ما سبب تسمية ليلة القدر؟

ليلة القدر، تلك الليلة المباركة التي تنتظرها القلوب بشغف كل عام، تحمل في طياتها أسرارًا ومعاني عميقة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ما سر تسمية هذه الليلة العظيمة بـ”ليلة القدر”؟ وما الدلالات الكامنة وراء هذا الاسم الذي يرسم في أذهاننا صورًا من العظمة والرحمة الإلهية؟
في هذا المقال، سنغوص معًا في بحر المعاني والتفاسير التي تناولت سبب تسمية ليلة القدر. سنستعرض آراء كبار العلماء والمفسرين، ونستكشف الحكمة من تسمية هذه الليلة بهذا الاسم الذي يحمل في جوهره قدرًا من الأسرار. هل هي ليلة التقدير والقضاء الإلهي؟ أم أنها ليلة الشرف والمنزلة الرفيعة؟ أم لأن الأرض تضيق فيها بكثرة الملائكة؟
انضم إلينا في رحلة معرفية نتتبع فيها خيوط التفسير ونستكشف الأوجه المختلفة لمعنى “القدر”، لنعيد اكتشاف هذه الليلة التي تمثل محطة مهمة في حياة كل مسلم، ونستشعر عظمة ما أودعه الله فيها من خير وبركة.
معنى القدر
القَدْرُ: مصدرُ قولِهِمْ: قَدَّرَ اللَّهُ الشَّيءَ قَدْراً وقَدَراً، إذا حَكَمَ وقَضَى وقَسَمَ.
والقَدْرُ، والقَدَرُ واحدٌ، إلَّا أنَّهُ بالتَّسكينِ مصدرٌ وبالفتحِ اسمٌ.
قالَ الواحديُّ: القدرُ في اللُّغةِ بمعنى التَّقديرِ، وهوَ جعلُ الشَّيءِ على مساواةِ غيرِهِ مِنْ غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ.
سببُ تسميةِ ليلةِ القدرِ بهذا الاسمِ
في تسميتِهَا بذلِكَ أقوالٌ:
١ -ليلةُ الحُكْمُ والقضاءِ: أي يُقَدِّرُ اللَّهَ أمرَ السَّنَةِ إلى السَّنةِ الأخرى مِنْ مطرٍ ورزقٍ وإحياءٍ، حتَّى يُكْتَبَ الحَاجُّ يَحِجُّ فُلانٌ وَيَحِجُّ فَلانٌ، ويُسَلِّمَهُ إلى مدبِّراتِ الأُمورِ، وهُمْ أربعةٌ مِنَ الملائكةِ إسرافيلُ، وجبريلُ، وميكائيلُ، ومَلَكُ الموتِ عليهِمُ السَّلامُ.
إلَّا الشَّقاوةَ والسَّعادةَ والموتَ والحياةَ، فهيَ ثابتةٌ لا تتغيَّرُ، وإنَّمَا يُنْسَخُ لملكِ الموتِ مَنْ يموتُ ليلةَ القدرِ إلى مثلِهَا.
قالَهُ ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وعبدُ الرَّحمنِ السُّلَمِيُّ وقتادةُ والشَّعبيُّ وسعيدُ بنُ جبيرٍ وعكرمةُ والحسنُ البصريُّ والطَّبريُّ وعمرُ مولى غفرةَ والفرَّاءُ والواحديُّ وابنُ سِيده وابنُ فارسٍ والقاضي عياضٌ وغيرُهُمْ.
-وعنْ عكرمةَ، قالَ: سمعتُهُ يقولُ: يُؤَذَّنُ للنَّاسِ بالحجِّ ليلةَ القدرِ فيُكْتَبُونَ بأسمائِهِمْ، قالَ محمَّدٌ، وأظنُّه قالَ: وأسماءِ آبائِهِمْ لا يُغادرُ أحداً ممَّنْ كُتِبَ تلكَ اللَّيلةَ، ولا يُزادُ فيهِمْ ولا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، ثُمَّ قرأَ عكرمةُ {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدُّخانُ: ٤].
-وعنْ عمرَ مولى غفرةَ قالَ: يُقالُ: يُنْسَخُ لمَلَكِ الموتِ مَنْ يموتُ ليلةَ القدرِ إلى مثلِهَا، وذلِكَ أنَّ اللَّهَ يقولُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وقالَ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، قالَ: فتجدُ الرَّجلَ ينكِحُ النِّساءَ، ويُعْرِسُ العرسَ واسمُهُ في الأمواتِ.
-وقيلِ للحسينِ بنِ الفضلِ: أليسَ قدْ قدَّرَ اللَّهُ سبحانَهُ المقاديرَ قبلَ أنْ يخلقَ السَّماواتِ والأرضَ؟ قالَ: نعمْ، قالَ: فما معنى ليلةِ القدرِ؟ قالَ: سوقُ المقاديرِ إلى المواقيتِ وتنفيذُ القضاءِ المقدَّرِ.
-قالَ الفخرُ الرَّازيُّ: واعلمْ أنَّ تقديرَ اللَّهِ لا يحدثُ في تلكَ اللَّيلةِ، فإنَّهُ تعالى قدَّرَ المقاديرَ قبلَ أنْ يخلقُ السَّماواتِ والأرضَ في الأزلِ، بلِ المرادُ إظهارُ المقاديرَ للملائكةِ في تلكَ اللَّيلةِ بأنْ يكتَبَهَا في اللَّوحِ المحفوظِ، وهذا القولُ اختيارُ عامَّةِ العلماءِ.
-قالَ الخازنُ: ومعنى هذا أنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ ذلِكَ لملائكتِهِ ويأمرُهُمْ بفعلِ ما هوَ مِنْ وظيفتِهِمْ بأنْ يَكتبَ لَهُمْ ما قدَّرَهُ في تلكَ السَّنةِ ويُعَرِّفَهُمْ إيَّاهُ، وليسَ المرادُ مِنْهُ أنْ يُحْدِثَهُ في تلكَ اللَّيلةِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قدَّرَ المقاديرَ قبلَ أنْ يخلقَ السَّماواتِ والأرضَ في الأزلِ.
-قالَ هلالُ بنُ يسافٍ: كانَ يُقالُ: انتظرُوا القضاءَ في شهرِ رمضانَ.
٢ –ليلةُ العظمةُ والشَّرفِ، مِنْ قولِ النَّاسِ لفلانٍ عندَ الأميرِ قَدْرٌ أي جاهٌ ومنزلةٌ، يُقالُ: قَدَّرْتُ فلاناً؛ أي عظَّمْتُهُ، قالَهَا الزُّهريُّ.
وهذا يحتملُ وجوهاً:
أ -أي لأنَّهَا ليلةٌ لَهَا قدْرٌ ومنزلةٌ وخطرٌ وشرفٌ وشأنٌ عندَ اللَّهِ تعالى؛ لِمَا يوصفُ الشَّيءُ العظيمُ بالقدرِ والمنزلةِ.
أوردَهُ الزَّمخشريُّ، والماتريديُّ، وابنُ فورك، والثَّعلبيُّ، ومكِّيُّ، وابنُ عيسى، وابنُ فضالٍ المجاشعيُّ، والقاضي عياضٌ وغيرُهُمْ.
ب -وقيلَ لأنَّ مَنْ لمْ يكنْ ذا قدرٍ يصيرُ في هذهِ اللَّيلةِ ذا قدرٍ إذا أدرَكَهَا وأحياهَا، قالَهُ أبو بكرٍ الورَّاقُ.
ج -وقيلَ: إنَّ كلَّ عملٍ صالحٍ يؤخَذُ فيهَا مِنَ المؤمنِ فيكونُ ذا قدرٍ وقيمةٍ عندَ اللَّهِ لكونِهِ مقبولاً فيهَا.
