مقالات أدبية

منزلة الشاعر في العصر الجاهلي، كيف صنع الشعراء تاريخ قبائلهم

في عصرٍ كانت الكلمةُ فيه سلاحاً لا يُهزم، ومجداً لا يُضاهى، لم يكتفِ الشاعرُ الجاهليُّ بحملِ القوافي، بل حملَ مصيرَ قبيلته بين أبياته. لم يكن صانعَ جمالٍ فحسب، بل حارساً للهُوية، وقائداً في المعارك، وسفيراً لدى الملوك، وحكيماً يُستشار في مصائرِ الأمم. كيف تحوَّل الشعرُ من فنٍّ يُتغنى به إلى مكوّنٍ جوهريٍّ في نسيجِ المجتمع العربي قبل الإسلام؟ وما السرُّ وراء تلك الهالةِ الأسطوريةِ التي أحاطت بصاحبِ اللسانِ المبين، حتى باتوا يردّون فصاحته إلى قوى خفيةٍ، ويخشون بلاغته كخشيتهم من وقعِ السيوف؟

هذه المقالةُ تنقبُ في طبقاتِ الزمنِ لترسمَ صورةً حيةً للشاعرِ الجاهليِّ بوصفه “مؤسسةً اجتماعيةً متكاملة”: من دوره كـ نبي القبيلة الذي تُفتح له أبوابُ المجالسِ كما تُفتح له أبوابُ الغيب، إلى بطولتِه المزدوجةِ في ساحاتِ الحربِ بأسلوبٍ فريدٍ – حيثُ يتبارزُ بالسيفِ والكلمةِ معاً. ستكشفُ كيفَ حوّلَ شعراءٌ مثل عنترة بن شداد والنابغة الذبياني الشعرَ إلى جسرٍ يعبرون منه من عالمِ العبوديةِ إلى قممِ المجد، أو من ساحاتِ القتالِ إلى مضاميرِ الدبلوماسية. كلُّ ذلك في مجتمعٍ كان يرى في الشعرِ ليس تعبيراً عن الذات، بل ذروةَ الإنجازِ الحضاريِّ الذي يُخلّدُ الأمجادَ، ويبني التحالفاتِ، ويُعيدُ تشكيلَ الوقائعِ نفسها.

الأدوار متعددة الأوجه للشاعر في المُجتمع الجاهلي

بينما تُجمِل شعوب الأرض كافةً الشعرَ ضمن قائمة الفنون التي تتفاخر بها كالرسم والنحت والموسيقى، فإن العرب في الجاهلية رأوه جامعَ الفنون كلها. فيه تكثّفت ثقافتهم، وفيه بلغت عبقريتهم ذروتها، وبه وحده عبّر الجاهليون عن شوقهم للإبداع، وحبهم للجمال، وتوقهم للارتقاء فوق الواقع، بعد أن يصوّروا ذلك الواقع بأدق تفاصيله.
لم يقتصر الشعر على كونه فنًّا فحسب، بل مثّل في الجاهلية مرآةً للحياة الفكرية: حاملاً الحكمة الرصينة، ومجسداً المآثر والقيم، وصاحبه سيّدٌ من نبلاء القبيلة. فكما يُلجَأ لشيخ القبيلة في شؤون السياسة والحياة، يُستشار الشاعر في قضايا العقل، ويُستفتى في المعضلات، بل آمنوا بأن فيه قوة سحرية خارقة تدفع لسانه لما لا يُحسِنون، وشيطاناً متصلاً بعالم الجن، يلهمه ما لا يخطر على بال البشر.

وقد يزاحم الشاعرُ شيخَ القبيلة في المكانة، كاد يفوقه نفوذاً، حتى وصفه المستشرق نولدكه قائلاً: «هو نبي قبيلته، وقائدها في السلم، وبطلها في الحرب. يُستشار في اختيار المراعي الجديدة، وبكلمته تُنصب الخيام أو تُنقل، كما يحدو المسافرون العطشى بحثاً عن الماء».

اقرأ أيضاً:  كتاب على أعتاب الذاكرة للكاتبة تبارك ياسر

ولا تتدنى منزلته إلا إن كان مُسرفاً يُبدد ثروته في الملذات كـ طرفة بن العبد، أو إن انعزل وتشرّد مخالفاً عادات القبيلة، مختاراً العزلة في الجبال والصحاري كـ الشنفرى و تأبّط شراً. لكن حتى لو فعل ذلك، فلن تخجل قبيلته من شعره كما تخجل من أفعاله، بل تفتخر به، وتتناقل أشعاره كإرث عظيم. وإن حملت عزوبيته دفاعاً عن المظلوم، وإغاثةً للخائف، وإطعاماً للجائع، عظّمته القبيلة، وغفر الناس زلّاته، وخلّدوا إحسانه وبلاغته، كمفاخرة بني عبس بـ عروة بن الورد.

بطولات الشعراء في الميدان الأدبي والقتالي

وإذا تجاوزنا الصعاليك واللصوص -وهم قلّة- نجد الشعراءَ أكثرَ الناس محبةً بين قومهم، وأبرزَهم تأثيراً في كل مجال من مجالات الحياة.

