علوم القرآن الكريم

نزول القرآن على سبعة أحرف: ما حقيقته وما الحكمة منه؟

كيف نفهم التوسعة الإلهية على الأمة في قراءة كتابها؟

يُعد موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف من المباحث القرآنية التي تجمع بين الجمال والعمق، وتتطلب من الدارس فهماً دقيقاً للنصوص النبوية الشريفة. وقد اهتم العلماء قديماً وحديثاً بدراسة هذا الموضوع لما له من أهمية في فهم طبيعة القرآن الكريم وكيفية نزوله.

المقدمة

إن نزول القرآن على سبعة أحرف يمثل رحمة إلهية عظيمة بالأمة الإسلامية، فقد راعى الله تعالى اختلاف لهجات العرب ولغاتهم، فأنزل كتابه بما يسهل على جميعهم قراءته وحفظه. وهذا الموضوع جميل ومعبر، كما أنه في الوقت نفسه شائك ومتشعب، لما فيه من تنوع مجال البحث، واتساع أطراف ومساحة تلك المجالات، ولاسيما تلك الجوانب التي اتبع فيها بعض الباحثين القدماء طريق الرأي المجرد عن الاحتكام إلى الوثائق الصحيحة التي تنير للدارس سبيل البحث، حتى بالغ بعضهم فقال: إن الأحرف السبعة من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

تعريف الأحرف السبعة

الحرف في أصل كلام العرب معناه الطرف والجانب، وحرف السفينة والجبل جانبهما، ومنه قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين). أي إن من الناس من لا يدخل في الدين دخول متمكن، فإن أصابه خير أي خصب وكثر ماله أو ماشيته اطمأن به، ورضي بدينه، وإن أصابته فتنة اختبار بجدب أو قلة مال انقلب على وجهه أي رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان. ومنه سمي الحرف من حروف الهجاء.

وقال الجوهري: حرف كل شيء طرفه وشفيره، وحده، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. والحرف من الإبل: النجيبة الماضية التي أنضتها الأسفار، شبهت بحرف السيف في مضائها ونجائها ودقتها، وقيل: هي الضامرة الصلبة، شبهت بحرف الجبل في شدتها وصلابتها. أما المراد بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن كما تواترت بذلك الأحاديث فنعرفه بما يلي: الأحرف السبعة هي سبعة أوجه فصيحة من اللغات والقراءات أنزل عليها القرآن الكريم.

ثبوت الأحرف السبعة بالتواتر

وقد ثبتت التوسعة على الأمة بإنزال القرآن على سبعة أحرف ثبوتاً قاطعاً لصحة أسانيد الأحاديث الواردة كما سنذكر بعضاً منها، وكثر رواتها في كل عصر كثرة تبلغ بها درجة التواتر الذي يفيد اليقين. وفي الحديث أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال يوماً هو على المنبر: أذكر الله رجلاً سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف.

فقال عثمان: «وأنا أشهد معهم» رواه أبو يعلى الموصلي. وهذا يدل على تواتر الأحرف السبعة في عصر الصحابة، والتواتر إنما يثبت للحديث بأن يكون رواته في كل طبقة عدداً كثيراً يستحيل تواطؤهم على الكذب، وقد تتبع العلماء روايات حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وحكموا نتيجة البحث أنه حديث متواتر ثابت ثبوتاً قطعياً يقينياً. قال الإمام شمس الدين بن الجزري رحمه الله: «وقد نص الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله على أن هذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: (القائل ابن الجزري): وقد تتبعت طرق هذا الحديث في جزء مفرد جمعته في ذلك…».

الحكمة من إنزال القرآن على سبعة أحرف

هذا وتدل الأحاديث على الحكمة والسر من وراء نزول القرآن على سبعة أحرف، وذلك هو مراعاة اليسر على العرب حملة القرآن إلى العالم، لتعدد لغاتهم ولهجاتهم، وقد اعتادوا النطق بالألفاظ على هيئات معينة، فكانت الأحرف السبعة مراعاة لذلك، وبدعاء وطلب مؤكد من النبي صلى الله عليه وسلم. ففي حديث أبي بن كعب الصحيح قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: «يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط». قال: «يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف».

