافق مع تجريب لغوي يلفت الانتباه إلى اللغة كوسيط وليس كأداة شفافة للتواصل.

من جهة ثانية، تتجاوز هذه الخصائص البعد الشكلي لتحمل دلالات فلسفية عميقة. فقد يُطرح السؤال: ما الفرق بين الواقع والخيال؟ وهل الحياة نفسها نوع من السرد الذي نرويه لأنفسنا؟ إن الميتاسرد لا يكتفي بتقديم قصة، بل يدعو القارئ للتفكير في طبيعة القصص ذاتها ودورها في تشكيل فهمنا للعالم.

هل الميتاسرد ظاهرة حديثة أم قديمة؟

برأيكم ماذا لو قلنا إن الميتاسرد ليس اختراعاً حديثاً كما قد يظن البعض؟ الإجابة هي أن جذوره تضرب عميقاً في تاريخ الأدب. لقد مارس الأدب العربي القديم أشكالاً من الوعي الذاتي، فنجد في “ألف ليلة وليلة” بنية معقدة من القصص المتداخلة، إذ تروي شهرزاد قصصاً تحتوي على قصص أخرى، مما يخلق مستويات متعددة من السرد. كما أن الراوي في بعض الحكايات يتدخل ليعلق على الأحداث أو يخاطب المستمعين.

في الأدب الأوروبي، يُعَدُّ ثربانتس رائداً في هذا المجال، فروايته “دون كيخوته” لا تقدم فقط قصة الفارس المجنون، بل تناقش أيضاً تأثير الجزء الأول من الرواية على شخصيات الجزء الثاني، وتتعامل مع مسألة النسخ المزيفة والشهرة الأدبية. بالإضافة إلى ذلك، نجد في القرن الثامن عشر رواية “تريسترام شاندي” التي تُعَدُّ تحفة ميتاسردية مبكرة، إذ يعلق الراوي باستمرار على صعوبات كتابة سيرته الذاتية ويناقش خياراته السردية.

اقرأ أيضاً:  التناص في الرواية العربية المعاصرة: دراسة نقدية تفكيكية

على النقيض من ذلك، شهد القرن العشرين انفجاراً حقيقياً في استخدام الميتاسرد، خاصة في إطار ما بعد الحداثة. فقد استخدم كتّاب مثل بورخيس هذه التقنية لاستكشاف قضايا فلسفية معقدة حول الزمن والهوية والواقع. وكذلك، فإن كتّاباً معاصرين أمثال بول أوستر ومارغريت أتوود وديفيد فوستر والاس واصلوا تطوير هذا الأسلوب بطرق مبتكرة. الجدير بالذكر أن الميتاسرد انتقل أيضاً إلى وسائط أخرى كالسينما والتلفزيون وألعاب الفيديو، مما يؤكد استمرارية هذه الظاهرة وقدرتها على التكيف مع السياقات الثقافية المتغيرة.

الخاتمة

لقد أثبت الميتاسرد أنه أكثر من مجرد تقنية أدبية ذكية أو حيلة فنية عابرة. إنه يمثل رؤية عميقة لطبيعة السرد والحكاية ودورهما في حياتنا. إذ عندما تروي الرواية نفسها، فإنها تدعونا للتفكير في كيفية بناء المعاني وصناعة الحقائق، ليس فقط في الأدب، بل في الحياة ككل.

إن الميتاسرد يذكرنا بأن كل قصة هي اختيار، كل سرد هو منظور، وكل حقيقة أدبية هي بناء محتمل بين بدائل أخرى. وبالتالي، فإن هذا الوعي الذاتي لا يقلل من قيمة الأدب، بل يعمقها، إذ يحولنا من قراء سلبيين إلى مشاركين فاعلين في رحلة استكشاف لا تنتهي لعوالم السرد وإمكانياته اللامحدودة. من خلال كسر الجدار بين الخيال والواقع، بين الكاتب والقارئ، بين النص وما وراء النص، يفتح الميتاسرد آفاقاً جديدة للتجربة الأدبية ويؤكد حيوية الأدب وقدرته المستمرة على التجدد والمفاجأة.

هل أنت مستعد لخوض تجربة قراءة عمل ميتاسردي يتحدى توقعاتك ويكسر قواعد السرد التقليدي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى