اللغة العربية: نشأتها وأقسامها، وهل هي أم اللغات السامية؟
سنتحدث في هذه المقالة عن اللغة العربية، تعريفها ونشأتها وأقسامها وتطورها وتأثرها بغيرها وغناها ونجيب هل هي أم اللغات السامية أم لا.
تعريف اللغة
إذا قصدنا الإيجاز في تعريف اللغة قلنا كما قال الجرجاني وابن منظور: «إنها أصوات يُعَبِّر بها كل قوم عن أغراضهم»، وإن قصدنا الإيضاح قلنا: اللغة وسيلة من وسائل التعبير عن الأفكار والمشاعر والمقاصد، وعاملٌ هام من عوامل الحياة الفكرية والقومية لدى الأمم، بها يتواصل الناس ويتفاهمون في الجيل الواحد، وبها ينقلون حضارتهم وخصائصهم القومية من جيل إلى جيل.
ويستطيع الناظر في لغات البشر أن يظفر بثلاث زمر:
١ –اللغات القديمة الميتة التي سادت في عصر من العصور الماضية، ثم بادت أو بقي منها في اللغات التي ولدتها ألفاظ وتراكيب قليلة تتداولها ألسنة الأحفاد كالفارسية القديمة والفينيقية.
٢ –اللغات المهجورة التي امسك أهلها عن التحدث بها، فحفظتها كتب التراث، أو انزوت في محاريب المعابد، فلا يعنى بها غير المعنيين بدراسة الأوابد، ولا تدبُّ فيها الحياة إلا في الأذكار والصلوات كاليونانية القديمة واللاتينية.
٣ –والثالثة اللغات الحية، وهي التي تتكلمها اليوم شعوب الأرض، كالإنكليزية والفرنسية والعربية.
واللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية وهذا صحيح، بينما يجعلها علماء اللغات الحية فرعاً من فروع اللغة الآرامية التي كانت حية قبل آلاف السنين، وفي هذا الأمر نظر.
هل اللغة العربية هي أم اللغات السامية؟
ولعل اسمها واسم العرب الذين يتكلمونها مشتقان من الإعراب وهو الإبانة. قال ابن فارس: «أعرب الرجل عن نفسه إذا بَيَّنَ وأوضح… فأما الأُمَّة التي تسمى العرب فليس ببعيد أن تكون سميت عرباً من هذا القياس؛ لأن لسانها أعربُ الألسنة، وبيانها أجود البيان».
ومما يُثبت صحة هذا الرأي أن العربية تميزت عن أخواتها الساميَّات بالحفاظ على الإعراب الكامل؛ إذ العبرية والسريانية مجردتان من حركات الإعراب، وألفاظهما مبنيات الأواخر على السكون. والعربية تلتزم البناء على السكون في يسير من ألفاظها مثل (اكتبْ، وكمْ، وهلْ)، وتزين أواخر القدر الأعظم من ألفاظها بالفتحة والضمة والكسرة والتنوين، مما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن العربية هي اللغة السامية الأم.
وسواء أكانت العربية اللغة السامية الأم أم البنت الكبرى في هذه الأسرة اللغوية العريقة؛ فإن حفاظها على الإعراب، وقدرتها على التطور، وبقاءها حية إلى اليوم من أعظم الأدلة على قوتها وتفوقها على أخواتها.
والعربية التي نعنيها في هذا البحث هي لغة مضر عرب نجد والحجاز، لا لغة حمير عرب اليمن؛ لأن بين اللغتين فروقاً تجعل كلاً منهما لغة متفردة. قال أبو عمر بن العلاء: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا»، ثم بادت لغة حمير، وسادت لغة مضر بعد أن نزل بها القرآن الكريم.
بدايات اللغة العربية
ومن القضايا التي شق على الباحثين في العربية المضرية أن يصلوا فيها إلى رأي قاطع بدايات هذه اللغة، وتحديد زمان نشأتها، وزمان نضجها؛ لأن أقدم نصوصها المكتوبة التي وصلتنا لا يزيد عمره عن سبعة عشر قرناً. ولا يعني هذا أن عربية مضر لم تكن قوية مكتملة قبل القرن الثالث الميلادي، وإنما يعني أن البداوة التي وسمت حياة الناطقين بها حرمت هذه اللغة نعمة الاستقرار والتحضر، وما يصحب الاستقرار والتحضر من تشييد الصروح والنقش على الحجر، وتخليد اللغة بالكتابة على الأوابد، فظل وصول هذه اللغة إلينا مقصوراً على النصوص التي تناقلتها صدور الحفظة والرواة.
وربما كان لحياة هذه اللغة في مناخ قبلي وجه آخر من أوجه النشاط والتحدي، وهي تعوضها لمزاحمة لهجات عربية أخرى، وخروجها من هذا الزحام ظافرةً، ثم ذيوعها بين القبائل التي كانت وفودها تؤمُّ الحجاز في مواسم الحج، وتخالط المضريين في أسواق الأدب والتجارة كسوق عكاظ، ثم اختيارها من بين اللهجات لغة أدبية راقية، فإذا هي عامل من عوامل الوحدة الفكرية بين قبائل الشمال، وإذا اللهجات الأخرى التي صنعتها العزلة تضعف ثم تختفي، ولا يبقى من ظواهرها اللغوية وسماتها الخاصة غير أمور يسيرة لا تجعلها لغات أو لغيَّات متميزة عن لغة مضر، بل تضعفها حتى تصهرها في هذه اللغة الأدبية الراقية.
ولا يفهمنَّ من ذلك أن الخلاف بين اللهجات القبلية كان عميقاً يظهر في جذور اللغة، وطرائق التعبير، وأساليب بناء الجمل والتراكيب، وإنما هو خلاف يسير تمثَّل في ظواهر وسمات سطحية أبرزها ميلُ بعض اللهجات إلى الإدغام وإعراض أخرى عنه (شُدَّ الحبل، أو اشدده)، وإيثار بعضها الهمز وبعضها التسهيل (سأل، أو سال)، وإعمال بعض الأدوات عند قوم وإهمالها عند آخرين (ما هذا بشراً، أو بشرٌ) وإعراب طائفة من الكلمات في لهجة وبناؤها في لهجة ثانية (جاء أمسِ، أو أمساً).
وربما أدى تعدد اللهجات إلى اختلاف يسير أو كبير في معاني طائفة من الألفاظ، وإلى ثراء اللغة المضرية التي صُبَّتْ فيها اللهجات البدوية الأخرى، فكثرت فيها المترادفات المتعلقة بالصحراء. قال ابن خالويه: «جمعت للأسد خمسمئة اسم، وللحية مئتين». كما أدى ذلك إلى دلالة اللفظة الواحدة على عدة معانٍ لا تربط بينها روابط اشتقاقية، كدلالة لفظة (الخال) على سبعين معنى، ودلالة لفظة (العين) على بضعة وأربعين. ولعل ذلك يعود إلى اختلاف دلالة هذين اللفظين من قبيلة إلى قبيلة. وهكذا اتسمت لغتنا بظاهر لغوية لا تخلو منها اللغات الأخرى، كالتضاد والترادف والاشتراك اللفظي.
تطور اللغة العربية وتأثرها بغيرها
ولم يقف تطور العربية عند هذا الحد؛ فإنها كغيرها من اللغات تأثرت بعوامل ساعدت على تطويرها، فغيرت دلالات بعض الألفاظ ضروباً من التغيير، كتعميم الدلالة الخاصة، وتخصيص الدلالة العامة، ونقل الدلالة من المحسوس إلى المجرد، ومن الحقيقة إلى المجاز.
بل تعرضت شأنها في ذلك شأن اللغات الأخرى إلى التأثر باللغات التي كنفتها أو عايشتها كالفارسية والعبرية والحبشية والرومية، إذ لم يكن للناطقين بالعربية بدٌّ من الاتصال بجيرانهم الناطقين بهذه اللغات، فخالطوهم ونقلوا من ألسنتهم ألفاظاً أعجمية صبوها في أوزان عربية، أو صقلوا حروفها وإيقاعها حتى ساغت في الأذن العربية كالقرطاس والدرهم والياقوت والكرسي.
ومما ساعد لغتنا على التطور المستمر مادتُها الطَّيِّعة التي تتقبل إصلاح الألفاظ بالإبدال والإعلال والقلب والحذف، وطبيعتها الاشتقاقية الولود القادرة على اختراع الألفاظ الجديدة للمعاني الجديدة بالنحت حيناً وبالاشتقاق في أكثر الأحيان، وما ينطوي عليه الاشتقاق من ثراء عريض بألفاظ تذخرها اللغة لترجمة ما تبتكره الحضارة الإنسانية من علوم وفنون وآلات.