وقد عني العلماء بدراسة اختلاف لغات العرب، وبيان فصيحها وأفصحها، وما هو بعيد عن الفصاحة منها في دراسات واسعة مستفيضة، نذكر أمثلة من هذا الاختلاف في لغاتهم فيما يلي:

الوجه الأول: الاختلاف في الحركات: نحو نستعين بفتح النون وكسرها.

الوجه الثاني: الاختلاف في الحركة والسكون: نحو «معكم» و«مَعْكُم».

الوجه الثالث: الاختلاف في إبدال الحروف: نحو قولهم (إن زيداً، وعن زيداً).

الرابع: الهمز والتسهيل نحو (مستهزئون» و«مستهزون».

الخامس: الحذف والإثبات: مثل (صددت) و«أصددت».

السادس: الإمالة والتفخيم: مثل «قضى» و«رمى»، فبعضهم يفخم، وبعضهم يميل.

السابع: الإعراب: نحو «ما زيد قائماً» و«ما زيد قائم» و«إن هذين» و«إن هذان».

الثامن: الجمع: نحو «أسرى» و(أسارى).

بيان الأحرف السبعة في الحديث النبوي

ولما أن سبيل درس هذا الموضوع هو النقل الثابت الصحيح عن الذي لا ينطق عن الهوى، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيه إلا لحسن الفهم، والترجيح بين الآراء وتعرف الصواب من الخطأ، فإنا نقدم نخبة من الأحاديث الثابتة تلقي لنا الضوء على هذا الموضوع فيما يلي. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» متفق عليه.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم، لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟! قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال: أرسله. اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر. فقرأت التي أقرأني فقال: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه». متفق عليه.

وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار. قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين» فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا).

اقرأ أيضاً:  تحديات تدريس اللغة العربية كلغة ثانية

ما تدل عليه الأحاديث

١ – التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم:

أن القراءة بأي حرف من هذه الأحرف يلزم فيها اتباع التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأحرف كلها نزل بها الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ليس شيء منها مفوضاً إلى الناس، ولا يجوز أن يقرأ القارئ من لغته ولهجته إلا ما ورد به النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأول ما يدل على ذلك هذا التعبير «أنزل» الذي تواترت به الأحاديث فإنه يدل على أنه نزل به الوحي، وهو منصوص فيه على كل واحد من اللغات واللهجات التي يقرأ بها الناس. فمصدر الأحرف إذن هو الوحي وحده، خلافاً لما زعمه بعض الناس أنه يوسع للقارئ أن يقرأ بلغته من غير التزام بالتلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ويدل على ذلك أيضاً دلائل كثيرة في نصوص الأحاديث: ففي حديث عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم يغضب عمر لأنه سمع حكيماً يقرأ بحروف لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، لا لكونها تخالف لهجته، ويجيبه حكيم فيقول: «قرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم». ويقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً جواز كل من القراءتين: «كذلك أنزلت». وذلك كثير في الأحاديث، يدل على أن المعيار في قبول الحرف أو رده ليس هو عدم ألفته من السامع، ولا كونه لهجة غير مألوفة له، إنما الأساس في الموضوع كله هو السماع والتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عدم التلقي عنه.

٢ – الاختلاف في أداء الألفاظ:

تثبت عبارات الأحاديث المفصلة الواردة في الأحرف السبعة أصلاً هاماً يجب ألا يغيب عن بال الباحث في تفسير الأحرف السبعة، وهو أنها وجوه في أداء الألفاظ فقط، أي كيفيات في القراءة. وجه الدلالة على ذلك أن الخلاف بين الصحابة في القراءة إنما وقع حول الألفاظ، ولم يكن اختلافاً في تفسير المعاني، انظر إلى قول عمر بن الخطاب: «فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وهكذا سائر العبارات تشير إلى أن القضية كانت تدور حول كيفية قراءة الألفاظ، لا تفسير المعاني.

وقد خالف هذا الأصل الهام من فسر الأحرف السبعة في هذه الأحاديث بأنواع من المعاني في القرآن الكريم، وقد تعددت مذاهبهم في بيان هذه الأبواب السبعة، فمنهم من قال: إنها «الحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، والإنشاء، والأخبار». وقيل: هي «الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمجمل والمبين، والمفسر». وقيل: «أمر ونهي، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال». واحتجوا بما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر وأمر، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال…».