وإذا دخل على الملوكِ صار سفيرَ قومه لدى العروشِ كـ النابغة الذبياني و الأعشى، فتُفتَح أمامَه أبوابُ القصورِ، وتُفرَشُ له مقاعدُ المجالسِ، فيجلسُ مائدةَ العظماءِ، ويسامرُهم، ويُحاول نيلَ مصالحَ قبيلتِه بالاستعطافِ والاستعداءِ، ويُحالِفُ مَن يَرجُو في مُخالفتِه نُصرةَ قومِه. فإذا تعرَّض أميرٌ له أو لقبيلتِه، أو حاول ملكٌ انتقاصَ شرفِه، تحدَّى وهدَّدَ، وانتقم لكرامتِه قبل أن تُنْتَقَصَ، كما انتقم عمرو بن كلثوم من عمرو بن هند.

وفي ساحاتِ الحربِ يُحارِبُ الناسُ بسلاحٍ واحدٍ، بينما يُحارِبُ الشاعرُ بسلاحَين: سيفِه ولسانِه. فيُشاركهم في القتالِ، ولا يُشاركونه في البلاغةِ. بل قد يدفعُه ولعُه بالمفاخرةِ، وقدرتُه على تجسيدِ البطولةِ، ليُفوقَهم في الفعلِ كما فاقَهم في القولِ، فيحمي الحريمَ حياً وميتاً كـ ربيعة بن مكدم، ويذودُ عن الأشرافِ وهو عبدٌ كـ عنترة بن شداد.

وإذا خمدت نارُ الحربِ، وغُمِدَت السيوفُ، بقي الشاعرُ صيتُه عالياً، يرثي القتلى ويعالجُ الجرحى، كما رثى عبيد بن الأبرص قتلى قومِه بني سعدِ بن ثعلبةَ. وإن غلبت العصبيةُ العقلَ، ظلَّت عينُ الشاعرِ نافذةً، لا تقنعُ بما تراه العيونُ، بل تشقُّ حُجبَ الغيبِ عن المستقبلِ، وتدركُ أن الحربَ مهلكةٌ للطرفين، فتُلهمُ صاحبَها الحكمةَ والموعظةَ، وتنقلُه من ميدانِ القتالِ إلى محرابِ السلامِ، كما فعل زهير بن أبي سلمى في حربِ داحسَ والغبراءِ.

ويكفي دليلاً على مكانةِ الشاعرِ أن كلَّ قبيلةٍ كانت تتشوَّقُ إلى بروزِ شاعرٍ فيها، كما تتشوَّقُ اليومَ كلُّ دولةٍ إلى امتلاكِ إذاعةٍ وصحافةٍ. فإذا تحققَ مرادُها أقامت الولائمَ، ودعتَ الجماهيرَ إلى الموائدِ، فجاءتها الوفودُ مُهنِّئةً أو حاسدةً، وخافَها الناسُ مُتَّقينَ. وكان الرواةُ يلازمون الشعراءَ ليحفظوا أقوالَهم، ويتعلموا من سَماعِهم، ويَتقنوا صنعةَ الشعرِ، كما كان زهير بن أبي سلمى تلميذاً لـ أوس بن حجر.

خاتمة

في نسيجِ المجتمع الجاهليّ، لم يكُن الشاعرُ مجردَ صوتٍ يُردِّدُ أبياتاً، بل كان قوةً فاعلةً تُسَيِّرُ الأحداثَ وتُشكِّلُ الوعيَ الجمعيَّ. هكذا تحوَّلَ شعراءٌ مثل عنترة بن شداد والنابغة الذبياني من حاملي كلماتٍ إلى صانعي تاريخ، يَحمون قبائلَهم بلسانٍ يُخرِسُ صليلَ السيوف، ويَبْتونَ التحالفاتَ بكلمةٍ تُجاوِزُ حدودَ الزمان. لقد أثبتوا أن الكلمةَ – حين تُحْمَلُ بإتقانٍ – تُعادلُ جيوشاً، وتُخلِّدُ أمماً.

اليومَ، وبعدَ قرونٍ، ما تزالُ قصائدُهم تُحاكي أرواحَنا، ليس لأنها مجردَ شهاداتٍ على ماضٍ غابر، بل لأنها تُذكِّرُنا بأن الفنَّ الحقيقيَّ لا ينفصلُ عن همومِ الإنسانِ وقضاياه. فالشاعرُ الجاهليُّ، برغمَ كلِّ ما يحيطُ به من أساطيرَ عن الجنِّ والقوى الخفيَّة، كان إنساناً بامتياز: يخوضُ معاركَ الواقعِ بسلاحَيِ الإبداعِ والإنسانية، ويُذكِّرُنا أن الكلمةَ الصادقةَ تبقى أصدقَ منْبأً عن حضارةِ شعبٍ من أبراجِ الذهبِ أو أطلالِ الحجارة.

هكذا، يظلُّ تراثُ الشعرِ الجاهليِّ مرآةً لعصرٍ آمنَ بأن الكلمةَ لا تُورثُ المجدَ فحسب، بل تُغيِّرُ مصائرَ الشعوب. فهل نستطيعُ اليومَ – في عالمٍ تغمرُه الضوضاءُ – أن نسمعَ صدى تلكَ الكلماتِ التي صنعتْ أمجادَ أمةٍ؟!

الأسئلة الشائعة

لماذا كان الشاعر يُعتبر أهم من غيره في المجتمع الجاهلي؟

كان الشاعر لسانَ القبيلة وذاكرتها الجمعية، يجسِّد هويتها ويذود عن شرفها. لم يقتصر دوره على الإبداع الأدبي، بل شمل أدوارًا سياسيةً وعسكريةً واجتماعيةً، مثل التفاوض مع الملوك، وقيادة الحروب بالكلمة والسيف، وحفظ تاريخ القبيلة في قصائده التي كانت تُحفظ كـ”وثائق” ثقافية.

 كيف تفوق الشاعر على شيخ القبيلة في النفوذ أحيانًا؟

اعتُبرت كلمة الشاعر قانونًا لا يُرد، فحكمُه كان يُنفَّذ كالقضاء، ورأيُه يُحترم كالوحي. وصفه المستشرق نولدكه بـ”نبي القبيلة”؛ لأنه كان يُستشار في اختيار المراعي وحل النزاعات، بل إن بعض الشعراء مثل عمرو بن كلثوم تحدوا الملوك وأنصتت لهم القبائل خوفًا من هجائهم.

هل ارتبطت مكانة الشاعر بمعتقدات خارقة؟

نعم، آمن العرب بأن للشاعر “شيطان شعر” (كائن غيبي) يوحي إليه بالإلهام، كما ورد في القرآن: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ [يس: 69]. هذه الفكرة عززت هيبته، وجعلت الناس يخشون سخطه كما يخشون السحر.

اقرأ أيضاً:  شخصيات القصة: تحليل ودراسة متنوعة

ماذا عن الشعراء المُهمَّشين مثل الصعاليك؟ هل احتفظوا بمكانتهم؟

حتى الشعراء الخارجون على تقاليد القبيلة – كـتأبَّط شراً والشنفرى – احتفظت قبائلهم بأشعارهم كإرثٍ فخرٍ، شرط أن تخدم قصائدُهم قيمَ القبيلة كالكرم أو الدفاع عن المظلوم. فالشعر كان يُغتفر لأجلِه ما لا يُغتفر من الأفعال!

كيف استخدم الشاعر شعره في الحروب؟

كان الشعر سلاحًا نفسيًّا يُهزم به الأعداء قبل القتال؛ فالشاعر مثل عنترة بن شداد كان يرفع معنويات قومه بهجاء الخصوم، بينما في السلم كان يرثي القتلى ويُعالج جراح النفوس، كما فعل عبيد بن الأبرص.

هل شارك الشعراء في صناعة التحالفات السياسية؟

نعم، مثل النابغة الذبياني الذي كان سفيرًا لقبيلته لدى ملوك الحيرة، يُفاوض بالشعر ويُقنع بالبلاغة. كانت القصيدة أداةً لدعم التحالفات أو كسرها، حتى إن الملوك كانوا يخشون هجاء الشعراء أكثر من هجوم الجيوش!

ما سر تشبيه الشاعر الجاهلي بالإعلام اليوم؟

كما تسعى الدول اليوم لامتلاك إعلامٍ مؤثر، كانت القبائل تتنافس لتخريج شعراء؛ لأن القصيدة كانت “الإذاعة” التي تُذيع مجد القبيلة، و”الصحيفة” التي تدافع عن سمعتها، و”المنصة” التي تُحرّك الرأي العام القبلي.

كيف تعاملت القبائل مع الشعراء المُسرفين مثل طرفة بن العبد؟

على الرغم من إسراف طرفة بن العبد في الملذات، غضت قبيلته الطرف عن سلوكه لأن شعره خلد مناقبها. بل إن بعض القبائل كانت تتفاخر بشعراء “المشاغيب” كدليل على ثراء ثقافتها وتسامحها!

هل نجح الشعراء في تجاوز العصبية القبلية؟

نعم، بعضهم – مثل زهير بن أبي سلمى – تجاوز التعصب بالحكمة، فنقد حرب داحس والغبراء التي استمرت 40 عامًا، وحذَّر من تدميرها للطرفين. وهكذا حوّل الشعرُ الصراعَ من ميدان الحرب إلى محراب السلام.

ما الذي يُمكن أن نتعلمه من دور الشاعر الجاهلي في عصرنا؟

يُذكرنا الشاعر الجاهلي بأن الكلمةَ سلطةٌ لا تقل عن السلطة المادية؛ فكما حوَّلَ الشعرُ العبيدَ (كـعنترة) إلى أبطال، والضعفاءَ إلى قادة، يمكن للفن اليوم أن يكون أداةً للتغيير الاجتماعي والسياسي، إذا أُحسِن توظيفه بإخلاصٍ وعبقرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى