ائتلاف القافية: جمالية المعنى في نسق النظم العربي

يُعدُّ النظم والقافية من الأسس الجوهرية التي يقوم عليها بناء الشعر العربي، وهما يمثلان دعامتين أساسيتين في تشكيل هويته الصوتية والتركيبية. فالقافية، بما تحمله من إيقاع موسيقي وتجانس صوتي في أواخر الأبيات، ليست مجرد علامة فاصلة بين الجمل الشعرية، بل هي عنصر فاعل يسهم في ترسيخ المعنى وإبراز الجمال الفني للنص. وإلى جانب هذا الدور الإيقاعي، يبرز مفهوم أعمق وأكثر دقة يُعرف بـ “ائتلاف القافية”، وهو يتجاوز مجرد التشابه الصوتي ليلامس عمق العلاقة بين لفظ القافية والمعنى الذي يسبقه في البيت.
إن “ائتلاف القافية” يمثل حالة من الانسجام والتوافق بين صوت القافية ودلالة الكلمات التي تسبقها، بحيث تكون القافية جزءًا لا يتجزأ من المعنى العام للبيت، وتخدم الغرض الذي يسعى الشاعر إلى تحقيقه. هذا التوافق ليس عارضًا أو ثانويًا، بل هو نتاج جهد واعٍ من الشاعر يسعى إلى تحقيق أعلى درجات البلاغة والتأثير في المتلقي. فإذا ما تحقق هذا الائتلاف، ارتقى النص الشعري ليصبح أكثر جمالًا وتأثيرًا، تاركًا بصمة أعمق في وجدان القارئ أو المستمع. وتهدف هذه المقالة إلى استكشاف مفهوم “ائتلاف القافية” بعمق، من خلال تتبع تعريفه في كتب البلاغة والنقد الأدبي، واستعراض شواهده في الشعر العربي القديم والحديث، وتحليل أمثلة محددة، وبيان أهميته من منظور النقاد واللغويين، ومقارنته بغيره من المفاهيم البلاغية، وصولًا إلى تأثيره على جمالية النص الشعري وتأثيره في المتلقي.
تعريف “ائتلاف القافية” في كتب البلاغة والنقد الأدبي
يُعرّف “ائتلاف القافية” في صلب السؤال بأنه “أن تكون القافية متعلقة بما تقدم من معنى البيت تعلق نظم له وملاءمة لما مر فيه” . هذا التعريف الموجز يضع اليد مباشرة على جوهر المفهوم، مؤكدًا على ضرورة وجود علاقة عضوية بين القافية والمعنى الذي تضمنه صدر البيت وعجزه. وقد تناول علماء البلاغة والنقد الأدبي هذا المفهوم أو ما يقاربه تحت مسميات مختلفة، مع اتفاقهم على المبدأ الأساسي المتمثل في ضرورة الانسجام بين القافية والمعنى.
فقد ورد في “نقد الشعر” لقدامة بن جعفر ما يشير إلى هذا المعنى تحت عنوان “نعت ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت” . هذا العنوان يؤكد على أن ائتلاف القافية هو صفة من صفات المعنى في الشعر، حيث يجب أن تكون القافية متناسبة ومتوافقة مع الدلالات التي يحملها بقية البيت. ويُعدُّ هذا النوع من “نعوت المعاني” جزءًا أساسيًا من تقييم جودة الشعر في النقد الكلاسيكي.
ويُستخدم مصطلح “التمكين” أحيانًا للدلالة على معنى قريب من “ائتلاف القافية”، خاصة في كتاب “تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر” لابن أبي الإصبع، حيث يُعرّف “التمكين” بأنه “ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت” . ويدل هذا المصطلح على أن القافية يجب أن تأتي مستقرة ومتمكنة في موضعها، بحيث يكون معناها مرتبطًا بشكل وثيق بمعنى البيت كله، فلا تكون نافرة أو قلقة، بل جزءًا أصيلًا من النسيج الدلالي للverse .
وفي سياق أوسع، يُعرّف الدكتور ياسين الأيّوبي في كتابه “الائِتلاف رَأسُ الوُجُوهِ البَلاغيَّة” مصطلح “الائتلاف” بشكل عام بأنه “أن يجمع الناظم أو الناثر بين أمر وما يناسبه في اللفظ والمعنى والوزن والقافية جمعاً يؤدي إلى تلاؤم وتوافق لا سبيل معهما إلى التضاد” . هذا التعريف الشامل يضع “ائتلاف القافية” ضمن إطار أوسع من التوافق والانسجام الذي يجب أن يسود عناصر النص الأدبي كافة، مؤكدًا على أهمية التناسب بين القافية والمعنى كأحد مظاهر هذا الائتلاف العام.
ويرى بعض النقاد أن “ائتلاف القافية مع المعنى” هو أحد الاحتمالات الثمانية للائتلاف بين أركان الشعر الأربعة: اللفظ، والمعنى، والوزن، والقافية . هذا التقسيم يؤكد على أن العلاقة بين القافية والمعنى هي علاقة أساسية يجب أن تُراعى لتحقيق جودة الشعر. وعلى الرغم من أن قدامة بن جعفر قد قلل من شأن القافية في بعض جوانب نقده ، إلا أن فكرة الانسجام بينها وبين المعنى تظل حاضرة كعنصر من عناصر الجودة الشعرية.
بل إن الدكتور محمد مندور يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى أن العناصر التي ذكرها قدامة عند تعريفه للشعر (اللفظ/الوزن/القافية/المعنى) عندما تكون في ائتلاف، تشكل أربعة أنواع من الائتلافات، أحدها هو “ائتلاف المعنى مع القافية”. هذا التأكيد المتكرر على هذا النوع من الائتلاف يدل على الأهمية التي يوليها النقاد للعلاقة بين المضمون الشعري والنسق الصوتي الذي يختتم الأبيات.
وعلى الرغم من اختلاف المصطلحات والتفصيلات، فإن جوهر “ائتلاف القافية” يتمحور حول فكرة أساسية: يجب أن تكون القافية منسجمة مع المعنى العام للبيت، بحيث لا تبدو غريبة أو منفصلة عنه، بل مكملة له ومؤكدة عليه. هذا الانسجام هو ما يضفي على الشعر جمالًا ورونقًا ويجعله أكثر تأثيرًا في المتلقي.
شواهد شعرية على “ائتلاف القافية” في الشعر العربي
تزخر مدونات الشعر العربي بشواهد عديدة تجسد مفهوم “ائتلاف القافية” في أبهى صوره. فقد كان الشعراء على مر العصور يحرصون على أن تكون قوافيهم ليست مجرد ترديد صوتي، بل جزءًا عضويًا من المعنى الذي يسعون إلى توصيله.
ومن أبرز الأمثلة التي توضح هذا المفهوم البيت الشعري الذي ورد في السؤال: “كالظبية الأدماء صافت فارتعت *** زهر العرار الغض والجثجاثا” . فكلمة “الجثجاثا” في القافية ليست مجرد كلمة تنتهي بحرف الألف، بل هي اسم لنبات معروف ترعاه الظباء. والبيت كله مبني لطلب هذه القافية، حيث يصف الظبية الأدماء وهي ترعى زهر العرار الغض، ومن الطبيعي أن يكون مرعاها أيضًا نبات الجثجاث. ولو كانت القافية كلمة أخرى لا علاقة لها بمرعى الظباء، لفقد البيت جزءًا كبيرًا من جماله وتأثيره .
ويُعدُّ بيت الراعي: “وإن وزن الحصى فوزنت قومي وجدت حصى ضريبتهم رزينا” مثالًا آخر على “ائتلاف القافية” الذي يأتي في سياق “التوشيح” . فكلمة “رزينا” في القافية بمعنى ثقيل، وهي تتناسب تمامًا مع فكرة وزن الحصى ووزن القوم، حيث تدل على قيمة قومه وثقل مكانتهم.
كما أن قول مضرس بن ربعي: “تمنيت أن ألقى سليماً ومالكاً على ساعة تنسى الحليم الأمانيا” يوضح كيف تتلاءم القافية “الأمانيا” (الأماني) مع مضمون البيت الذي يعبر عن التمني والرجاء .
وفي مثال آخر، يقول امرؤ القيس: “كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرجلنا الجزع الذي لم يثقب” . هنا تأتي القافية “لم يثقب” لتزيد المعنى وضوحًا وتأكيدًا، حيث أن عيون الوحش تشبه الجزع غير المثقوب، مما يضفي على الصورة قوة وجمالًا.
ويقول زهير: “كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم” . تتناسب القافية “لم يحطم” مع صورة فتات العهن وحب الفنا، حيث تدل على الدقة والنعومة.
وقد برع شعراء كبار مثل أبي تمام والبحتري والمتنبي في تحقيق “ائتلاف القافية” في أشعارهم. ففي قول أبي تمام: “ومن يأذن إلى الواشين تسلق مسامعه بألسنة حداد”، تتلاءم القافية “حداد” مع صورة الألسنة الحادة التي يتسلق بها الواشون إلى مسامع الناس .
وفي قول البحتري: “فلم أر ضرغامين أصدق منهما عراكاً إذا الهيابة النكس أكذبا”، تأتي القافية “أكذبا” لتبرز صفة الكذب التي يتصف بها الهيابة النكس، في مقابل صدق الضرغامين .
أما المتنبي فيقول: “يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم”، حيث تعكس القافية “عدم” الشعور بالفقد واللاشيء بعد فراق الأحبة .
وقد وصف النقاد قوافي النابغة الذبياني بأنها تتميز بـ “التمكين” القوي، كما في قوله: “كالأقحوان غداة غب سمائه جفت أعاليه وأسفله ندى”، حيث تأتي القافية “ندى” لتناسب صورة الأقحوان الذي جفت أعاليه وبقي الندى في أسفله .
وفي العصر الحديث، لا يزال الشعراء يولون اهتمامًا كبيرًا لـ “ائتلاف القافية”، وإن اتخذت أشكالًا مختلفة تتماشى مع التطورات التي طرأت على الشعر العربي. فعلى الرغم من ظهور الشعر الحر الذي لا يلتزم بقافية موحدة، فإن الشعراء الذين يكتبون الشعر الموزون المقفى يحرصون على أن تكون قوافيهم ذات صلة وثيقة بالمعنى. (لم يتم العثور على أمثلة محددة من الشعر الحديث في النصوص البحثية المتوفرة، ولكن من المعروف أن شعراء الحداثة والمعاصرين يواصلون استكشاف العلاقة بين القافية والمعنى بأساليب متنوعة).
إن هذه الشواهد الشعرية، من مختلف العصور، تؤكد على أن “ائتلاف القافية” لم يكن مجرد تفضيل جمالي، بل كان وما زال مبدأً أساسيًا في صياغة الشعر العربي الرفيع.
تحليل المثال الشعري: “كالظبية الأدماء صافت فارتعت *** زهر العرار الغض والجثجاثا“
يُعدُّ البيت الشعري: “كالظبية الأدماء صافت فارتعت *** زهر العرار الغض والجثجاثا” نموذجًا بليغًا يجسد مفهوم “ائتلاف القافية” بوضوح . لتحليل هذا البيت، لا بد من تفكيكه لغويًا ودلاليًا.
فـ “الظبية الأدماء” تشير إلى أنثى الغزال ذات اللون الداكن. وكلمة “صافت” تعني أصبحت خالصة ونقية أو هادئة. أما “فارتعت” فتدل على أنها أكلت وشبعت من المرعى. وفي الشطر الثاني، نجد “زهر العرار الغض”، حيث أن العرار هو نبات له زهر طيب الرائحة، و”الغض” يعني الطري والناعم. وأخيرًا، تأتي القافية بكلمة “الجثجاثا”، وهي اسم لنبات صحراوي آخر معروف برائحته الطيبة، وتشتهر الظباء برعيه.
العلاقة بين القافية “الجثجاثا” وبقية معنى البيت وثيقة ومتينة . فالبيت يصف مشهدًا طبيعيًا لظبية ترعى في بيئة غنية بالنباتات العطرية. وجميع عناصر البيت، من وصف الظبية بلونها وحالتها إلى ذكر زهر العرار الغض، تهيئ الذهن لذكر نوع آخر من النباتات التي تتغذى عليها الظباء في مثل هذه البيئة، وهو نبات الجثجاث.
إن اختيار كلمة “الجثجاثا” كقافية لم يأتِ اعتباطًا، بل هو ضرورة اقتضتها طبيعة الوصف في البيت . فلو كانت القافية كلمة أخرى لا تنتمي إلى عالم النباتات أو لا ترتبط بغذاء الظباء، لاختل الانسجام الدلالي في البيت وفقد الكثير من جماله وتأثيره. فليس من فائدة كبيرة في وصف الظبية بأنها ترعى نباتًا ما بشكل عام، بل التحديد بنوع معين من النباتات التي تتناسب مع بيئتها وصفاتها هو ما يضفي على الوصف دقة وجمالًا.
هذا التحليل يؤكد أن البيت الشعري المذكور قد بُنيَ بشكل كامل لخدمة هذه القافية تحديدًا، وأن القافية ليست مجرد نهاية صوتية للبيت، بل هي جزء أساسي من بنائه الدلالي وتصويره الفني.
أهمية “ائتلاف القافية” في جودة الشعر وبلاغته من منظور النقاد واللغويين
يُجمع النقاد واللغويون على أن “ائتلاف القافية” يمثل عنصرًا هامًا في جودة الشعر وبلاغته. فعندما تكون القافية منسجمة مع معنى البيت، فإن ذلك يسهم في تحقيق عدة جوانب جمالية وبلاغية.
فقد أشار قدامة بن جعفر إلى أن جودة الشعر تتحقق عندما تكون جميع عناصره—اللفظ والمعنى والوزن والقافية—جيدة ومتوافقة . وعلى الرغم من أنه قد يكون قلل من أهمية القافية مقارنة بالعناصر الأخرى في بعض المواضع، إلا أن فكرة الانسجام بينها وبين المعنى تظل حاضرة كعنصر أساسي في تقييم الشعر.
ويرى نقاد أبي الطيب المتنبي أن القافية تلعب دورًا محوريًا في شعره، بل إنها قد تكون العنصر الأهم الذي يوجه اختيارات الشاعر . هذا يدل على أن القافية، عندما تكون متلائمة مع المعنى، يمكن أن ترتقي بالقصيدة وتجعلها أكثر تأثيرًا.
وقد أكد قدامة أيضًا على أن القوافي يجب أن تكون عذبة وسلسة المخرج . هذه الصفة الجمالية للقافية نفسها تعزز من بلاغة الشعر، وعندما يضاف إليها التوافق مع المعنى، يزداد التأثير الجمالي والبلاغي للنص.
بل إن قدامة يعتبر أن بنية الشعر تقوم أساسًا على التسجيع والتقفية . هذا يشير إلى أن القافية ليست مجرد إضافة تزيينية، بل هي جزء جوهري من تعريف الشعر الجيد، وعندما تتوافق مع المعنى، فإنها تحقق الغاية الأساسية من النظم.
ويؤكد علم القافية على أهمية القافية في ضبط موسيقى الشعر وتحديد المعنى وربط البيت بالقصيدة ككل . فالقافية المتلائمة مع المعنى لا تخدم الجانب الصوتي فحسب، بل تسهم أيضًا في التماسك الدلالي للقصيدة.
كما أن القافية تمنح القصيدة لذة سمعية ومتعة نفسية . هذا التأثير الجمالي يتعزز بشكل كبير عندما تكون القافية منسجمة مع المعنى، حيث يشعر المتلقي بنوع من الرضا والكمال عند نهاية البيت.
وقد لوحظ أن ائتلاف اللفظ مع الوزن يهدف إلى تقوية النغم وتأكيد الوصف . وبالمثل، فإن “ائتلاف القافية” يسعى إلى تأكيد المعنى وإبرازه بشكل أكثر وضوحًا وتأثيرًا.
ويصف ابن أبي الإصبع “التمكين” (وهو مفهوم قريب من “ائتلاف القافية”) بأنه حالة تكون فيها القافية مستقرة في مكانها، مطمئنة في موضعها، ومعناها مرتبطًا بشكل كامل بمعنى البيت . هذا الوصف يدل على أن النقاد كانوا يقدرون بشدة القافية التي تأتي بشكل طبيعي ومنسجم مع المعنى.
إن هذه الآراء مجتمعة تؤكد على أن “ائتلاف القافية” ليس مجرد ميزة فنية مستحبة، بل هو عنصر أساسي في تحقيق جودة الشعر وبلاغته وتأثيره في المتلقي.
مقارنة بين “ائتلاف القافية” ومفاهيم بلاغية ذات صلة
يتميز مفهوم “ائتلاف القافية” بخصائص فريدة تميزه عن مفاهيم بلاغية أخرى تتعلق بالقافية أو ببناء البيت الشعري. من المهم إجراء مقارنة بينه وبين بعض هذه المفاهيم لتوضيح حدوده ودوره في البلاغة العربية.
التضمين: يُعرف التضمين بأنه تعليق قافية بيت ما بالبيت الذي يليه، بحيث لا يتم معنى الأول إلا بالثاني . وقد يُعدُّ التضمين عيبًا إذا كان المعنى لا يكتمل إلا بالبيت التالي بشكل كامل. في حين أن “ائتلاف القافية” يسعى إلى تحقيق التكامل والانسجام بين القافية والمعنى داخل البيت الواحد، بحيث تكون القافية خاتمة طبيعية ومكملة للمعنى الذي سبقها. فالتضمين يركز على الربط بين الأبيات، بينما يركز “ائتلاف القافية” على الانسجام الداخلي للبيت.
الإشارة: هي مصطلح بلاغي يعني اللفظ القليل الذي يُشار به إلى معانٍ كثيرة . وعلى الرغم من أن القافية قد تحمل أحيانًا إشارات أو دلالات ضمنية تتناسب مع معنى البيت، فإن “ائتلاف القافية” يهتم بشكل أساسي بالعلاقة الدلالية المباشرة بين القافية والمعنى الظاهر في البيت، وليس بالضرورة بالإيحاءات أو المعاني البعيدة.
الإيطاء: هو إعادة اللفظة نفسها بلفظها ومعناها في القافية على مسافة قريبة، ويُعدُّ عيبًا في الشعر . وهذا المفهوم يناقض فكرة “ائتلاف القافية”، حيث أن التركيز في “ائتلاف القافية” ينصب على ملاءمة المعنى، وليس على تكرار اللفظ بعينه. بل إن الإيطاء قد يخل بـ “ائتلاف القافية” إذا جاء بشكل مصطنع أو غير مبرر بالمعنى.
لزوم ما لا يلزم: هو أن يأتي قبل حرف الروي أو ما في معناه بما ليس بلازم في التقفية . هذا المفهوم يتعلق بالجوانب التقنية للصنعة الشعرية وإضافة قيود غير ضرورية للقافية. وهو يختلف عن “ائتلاف القافية” الذي يركز على الجانب الدلالي وملاءمة القافية للمعنى، بغض النظر عن مدى صعوبة أو سهولة تحقيق القافية من الناحية التقنية.
التوشيح: هو أن يكون أول البيت شاهدًا بقافيته، ومعناها متعلقًا به . يُمكن اعتبار التوشيح نوعًا خاصًا من “ائتلاف القافية”، حيث يتم إبراز العلاقة بين القافية والمعنى منذ بداية البيت، مما يخلق ترابطًا قويًا بينهما.
الإيغال: هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تامًا من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع، ثم يأتي بها لحاجة الشعر، فيزيد بمعناها في تجويد ما ذكره في البيت . يُعدُّ الإيغال أيضًا أسلوبًا لتحقيق “ائتلاف القافية”، حيث تأتي القافية لتضيف طبقة أخرى من المعنى أو التأكيد على المعنى الذي سبقها في البيت.
من خلال هذه المقارنة، يتضح أن “ائتلاف القافية” يتميز بتركيزه الأساسي على العلاقة الدلالية المباشرة بين القافية والمعنى داخل البيت الواحد، وهو يختلف عن المفاهيم الأخرى التي قد تركز على الربط بين الأبيات، أو على الجوانب الصوتية أو التقنية للقافية.
كيف يحقق الشعراء “ائتلاف القافية” وأهميته لهم
يتطلب تحقيق “ائتلاف القافية” من الشاعر مهارة فائقة وحساسية لغوية عميقة. فالشاعر الناجح هو الذي يستطيع أن يختار الألفاظ والعبارات في صدر البيت وعجزه بحيث تهيئ القارئ أو المستمع للقافية التي ستأتي في النهاية، وتكون هذه القافية ليست مجرد كلمة قافية، بل جزءًا طبيعيًا ومكملًا للمعنى الذي تم التعبير عنه.
يتطلب ذلك عناية فائقة باختيار الكلمات في جميع أجزاء البيت . فالشاعر يجب أن يختار الألفاظ التي تحمل المعنى المقصود بدقة، وفي الوقت نفسه تكون قابلة للتطويع بحيث تؤدي إلى قافية مناسبة من الناحية الصوتية والدلالية. كما يجب على الشاعر أن يأخذ في الاعتبار الموضوع العام للقصيدة ورسالتها عند اختيار القوافي، بحيث تكون القوافي متسقة مع هذه الموضوعات والرسائل وتخدمها.
إن تحقيق “ائتلاف القافية” يدل على إتقان الشاعر لفن الشعر وقدرته على استخدام اللغة ببراعة . فهو ليس مجرد إيجاد كلمة قافية، بل هو بناء البيت بشكل متكامل بحيث تكون القافية هي الذروة الطبيعية للمعنى. وهذا الإتقان يعزز من جمال شعرهم وتأثيره في المتلقي .
كما أن “ائتلاف القافية” يسهم في تحقيق الهدف الأساسي للشعر وهو الكشف عن المعاني وتقديمها بشكل مؤثر . فالقافية المتلائمة مع المعنى تساعد في ترسيخ هذا المعنى في ذهن المتلقي وتجعله أكثر وضوحًا وتأثيرًا.
إن الشاعر الذي ينجح في تحقيق “ائتلاف القافية” يظهر قدرته على الربط بين الشكل والمضمون في شعره، وهذا هو جوهر الإبداع الفني. فالقافية في هذه الحالة لا تكون قيدًا يعيق الشاعر، بل أداة قوية تخدم رؤيته الفنية وتعزز من جمال شعره.
تأثير “ائتلاف القافية” على جمالية النص الشعري وتأثيره في المتلقي
يُحدث “ائتلاف القافية” تأثيرًا عميقًا على جمالية النص الشعري وتأثيره في المتلقي. فعندما تكون القافية متناغمة مع معنى البيت، فإن ذلك يخلق شعورًا بالانسجام والكمال في النص . هذا الانسجام يعزز من الموسيقية والإيقاع الداخلي للبيت، ويجعل تجربة الاستماع أو القراءة أكثر متعة وجمالًا.
كما أن القافية المتلائمة مع المعنى تعمل على تقوية هذا المعنى وتأكيده في ذهن المتلقي . فعندما يشعر القارئ أو المستمع بأن نهاية البيت تأتي بشكل طبيعي ومنسجم مع ما سبقها، فإن ذلك يزيد من اقتناعه بالمعنى ويزيد من تأثيره العاطفي عليه.
ويمنح “ائتلاف القافية” المتلقي شعورًا بالرضا والاكتمال عند نهاية البيت، حيث يشعر بأن الفكرة قد تم التعبير عنها بشكل كامل ومناسب. وهذا الشعور بالكمال يسهم في جعل القصيدة أكثر جاذبية وسهولة في الحفظ والتذكر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحقيق “ائتلاف القافية” يدل على مهارة الشاعر وإتقانه لفنه، وهذا بدوره يزيد من تقدير المتلقي لجهده وقدرته الإبداعية. فالقارئ أو المستمع الذي يدرك مدى الانسجام بين القافية والمعنى يزداد إعجابه بالشاعر وبشعره.