وقد أجيب عن هذا الحديث والمذهب بأجوبة كثيرة نلخص أهمها فيما يلي:

آ – أن حديث ابن مسعود هذا منقطع لأن راويه عن ابن مسعود أبو سلمة ابن عبد الرحمن لم يلق ابن مسعود، وقد ورد الحديث من طريق آخر عن ابن مسعود من قوله غير مرفوع، فلا يحتج به ويكون تصنيفاً من ابن مسعود لمقاصد القرآن، كذلك لم يخل حديث ورد في هذا المعنى من ضعف، مما يجعلها بعيدة عن الاحتجاج لا سيما في قضية كهذه من شأنها أن تشتهر الرواية فيها أو تتواتر، ومع ذلك فما خلا سند لرواياتها من ضعف…

ب – مصادمة هذه الأحاديث للقرآن الكريم نفسه، فلو كان اختلافهم فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم وما أشبه ذلك لكان مستحيلاً أن يصوب النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم، فيتعين أن يكون الاختلاف في كيفية القراءة.

٣ – حقيقة العدد سبعة:

أن عدد السبعة المذكور في الأحاديث يراد به حقيقة العدد (سبعة)، وأنه ليس ثمة توسع في أوجه قراءة القرآن يتجاوز سبع لغات من لغات العرب، وذلك ظاهر جداً من كثرة ورود هذا اللفظ في الأحاديث، وأنه يدل في اللغة على هذا المعنى. ولو كان المراد غير حقيقة السبعة لما توارد في كل الأحاديث على هذا اللفظ. وقال بعض العلماء: (ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة، ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جنح القاضي عياض).

ويرد على هذا الرأي بأنه ليس له دليل يستند إليه في هذا التفسير للفظ السبعة بغير معناه اللغوي الأصلي، وإذا كان قد اغتر بورود أوجه في القراءات تزيد على السبعة فذلك غير كاف ولا صالح في الاستدلال، لأن كل أوجه القراءات لا تخرج عن الأحرف السبعة كما سيتضح من متابعة البحث. ومما يدل على أن المراد بالسبعة حقيقة العدد الأحاديث الكثيرة الثابتة بالأسانيد البالغة غاية الصحة على تدرج الترخيص بناء على طلب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ سبعة أحرف، ففي حديث أبي بن كعب: «أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثانية: اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي. فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف». وهذا ظاهر أن المراد حقيقة العدد. وكذلك حديث ابن عباس، وقوله: (حتى انتهى إلى سبعة أحرف»، فإنه ظاهر ساطع الدلالة على أن المراد حقيقة العدد (سبعة).

تحديد الأحرف السبعة

اتجه العلماء في تحديد الأحرف السبعة اتجاهين رئيسين ترجع إليهما الأقوال في تحديد الأحرف السبعة. فقد ذهب فريق منهم إلى استخراج الأحرف باستقراء أوجه الخلاف الواردة في قراءات القرآن كلها صحيحها وسقيمها ثم تصنيف هذه الأوجه سبعة أصناف، بينما عمد آخرون إلى التماس الأحرف السبعة في لغات قبائل العرب، فتكون بذلك مذهبان رئيسان، نذكر نموذجاً عن كل منهما فيما يلي.

مذهب استقراء أوجه الخلاف في لغات العرب، وفي القراءات كلها ثم تصنيفها، وقد تعرض هذا المذهب للتنقيح على يد أنصاره الذين تتابعوا عليه، ونكتفي هنا بأهم تنقيح وتصنيف لها فيما نرى، وهو تصنيف الإمام الرازي نسوقه فيما يلي: قال أبو الفضل عبد الرحمن الرازي: فمن التأويلات التي يحتملها الخبر ولم يتقدم على نظامه تأويل هو أن كل حرف من الأحرف السبعة المنزلة جنس ذو نوع من الاختلاف:

أحدها: اختلاف أوزان الأسماء من الواحد والتثنية والجموع والتذكير والتأنيث والمبالغة وغيرها. ومن أمثلته: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)، وقرىء (لأمانتهم) بالإفراد.

والثاني: اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه، نحو الماضي والمستقبل والأمر، وأن يسند إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به. ومن أمثلته: «قالوا ربنا باعد بين أسفارنا» بصيغة الدعاء، وقرىء: ربنا بَعِّدْ، فعلاً ماضياً.

الثالث: وجوه الإعراب: ومن أمثلته: «ولا يضار كاتب ولا شهيد»، قرىء بفتح الراء وضمها، «ذو العرش المجيد» برفع «المجيد» وجره.

اقرأ أيضاً:  نزول القرآن الكريم: من اللوح المحفوظ إلى قلب النبي

الرابع: الزيادة والنقص: مثل: (وما خلق الذكر والأنثى)، قرىء: (والذكر والأنثى).

الخامس: التقديم والتأخير: مثل: (فيقتلون ويقتلون)، قرىء: «فيقتلون ويقتلون»، ومثل: (وجاءت سكرة الموت بالحق)، وقرىء: (وجاءت سكرة الحق بالموت».

السادس: القلب والإبدال في كلمة بأخرى، أو حرف بآخر: مثل: «وانظر إلى العظام كيف ننشرها» بالزاي، وقرىء: «ننشرها» بالراء.

السابع: اختلاف اللغات: مثل: «هل أتاك حديث موسى» تقرأ بالفتح والإمالة في: «أتى» و«موسى» وغير ذلك من ترقيق وتفخيم، وإدغام، وهكذا.

ثم قال أبو الفضل الرازي: «… فهذا التأويل مما جمع شواذ القراءات ومشاهيرها ومناسيخها على موافقة الرسم ومخالفته، وكذلك سائر الكلام لا ينفك اختلافه من هذه الأجناس السبعة المتنوعة، فإن وافق هذا التأويل معنى الخبر» أي حديث الأحرف السبعة «حذواً حذو فقد أصاب من أخذ به، وإن لم يوافقه فلا شك في دخول معنى الخبر تحت هذه الوجوه، وإن لم يكن مرتباً عليها».

أما المذهب الثاني فيرى: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات قبائل العرب الفصيحة. وذلك لأن المعنى الأصلي للحرف هو اللغة، فأنزل القرآن على سبع لغات مراعياً ما بينها من الفوارق التي لم يألفها بعض العرب، فأنزل الله القرآن بما يألف ويعرف هؤلاء وهؤلاء من أصحاب اللغات، حتى نزل في القرآن من القراءات ما يسهل على جلهم، وبذلك كان القرآن نازلاً بلسان قريش والعرب كما قال الإمام البخاري في صحيحه.

النتيجة في تحديد الأحرف السبعة

فهذان المذهبان أقوى ما قيل، وأرجح ما قيل في بيان المراد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، وهما يحققان ما وردت به الأحاديث من نزول القرآن على سبعة أحرف يقرأ بها. لكن المذهب الأول يحتاج إلى تعديل في الأمثلة التي أدرجها في تصنيفه، وذلك لأنه أخذ في حسبانه كل اختلاف ورد بأي طريق كان، ولو كان شاذاً أو ضعيفاً أو منكراً: مثل: «وجاءت سكرة الحق بالموت» فالرواية بها ضعيفة سنداً منكرة متناً، الحق ليس له سكرة، بل هو يقظة وصحوة.

كذلك أدخلت هذه الطريقة ما أسماه العلماء بالقراءات التفسيرية، كأن يتلو الصحابي أو الإمام الآية في مجلس العلم ويفسر كلمة من الآية أو جملة منها بكلمة أو جملة مفسرة في موضعها، فيظنها البعض قراءة فينقلها قراءة. مثل قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم»، قرأ ابن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما»، وهذه قراءة تفسيرية. وكذلك قوله تعالى في كفارة اليمين: (فصيام ثلاثة أيام)، قرأ ابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات»، وهذه قراءة تفسيرية.

ومثل قوله تعالى: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً» قرأ ابن عباس: «وكان أمامهم…» وهذه القراءة ليست لتبليغ نص القرآن، بل لتفسيره، وكأن ابن عباس أراد أن يبين أنه ليس المراد من «وراء» الجهة، بل بيان إحاطة القوة، كما يقول القوي لعدوه (أينما ذهبت أنا وراءك). لذلك جعلنا هذين المذهبين أرجح المذاهب، لما بينهما من الاشتراك في تحقيق الغرض.

هل الأحرف السبعة عزيمة أو رخصة

والآن بعد هذا التحقيق يمكننا أن نجيب عن هذا السؤال: هل الأحرف السبعة رخصة مؤقتة، بما ذكرنا من الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف، وقد انتهت بكتابة المصاحف، أو أنها عزيمة أي أمر مقرر يجب بقاؤه؟ وبعبارة أخرى هل ما يقرأ به المسلمون من القراءات اليوم يشتمل على الأحرف السبعة ويحققها، أو أنه حرف واحد، وأين هي الستة الباقية إذن؟

إن الاختلاف في حقيقة الأحرف السبعة، قد جر ذيوله إلى هذه المسألة أيضاً، حتى رأى بعض العلماء الكبار كالطبري المفسر ومن وافقه: «أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما استنسخ الصحف من عند حفصة أمر أن يكون ذلك على حرف واحد، وذلك للنجاة بالأمة من الاختلاف في كتاب ربها، اختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، وبذلك تم جمع الأمة على حرف واحد، وأمر الناس بترك ما سواه، فتتابع المسلمون على تلاوة هذا الحرف، وبذلك اندثرت الأحرف الستة وعفت آثارها، فلا سبيل اليوم إلى القراءة بها…».

ويرى المحققون في هذا الموضوع كالإمام الباقلاني وغيره أن الأحرف السبعة باقية، وأن المصاحف العثمانية التي استنسخها عثمان بن عفان رضي الله عنه قد اشتملت على الأحرف السبعة جميعاً. والسبب في هذا الاختلاف يرجع كما ذكرنا إلى الاختلاف في الأحرف السبعة ما هي حقيقتها؟ فالطبري ومن معه توسعوا في الأحرف السبعة وأدخلوا فيها القراءة بالمترادفات، مثل هلم وتعال وأقبل، بشرط أن يكون منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووجدوا ذلك غير مسطور في المصاحف، فقالوا إنها قد تركت. أما الباقلاني والمحققون من الفقهاء والقراء والمتكلمين فلم يتوسعوا ذلك التوسع، لذلك قالوا إن الأحرف السبعة باقية، وقد اشتملت عليها المصاحف العثمانية.

وهذا هو القول الصحيح الثابت الذي لا محيد عنه، وذلك لأدلة كثيرة نذكر منها:

١ – أن الطبري ومن معه بنوا رأيهم على التوسع في الأحرف السبعة حتى أدخلوا فيها ما نقل شاذاً أو منكراً، وقلما يصح مما ذكروه، وغاية ما صح من ذلك أنه خبر آحاد، ورد عن صحابي قرأ قراءة تفسيرية كما سبق أن ذكرنا، ولو كان شيء من ذلك قرآناً لوجب أن يثبت بالتواتر، وذلك ما لم يتوفر في شيء قط مما جعلوه من الأحرف السبعة.

٢ – إن المصاحف العثمانية توسعت فدونت غير مشكولة ولا منقوطة، لكي يتسع رسمها للأحرف السبعة، حتى إذا لم يتسع الرسم الواحد كتب بعضها برسم الحرف الذي لا يدخل في احتمال الرسم، كما وقع في المصحف المكي في آخر براءة: (تجري من تحتها الأنهار)، وفي غيره بحذف «من»، وكذا ما وقع من اختلاف بين مصاحف الأمصار في عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات: وهذا يعني أن القرآن نزل بالأمرين المتنوعين في الأداء، والمعنى واحد لا يختلف، ولولا أن المصاحف اشتملت على الأحرف السبعة لما أثبتت فيها هذه الفروق.

