الرثاء عند لبيد بن ربيعة: بين فجيعة الأخ وتأبين العظماء والحكمة الخالدة
تحليل شامل لخصائص المراثي في شعر الفارس المخضرم لبيد بن ربيعة العامري

يُعد شعر الرثاء (Elegy) من أغنى الأغراض الشعرية التي عكست وجدان الشاعر الجاهلي، ويبرز الرثاء عند لبيد بن ربيعة كنموذج فريد يجمع بين الألم الشخصي والحكمة الإنسانية.
مقدمة في فن الرثاء عند لبيد بن ربيعة
يُعتبر الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة العامري أحد أبرز الأصوات الشعرية التي خلدها التاريخ، ويحتل غرض الرثاء مكانة خاصة في ديوانه، حيث يعكس تجربة إنسانية عميقة ومشاعر صادقة. يمكن تقسيم تجربة الرثاء عند لبيد بن ربيعة إلى قسمين أساسيين، لكل منهما خصائصه وملامحه التي تميزه، وهو ما يكشف عن قدرته على التعبير عن الفقد بأساليب متنوعة تجمع بين العاطفة الجياشة والتأمل الفلسفي.
إن فهم هذين القسمين يمنحنا نظرة شاملة على كيفية تعامل الشاعر مع فكرة الموت والفقدان. ورثاء لبيد كفخره مقسوم بين خاص وعام. أما الخاص فبكاء أخيه أربد، وأما العام فتأبين العظماء من بني عامر. كان أربد أسنّ من لبيد وكان كثير البر بأخيه، يكلؤه، ويعوضه ما حرمه اليتم من رعاية الأب، فأحبّه لبيد وأخلص له وقال فيه ما قالت الخنساء في أخيها صخر. إذ رثاه بعشر قصائد وأرجوزة واحدة.
الرثاء الخاص: فداحة الرزء في مرثية الأخ أربد
يُظهر الرثاء عند لبيد بن ربيعة في جانبه الخاص أصدق صور الألم الإنساني، حيث يمثل فقدان أخيه أربد جرحاً غائراً لا يندمل. أول ما يطالعك في رثاء لبيد أخاه فداحة الرزء النازل بالشاعر، فقد تركه موت أخيه كسير الجناح، مفلول السلاح مضلّل القصد كأنه حرم النور الذي يهديه سواء السبيل.
لقد تجسدت هذه الفجيعة في أبيات خالدة تعبر عن حجم الخسارة، حيث لم يكن أربد مجرد أخ، بل كان السند والضوء الذي يهتدي به الشاعر في دروب الحياة. ويظهر ذلك في قوله:
يَا أَرْبَدَ الخَيْرِ الكَرِيمَ جُدُودُهُ ** ** أَفْرَدْتَي أمشي بِقَرنٍ أَعْضَبا
إن الرزِيَّةَ لا رزِيَّةَ مِثْلُهَا ** ** فقدانُ كُل أخ كضوء الكَوْكَبِ
عمق الأسى والحث على البكاء
إن هذا المصاب الجلل أوجع لبيداً فتفجع وأحزنه فبكى، ومضى يحث عينه على البكاء، لأن أربد كان حاميه من الأذى، وناصره في الشدائد. تتجلى هذه العلاقة الوطيدة في استحضاره للمواقف الصعبة التي كان أخوه فيها درعاً حصيناً له، وهو ما يفسر عمق حزنه ولجوءه إلى البكاء كوسيلة للتعبير عن لوعته، كما يتضح في الأبيات التالية:
- استدعاء العين للبكاء: “يا عين هَلَّا بُكَيْتِ أَرْبَدَ إِذْ ** ** قمنا وَقامَ الخُصُومُ في كَبَدِ”
- التذكير بدور الأخ في الشدائد: “وعين هَلَا بُكَيْتِ أَرْبَدَ إِذ ** ** ألوَتْ رِياحُ الشَّتاءِ بالعضدِ”
ولم يكن لبيد صغير السن يوم قتلت الصاعقة أخاه، لكنه ـ على كهولته – ظل يكبر أخاه، ويرى فيه من أبيه بدلاً، ولذلك حزن عليه حزناً صدع كبده، وقرح جفونه، فاستعان بابنة أخيه مي عسى أن تندبه معه فمن كان له مثل ذكاء أربد وفضائله يستحق الإكبار، ومن كان له مثل قلب لبيد الوجيع الصديع فهو جدير بالإسعاف:
يا ميَّ قومي في المآتم واندُبي ** ** فتى ممن كان يبني المجدَ أَرْوَعا
وقولي: ألا لا يُبْعِدِ اللَّهُ أَرْبَداً ** ** وَهَدِّي بِهِ صَدْعَ الفُؤادِ الْمُفَجَّعا
لعمرُ أبيك الخير يا بنَةً أَرْبَدٍ ** ** لَقَدْ شَفَّني حُزْنٌ أَصَابَ فَأَوْجَعَا
التسليم للقدر: وداع الأخ والإيمان بحتمية الفراق
بعد أن أفرغ لبيد ما في شؤونه من دمع التمس العزاء فعزّ عليه، فاستسلم للقدر، وودع أخاه راضياً بحكم الله، مؤمناً بأن كل شمل إلى افتراق، وكلّ جمع إلى تبدد. يُعد هذا التحول من البكاء الحار إلى الحكمة الهادئة سمة بارزة في الرثاء عند لبيد بن ربيعة، حيث يجد الشاعر سلواه في التأمل في قوانين الكون الأزلية.