إن “ائتلاف القافية” يمثل جوهرًا من جواهر البلاغة العربية، فهو يجمع بين جمال الصوت وعمق المعنى ليخلق تجربة شعرية فريدة ومؤثرة في المتلقي.
خاتمة: “ائتلاف القافية” كجوهر من جواهر البلاغة العربية
في الختام، يتبين أن “ائتلاف القافية” ليس مجرد تقنية شعرية بسيطة، بل هو مفهوم عميق الجذور في البلاغة والنقد الأدبي العربي. إنه يمثل السعي الدائم للشعراء نحو تحقيق الانسجام الكامل بين صوت الكلمة ومعناها، وبين شكل القصيدة ومضمونها. هذا الائتلاف هو ما يميز الشعر الرفيع ويمنحه القدرة على التأثير العميق في المتلقي، تاركًا في نفسه أثرًا جماليًا وفكريًا لا يمحى. إن “ائتلاف القافية” يظل شاهدًا على عظمة اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن أدق المعاني وأجمل الصور في نسق صوتي فريد ومتناغم.
تعريفات “ائتلاف القافية” والمصطلحات ذات الصلة
المصطلح | المصدر | التعريف |
ائتلاف القافية | موسوعة علوم اللغة العربية | هو أن تكون القافية متعلقة بما تقدم من معنى البيت تعلق نظم له وملاءمة لما مر فيه. |
نعت ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت | نقد الشعر لقدامة بن جعفر | أن تكون القافية معلقة بما تقدم من معنى البيت تعلق نظم له وملائمة لما مر فيه. |
التمكين | تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر لابن أبي الإصبع | ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت. / حالة تكون فيها القافية مستقرة في مكانها، مطمئنة في موضعها، ومعناها مرتبطًا بشكل كامل بمعنى البيت. |
الائتلاف | الائِتلاف رَأسُ الوُجُوهِ البَلاغيَّة للدكتور ياسين الأيّوبي | أن يجمع الناظم أو الناثر بين أمر وما يناسبه في اللفظ والمعنى والوزن والقافية جمعاً يؤدي إلى تلاؤم وتوافق لا سبيل معهما إلى التضاد. |
التوشيح | نقد الشعر لقدامة بن جعفر | أن يكون أول البيت شاهدًا بقافيته، ومعناها متعلقًا به، حتى أن الذي يعرف قافية القصيدة التي البيت منها، إذا سمع أول البيت عرف آخره وبانت له قافيته. |
الإيغال | نقد الشعر لقدامة بن جعفر | هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تامًا من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع، ثم يأتي بها لحاجة الشعر، فيزيد بمعناها في تجويد ما ذكره في البيت. |
التضمين | ميزان الذهب في صناعة شعر العرب | هو تعلق ما فيه قافية بأخرى، وهو قبيح إن كان مما لا يتم الكلام بدونه، ومقبول إذا كان فيه بعض المعنى لكنه يُفسَّر بما بعده. |
الإشارة | موقع نهج البلاغة | هو اللفظ القليل يشار به الى معانِ كثيرة، بايماء اليها ولمحة تدل عليها. |
الإيطاء | ميزان الذهب في صناعة شعر العرب | هو إعادة اللفظة ذاتها بلفظها ومعناها، وإنما يجوز بمعنى مختلف نحو «إنسان» للرجل، ولناظر العين، وأجازوا إعادة اللفظة ذاتها بمعناها بعد سبعة أبيات. |
لزوم ما لا يلزم | كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري | هو أن يأتي قبل حرف الروي أو ما في معناه من الفاصلة بما ليس بلازم في التقفية، ويُلتزم في بيتين أو أكثر من «النظم» أو في فاصلتين أو أكثر من «النثر». |