لأنَّ للطَّاعاتِ فيهَا قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. أوردَهُ الثَّعلبيُّ، والبغويُّ، وابنُ عطيَّةَ، وابنُ حيَّانٍ، وابنُ الخازنِ.
د -وقيلَ: لأنَّهُ نَزَلَ فيهَا كتابٌ ذو قدرٍ، على لسانِ مَلَكٍ ذي قدرٍ، على أمَّةٍ لَهَا قدرٌ، قالَهُ أبو بكرٍ الورَّاقُ.
هـ -لأنَّ اللَّهَ سبحانَهُ يقدِّرُ رحمةً ذاتَ قدرٍ فيهَا على عبادِهِ المؤمنينَ، قالَهُ سهلُ بنُ عبدِ اللَّهِ، وعليُّ بنُ عبيدِ اللَّهِ.
و -وقيلَ: لأنَّهُ ينزلُ فيهَا إلى الأرضِ ملائكةٌ أولو قدرٍ وذوو خطرٍ.
أوردَهُ الثَّعلبيُّ، وعليُّ بنُ عبيدِ اللَّهِ، والبعليُّ.
٣ –لأنَّ الأرضَ تضيقُ فيهَا بالملائكةِ:
قالَ الخليلُ: سُمِّيَتْ بذلِكَ لأنَّ الأرضَ تضيقُ فيهَا بالملائكةِ مِنْ قولِهِ تعالى: {ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}. أي ضُيِّقَ.
أوردَهُ الثَّعلبيُّ، وابنُ الجوزيِّ، والخازنُ، والفخرُ الرَّازيُّ، وابنُ حيَّانٍ، والسَّمينُ الحلبيُّ، والنَّيسابوريُّ، والبعليُّ.
هذا واللَّهُ أعلى وأعلمُ.
خاتمة
في ختام رحلتنا لاستكشاف سبب تسمية ليلة القدر، نجد أن هذه الليلة تحمل من المعاني ما يتجاوز حدود الكلمات والتفسيرات. هي ليلة تجمع بين قدر التقدير الإلهي، وعظمة الشرف والمكانة، وضيق الأرض بكثرة الملائكة. كل تفسير يضيف بُعدًا جديدًا لجلال هذه الليلة وروعتها.
ليلة القدر هي فرصة سنوية تفتح فيها أبواب السماء، وتتنزل فيها البركات والرحمات. هي دعوة لكل قلب مؤمن ليقترب أكثر من خالقه، ولينهل من فيض عفوه وكرمه. إنها ليلة تتجسد فيها معاني الإيمان واليقين، وتُكتب فيها أقدارنا للعام المقبل.
فلنجعل من هذه الليلة محطة للتأمل والتوبة والعمل الصالح. لنعش معاني القدر بكل تفاصيلها، ولنسعى أن نكون من أهلها الذين نالوا فضلها وبركتها. فبين يدي هذه الليلة المباركة، تتجدد الآمال، وتُتيح لنا فرصة لنبدأ من جديد برحلة إيمانية نحو رضا الله ومحبته.
الأسئلة الشائعة
١. ما معنى كلمة “القدر” في ليلة القدر؟
“القدر” في اللغة يعني الحكم والقضاء والتقدير. وهو مصدر فعل “قدَّر”، أي حكم وقضى وقسَّم الأمور بحكمة وعدل دون زيادة أو نقصان. في سياق “ليلة القدر”، يشير إلى التقدير الإلهي للأمور، حيث يقدِّر الله مقادير الخلق وأحداث العام المقبل.
٢. لماذا سُمّيت ليلة القدر بهذا الاسم؟
سُمّيت ليلة القدر لعدة تفسيرات:
- ليلة الحكم والقضاء: لأن الله يقدِّر فيها ما سيكون في العام القادم من أرزاق وآجال وأحداث، وتُكتب هذه المقادير وتُسلَّم إلى الملائكة المدبّرات للأمور.
- ليلة الشرف والمنزلة: لأنها ليلة ذات قدر عظيم وشرف كبير، نزل فيها القرآن الكريم، وهي خير من ألف شهر.
- ضيق الأرض بكثرة الملائكة: لأن الأرض تضيق بالملائكة التي تنزل في هذه الليلة بالرحمات والبركات، فالقدر هنا بمعنى الضيق.
٣. ما المقصود بليلة الحكم والقضاء في ليلة القدر؟
يقصد بليلة الحكم والقضاء أن الله سبحانه وتعالى يقدِّر في هذه الليلة ما سيحدث في السنة المقبلة من أحداث وأقدار، كالأرزاق والأعمار والحوادث، ويُبلِّغ ذلك للملائكة لتنفيذه. فهي ليلة تسليم المقادير وتنفيذ الأوامر الإلهية.
٤. كيف يتم تقدير الأمور في ليلة القدر إذا كان الله قد قدّرها منذ الأزل؟
الله سبحانه قدّر كل شيء في الأزل، ولكن في ليلة القدر يُظهر هذه المقادير للملائكة ويأمرهم بتنفيذها. فهي ليلة إعلام الملائكة بالأحداث القادمة وتكليفهم بالمهام الموكلة إليهم، مثل قبض الأرواح وتوزيع الأرزاق.
٥. ما علاقة ليلة القدر بالشرف والمنزلة الرفيعة؟
ليلة القدر تُسمى بهذا الاسم لأنها ليلة عظيمة القدر، نزل فيها القرآن الكريم، وهو كتاب ذو قدر، على رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر. وهي ليلة يعلو فيها شأن الأعمال الصالحة ويُضاعف فيها الأجر والثواب.
٦. كيف يمكن للإنسان أن يصبح ذا قدر في ليلة القدر؟
من خلال إحياء ليلة القدر بالعبادة والتقرب إلى الله. فالإنسان الذي يقوم هذه الليلة إيمانًا واحتسابًا يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويصبح له قدر ومكانة عند الله بسبب اجتهاده وطاعته.
٧. ماذا يعني أن الأرض تضيق في ليلة القدر بالملائكة؟
يعني ذلك أن الملائكة تنزل بأعداد كبيرة في ليلة القدر، حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم. وهذا يدل على عظمة الليلة وكثرة البركات والرحمات التي تتنزل فيها، فالملائكة يشاركون المؤمنين عبادتهم ويؤمّنون على دعائهم.
٨. ما هي أبرز الأعمال المستحبة في ليلة القدر؟
- الصلاة والقيام: إحياء الليل بالتهجد والصلوات النافلة.
- قراءة القرآن: تلاوة القرآن وتدبر آياته.
- الدعاء والاستغفار: كثرة الدعاء، خاصة الدعاء المأثور: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.
- الذكر والتسبيح: الإكثار من ذكر الله وتعظيمه.
- الصدقة وفعل الخير: التصدق ومساعدة المحتاجين.
٩. لماذا تعتبر ليلة القدر فرصة عظيمة للمسلمين؟
لأنها ليلة تتضاعف فيها الحسنات، والعمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر. فيها تُفتح أبواب السماء وتُستجاب الدعوات وتُغفر الذنوب. إنها فرصة للتوبة والعودة إلى الله وتجديد العهد معه.
١٠. كيف يمكن التحري عن ليلة القدر والاستعداد لها بشكل صحيح؟
- التحري في العشر الأواخر: تكثيف العبادة في الليالي الفردية من العشر الأواخر من رمضان.
- الاعتكاف: المكوث في المسجد للتفرغ للعبادة والتقرب إلى الله.
- تنظيم الوقت: تجنب الانشغال بأمور الدنيا والتركيز على الطاعات.
- الإخلاص في النية: توجيه القلب والنية لله وحده.
- المداومة على العمل الصالح: الاستمرار في الأعمال الصالحة بعد رمضان.