وهذه عبارات الإمام المحقق أبي بكر الباقلاني تلقي الضوء ساطعاً على القضية، قال رحمه الله: لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلقاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه….. لأن القوم عندنا لم يختلفوا في هذه الحروف المشهورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي لم يمت حتى علم من دينه أنه أقرأ بها، وصوب المختلفين فيها، وإنما اختلفوا في قراءات ووجوه أخر لم تثبت عن الرسول عليه السلام، ولم تقم بها حجة، وكانت تجيء مجيء الآحاد وما لا يعلم ثبوته وصحته. وكان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل، نحو قوله: «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»… «فإن فاءوا فيهن»، و(لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج)…. فمنع عثمان من هذا الذي لم تثبت ولم تقم الحجة به، وأحرقه، وأخذهم بالمتعين المعلوم من قراءات الرسول عليه السلام.

اقرأ أيضاً:  قراءات القرآن وتواترها: كيف حُفظت وما ضوابط قبولها؟

الأحرف السبعة والإعجاز

وفي نهاية بحث الأحرف السبعة نشير بإيجاز إلى دلالة هامة لهذه الأحرف وما نتج عنها من القراءات التي سيأتي الحديث عنها، فقد كان لها الفضل بين أن أحيت من لهجة فصيحة، أو حفظته لنا من لغة صحيحة، وما أضافته من المعاني. على أن ثمة دلالة هامة ينبغي الإشارة إليها وهي دلالتها على إعجاز القرآن، فإن النظم القرآني الذي يجري عليه ما عرفناه من أوجه الأداء ثم يبقى في إعجازه، وعليائه لا بد أن يكون معجزاً. ودونك فاختبر إضافة كلمة إلى النص القرآني، أو اختبر قراءة غير متواترة، يتبين لك مصداق ما نقول، فليس في الدنيا كلام يطرأ عليه مثل الأحرف السبعة، ثم يظل حيث أراد له صاحبه، فضلاً عن وصف الإعجاز.

الخاتمة

لقد تبين لنا من خلال هذا البحث المعمق أن نزول القرآن على سبعة أحرف يمثل رحمة إلهية بالأمة، وتيسيراً عليها في حفظ كتاب ربها وقراءته. وقد ثبت ذلك بالأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء على صحة هذه الأحاديث وثبوتها. كما تبين أن الأحرف السبعة ليست رخصة مؤقتة قد انتهت، بل هي باقية في المصاحف العثمانية التي جمع عليها الصحابة الأمة، وما زال المسلمون يقرؤون بها إلى يومنا هذا. وإن هذا التنوع في القراءات ضمن الأحرف السبعة يدل دلالة واضحة على إعجاز القرآن الكريم، الذي يبقى في علو منزلته وسمو بيانه مهما تنوعت أوجه الأداء، وهذا ما لا يوجد في كلام البشر. فالحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، ويسر لنا حفظه وتلاوته على مر العصور والأزمان.

سؤال وجواب

١. ما المقصود بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم؟

الأحرف السبعة هي سبعة أوجه فصيحة من اللغات والقراءات أنزل عليها القرآن الكريم، وهي تمثل التنوع في أداء الألفاظ القرآنية مراعاة لاختلاف لهجات العرب ولغاتهم. وقد ثبت ذلك بالأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود بها سبعة معان مختلفة أو سبعة أبواب من المعاني، بل هي كيفيات متنوعة في قراءة الألفاظ القرآنية تيسيراً على الأمة.

٢. هل الأحرف السبعة هي نفسها القراءات السبع المشهورة؟

لا، الأحرف السبعة ليست هي القراءات السبع المشهورة، فالأحرف السبعة وردت بالأحاديث النبوية المتواترة وهي أوسع من القراءات السبع. أما القراءات السبع فهي اختيارات سبعة من الأئمة القراء جمعها الإمام ابن مجاهد في القرن الثالث الهجري، وجميع هذه القراءات السبع وغيرها من القراءات الصحيحة تدخل ضمن الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن.

٣. ما الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف؟

الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف هي التيسير والتسهيل على الأمة الإسلامية، فقد كانت قبائل العرب مختلفة في لهجاتها ولغاتها، وكان من الصعب على كثير منهم ترك لهجاتهم التي اعتادوها والنطق بلهجة واحدة. فأنزل الله القرآن على سبعة أحرف رحمة بهم ومراعاة لأحوالهم، خاصة العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط، كما جاء في الحديث الشريف.