هذا الإيمان يظهر في مقارنته بين فناء البشر وخلود الظواهر الكونية العظيمة، فلا يبقى في النهاية إلا رواسي الجبال وثوابت النجوم، فيقول مودعاً:
فودِّع بالسّلام أبا حُزيزٍ ** ** وَقَلْ وَدَاعُ أَرْبَدَ بالسّلام
فهل نُبئْتَ عَنْ أَخَويْنِ دَاما ** ** على الأَيَّامِ إِلَّا ابْنَي شمامِ
وَإِلا الفَرْقَدَينِ وَآلَ نُعشٍ ** ** خوالدَ ما تحدَّثُ بانهدامِ
الرثاء العام: تأبين عظماء بني عامر
هذا ضرب من الرثاء، وفي شعر لبيد ضرب آخر هو رثاء السراة من بني عامر. وفي هذا الضرب يفتر الحزن، وتحلّ الحكمة الرزان محلّ العاطفة المضطرمة، ويطغى على الشعر لون من الفخر يعدد فيه الشاعر أسماء الراحلين، ويشفع الأسماء بالمناقب. كان الرثاء عند لبيد بن ربيعة في هذا السياق سجلاً لمآثر قومه وأمجادهم، ومن أبرز من رثاهم:
١. كلاب وجعفر: من سادات قومه الذين يمثلون المجد القديم.
٢. ربيع المقترين: والد الشاعر الذي قتله بنو أسد في يوم ذي علق، وهو رمز الكرم والعطاء.
٣. قيس بن جزء: الذي يمثل نموذج البطولة والتضحية، حيث حمى قومه، وبات على فرسه ربيئة لأصحابه، فنجوا، ولم ينجُ مَنْ حماهم من موت الفجاءة وهو آمن في سربه.
يقول في تذكرهم:
فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ عِندَكِ سالماً ** ** فلستُ بِأَحْيَا مِنْ كِلابِ وَجَعْفَرِ
وَلَا مِنْ رَبِيعِ المُقترينَ رُزِئْتُهُ ** ** بذي عَلَقٍ، فاقني حَيَاءَكِ وَاصْبِرِي
وقيس بن جَزْءٍ يَومَ نَادَى صِحابَهُ ** ** فعاجُوا عَليهِ مِنْ سَوَاهِمَ ضُمَّرِ
الحسرة والغربة: مواجهة جيل لا يفي بالعهد
وقد تمزقه الحسرات حين يتذكرهم ويرى نفسه شيخاً متهدماً، تخطف الموت أصحابه، وحرمه بعدهم لذة العيش وأجبره على معايشة أجيال جديدة. يصف لبيد هذا الجيل الجديد بصفات سلبية، فهم لا يفون بعهد، ولا يصلحون لمجالسة، ولا يحسنون قولاً في نديّ، مما يضاعف من شعوره بالغربة والوحشة في زمن لم يعد زمنه.
يتساءل الشاعر فكيف العزاء؟ لقد أضناه الحزن، وشفه الغم، وهو ما يعبر عنه بمرارة في أبياته التي تقارن بين جيل الأجداد الأماجد والجيل الحاضر الذي يراه هزيلاً:
ذَهَبَ الَّذينَ يُعاش في أكنافِهِمْ ** ** وبَقيتُ في خَلْفٍ كجلد الأجربِ
بتَأْكُلُونَ مغالَةً وَخِيانَةٌ ** ** وَيُعَابُ قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ
سبل العزاء بين استعادة الماضي والإذعان للقدر
لم يجد العزاء إلا في أمرين أساسيين شكّلا ملاذه النفسي في مواجهة هذا الواقع المؤلم. هذان الأمران هما جوهر الحكمة التي تطبع الرثاء عند لبيد بن ربيعة، ويمكن تلخيصهما في النقاط التالية:
- أولهما الذاكرة: التي تربطه بالقديم، فيجوز على جناحها حاضره المظلم إلى غابره الوضيء، ويستعيد أمجاد الأجداد.
- ثانيهما الإذعان لحكم القدر: وهو الصبر على البلاء النازل، لأنه لو شكا لم يُشكيه، فالدهر لا يعتب على من يعاتبه.
يقول في وصف هذا الحال:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنتُ لهُمْ أباؤهم ** ** والعِزُ قَدْ يَأْتِي بِغَيْرِ تطلُّبِ
فبرى عظامي بَعْدَ الحَمِي فَقدُهُمْ ** ** والدهرُ إِنْ عَاتَبْتُ لَيْسَ بِمُعْتِبِ
خلاصة خصائص الرثاء عند لبيد بن ربيعة
ولبيد في هذا الضرب من الرثاء القبلي العام كان ـ على جفاف عينيه وهدأة حزنه – عميق الحزن يحسّ الغربة في وطنه، والوحشة بين الأبناء والحفدة. إن هذا الشعور العميق بالغربة يمثل ذروة المأساة في شعره، فهو لا يجد من يفهم حجم خسارته أو يشاركه حنينه إلى الماضي المجيد.
يُظهر هذا التحليل أن الرثاء عند لبيد بن ربيعة يتجاوز مجرد البكاء على المفقودين ليصبح تأملاً في الحياة والموت والزمن. ولعلّ أمضى ما كان يمضه عجزه عن البوح الصريح بما في نفسه، لأن هؤلاء الصغار لن يدركوا مأساة الكبير الغريب، مما يجعله يعيش ألمه بصمت، متسلحاً بالحكمة والصبر وذكريات زمن مضى.
سؤال وجواب
١. ما هي الأقسام الرئيسية للرثاء في شعر لبيد بن ربيعة؟
ينقسم الرثاء عند لبيد بن ربيعة إلى قسمين أساسيين: رثاء خاص يتمثل في بكائه الحار على أخيه أربد، ورثاء عام يتجلى في تأبينه لعظماء قومه من بني عامر بأسلوب يغلب عليه الفخر والحكمة.
٢. من هو أربد وما هي مكانته عند الشاعر لبيد؟
أربد هو الأخ الأكبر للشاعر لبيد، وكان بمثابة الأب والسند له، يعوضه عن يتمه ويرعاه. لذلك، كان لموته أثر فاجع على الشاعر الذي اعتبره خسارة لا تضاهيها خسارة، وضوء حياته الذي انطفأ.
٣. كيف تختلف عاطفة لبيد بين رثائه لأخيه ورثائه لعظماء قومه؟
في رثائه لأخيه أربد، كانت عاطفته متأججة ومباشرة، مليئة بالألم الشخصي والفجيعة الصادقة. أما في رثائه العام لسادات قومه، فتفتر العاطفة لتحل محلها الحكمة الرزينة والفخر بمناقب الراحلين وتعداد مآثرهم.
٤. ما هو الدور الذي تلعبه الحكمة في مراثي لبيد بن ربيعة؟
تلعب الحكمة دوراً محورياً، خصوصاً في الرثاء العام، حيث تمثل وسيلة الشاعر للتسليم بالقدر والتصالح مع فكرة الموت الحتمية. تظهر الحكمة في تأملاته حول فناء البشر وخلود الكون، والصبر على البلاء.
٥. ما هي مظاهر شعور لبيد بالغربة والوحشة في شعره؟
تتجلى غربة لبيد في شعوره بالانقطاع عن جيله، حيث يرى نفسه وحيداً بعد رحيل أقرانه، ومحاطاً بجيل جديد لا يفي بالعهد ولا يمتلك قيم الأجداد، مما جعله يحس بالوحشة والعجز حتى عن البوح بمأساته.
٦. كيف استعان لبيد بالطبيعة والكون في التعبير عن فكرة الفناء والخلود؟
استخدم لبيد عناصر كونية ثابتة مثل “ابني شمام” (جبلان) و”الفرقدين” و”آل نعش” (النجوم) ليقارن بين خلودها وفناء الإنسان، مؤكداً على أن كل شيء إلى زوال إلا هذه الثوابت الكونية، كوسيلة للتسليم بحتمية الفراق.
٧. ما أوجه الشبه بين رثاء لبيد لأخيه ورثاء الخنساء لأخيها صخر؟
يذكر النص أن لبيداً قال في أخيه ما قالته الخنساء في أخيها صخر، ويكمن الشبه في عمق الفجيعة وصدق العاطفة، حيث كان كل من أربد وصخر سنداً ودرعاً لأخيه، فجاء رثاؤهما نموذجاً خالداً لرثاء الأخ في الشعر العربي.
٨. ما هي الوسائل التي وجد فيها لبيد العزاء بعد فقد أحبته؟
وجد لبيد العزاء في أمرين رئيسيين: أولهما الذاكرة التي تعيده إلى الماضي المشرق وأمجاد أجداده، وثانيهما الإذعان لحكم القدر المقدور والصبر على المصاب، لأنه أدرك أن الشكوى للدهر لا تجدي.
٩. ماذا يقصد لبيد بقوله “وبقيت في خلف كجلد الأجرب”؟
هذا التشبيه القوي يعكس مدى شعوره بالنبذ والغربة بين الجيل الجديد “الخلف”. فهو يرى نفسه بينهم كشيء منبوذ ومريض لا يرغب أحد في الاقتراب منه، مما يبرز عمق الهوة بينه وبين معاصريه.
١٠. كيف تحول الحزن في شعر لبيد من البكاء إلى التأمل الفلسفي؟
يبدأ حزن لبيد، خاصة في رثاء أخيه، بالبكاء الحار والدعوة للندب، لكنه سرعان ما يتطور إلى مرحلة التأمل والتسليم بالقدر. هذا التحول يعكس نضج الشاعر وقدرته على تجاوز الألم الشخصي نحو حكمة إنسانية أوسع حول الحياة والموت.