٤. هل يجوز لأي شخص أن يقرأ القرآن بلهجته الخاصة دون التقيد بالتلقي؟

لا يجوز ذلك، فإن القراءة بأي حرف من الأحرف السبعة يلزم فيها اتباع التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأحرف كلها نزل بها الوحي على النبي، وليس شيء منها مفوضاً إلى الناس. ومصدر الأحرف هو الوحي وحده كما يدل على ذلك التعبير بلفظ أنزل الذي تواترت به الأحاديث، ويدل عليه أيضاً حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم حين احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

٥. هل المقصود بالسبعة حقيقة العدد أم التكثير والتوسع؟

المقصود بالسبعة حقيقة العدد وليس مجرد التكثير، وذلك ظاهر من كثرة ورود هذا اللفظ في الأحاديث المتواترة، ومن تدرج الترخيص في حديث أبي بن كعب حيث طلب النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف على أمته فجاءه جبريل بحرف ثم حرفين ثم ثلاثة حتى انتهى إلى سبعة أحرف. وكذلك حديث ابن عباس الذي قال فيه: حتى انتهى إلى سبعة أحرف، فهو ظاهر ساطع الدلالة على أن المراد حقيقة العدد سبعة.

٦. ما أبرز المذاهب في تحديد الأحرف السبعة؟

هناك مذهبان رئيسان في تحديد الأحرف السبعة: المذهب الأول يرى أن الأحرف السبعة هي سبعة أصناف من الاختلاف في أداء الألفاظ، وهي اختلاف أوزان الأسماء، واختلاف تصريف الأفعال، ووجوه الإعراب، والزيادة والنقص، والتقديم والتأخير، والقلب والإبدال، واختلاف اللغات. أما المذهب الثاني فيرى أن المراد بها سبع لغات من لغات قبائل العرب الفصيحة، وكلا المذهبين له وجاهته ويحققان ما وردت به الأحاديث.

٧. هل اندثرت الأحرف السبعة بعد جمع عثمان للمصحف؟

لا، لم تندثر الأحرف السبعة بل هي باقية في المصاحف العثمانية، وهذا قول المحققين من العلماء كالإمام الباقلاني وغيره. فقد اشتملت المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة جميعاً، ولذلك دونت غير مشكولة ولا منقوطة لكي يتسع رسمها للأحرف السبعة. أما من قال باندثارها فقد بنى رأيه على التوسع في الأحرف السبعة وإدخال ما لم يثبت بالتواتر فيها، وهذا غير صحيح.

٨. ما الفرق بين الأحرف السبعة والقراءة التفسيرية؟

القراءة التفسيرية هي أن يتلو الصحابي أو الإمام الآية في مجلس العلم ويفسر كلمة منها بكلمة أو جملة مفسرة في موضعها، فيظنها البعض قراءة فينقلها كذلك. مثل قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما بدلاً من فاقطعوا أيديهما، وقراءته فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وهذه قراءات تفسيرية وليست من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، لأن الأحرف السبعة لا بد أن تثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

٩. كيف تدل الأحرف السبعة على إعجاز القرآن الكريم؟

تدل الأحرف السبعة على إعجاز القرآن الكريم من وجه عظيم، وهو أن النظم القرآني يجري عليه ما عرفناه من أوجه الأداء المتنوعة ثم يبقى في إعجازه وعليائه، وهذا لا يوجد في كلام البشر. فلو اختبرت إضافة كلمة إلى النص القرآني أو قراءة غير متواترة لتبين لك الفرق الواضح، فليس في الدنيا كلام يطرأ عليه مثل الأحرف السبعة ثم يظل حيث أراد له صاحبه فضلاً عن وصف الإعجاز.

١٠. ما موقف الصحابة من اختلاف القراءات في الأحرف السبعة؟

كان الصحابة رضوان الله عليهم يحتكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند اختلافهم في القراءة، كما حدث بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم حين قرأ هشام سورة الفرقان بحروف لم يسمعها عمر من النبي، فأخذه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقرأهما جميعاً وأخبرهما أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يتلقون القراءات بالسماع والتلقي المباشر، وأن المعيار في قبول الحرف هو التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى