الأدب العربي

الهجاء عند الأعشى: من النفع الشخصي إلى النقد السياسي

لم يكن الشعر في العصر الجاهلي مجرد فن، بل كان سلاحًا ذا حدين؛ يرفع أقوامًا ويحط آخرين. وفي يد شاعر بحجم الأعشى، تحول الهجاء إلى أداة دقيقة التأثير، قادرة على رسم ملامح النصر والهزيمة، وتشكيل الرأي العام، والدفاع عن كرامة القبيلة والأمة، ليصبح فن الهجاء عند الأعشى ظاهرة فريدة تستحق الدراسة والتأمل.

مقدمة

يُعد الأعشى الكبير، ميمون بن قيس، أحد أبرز شعراء العصر الجاهلي، وقد اشتهر بلقب “صناجة العرب” لجودة شعره وحسن جرسه. وعلى الرغم من أن شهرته ارتبطت بالمدح ووصف الخمر والترحل، فإن فن الهجاء عند الأعشى يمثل جانبًا ثريًا وحيويًا من تجربته الشعرية يكشف عن وعيه السياسي العميق وقدرته الفذة على توظيف الكلمة كأداة ضغط وتأثير. تتناول هذه المقالة بالتحليل الدقيق شعر الهجاء عند الأعشى، متتبعةً دوافعه المتعددة التي تتراوح بين المنفعة الشخصية، والدفاع عن القبيلة، وصولًا إلى التعبير عن الشعور القومي. كما تستعرض المقالة الخصائص الفنية التي ميزت أسلوبه الهجائي، والذي ابتعد في معظمه عن السباب المباشر ليرتقي إلى مستوى النقد السياسي والاجتماعي المحكم، مما يجعل دراسة الهجاء عند الأعشى مدخلًا أساسيًا لفهم ديناميكيات القوة والمجتمع في الجزيرة العربية قبل الإسلام.

الهجاء عند الأعشى

يُعد الانتقال من غرض المدح إلى غرض الهجاء مسارًا قد يسلكه الشاعر في سياق تفاعله مع الأحداث، وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح في فن الهجاء عند الأعشى. إن من يتخذ المدح والهجاء بضاعة أو صناعة، كما يظهر في نماذج الهجاء عند الأعشى، قد يتعرض لمواقف تقتضيها المصلحة الشخصية تجعله يتقلب بين الغرضين في موقف واحد، وهو ما يوضح الطبيعة النفعية التي اتسم بها الهجاء عند الأعشى في بعض جوانبه. وفي هذا السياق، تروى حادثة شهيرة توضح هذا التحول؛ فقد أتى الأعشى الأسود العنسي وقد امتدحه، ولكنه استبطأ جائزته، فقال له الأسود: “ليس عندنا عين ولكن نعطيك عرضاً”، فأعطاه خمسمائة مثقال دهناً، وبخمسمائة حللاً وعنبراً. فلما مر الشاعر ببلاد بني عامر، خافهم على ما معه من ثروة، فأتى علقمة بن علاثة وقال له: أجرني، فقال: أجرتك. قال: من الجن والإنس؟ قال: نعم. قال: ومن الموت؟ قال: لا. فأتى عامر بن الطفيل وقال: أجرني. قال: قد أجرتك. قال: من الجن والإنس؟ قال: نعم. قال: ومن الموت؟ قال: نعم. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إن مت وأنت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. فقال الأعشى: الآن علمت أنك قد أجرتني من الموت. نتيجة لهذا الموقف، مدح عامراً، واستخدم سلاح الهجاء عند الأعشى ضد علقمة. فقال علقمة بعد ذلك: “لو علمت الذي أراد كنت أعطيته إياه”. يتضح هنا كيف انتقل الأعشى من المدح إلى الهجاء، بل وكيف جمع في قصيدة واحدة بين مدح عامر بن الطفيل وتوظيف الهجاء عند الأعشى ضد علقمة بن علاثة، مما يعكس الطبيعة العملية التي حكمت أحيانًا فن الهجاء عند الأعشى.

يرتبط هذا الجمع بين الغرضين في قصيدة واحدة، وهو سمة بارزة في أساليب الهجاء عند الأعشى، بسبب تاريخي محدد. فقد كان بين عامر وعلقمة منافرة ومفاخرة لتنافسهما على زعامة بني كلاب، فاحتكما إلى الشعراء، وقد اختلف الشعراء في حكمهم؛ إذ انحاز لبيد إلى عامر، بينما انحاز الحطيئة إلى علقمة. ثم أقحم الأعشى نفسه في هذه المنافرة، فناصر عامراً، وشهد له بالقدرة على إدراك الثأر، وجعله سيد قومه. وفي المقابل، كان الهجاء عند الأعشى من نصيب علقمة، حيث جعله عبداً مسوداً. زعم الشاعر أن الرجلين احتكما إليه، فقضى بينهما بالحق، وادعى أنه حكم عدل، لا يقبل في حكمه شفاعة ولا رشوة، ولا يبالي بغضب الخاسر منهما، لأن الحق أحق بأن يقال. إن هذا الموقف يكشف كيف أن الهجاء عند الأعشى لم يكن مجرد سباب، بل أداة في الصراعات السياسية والقبلية. وقد عبّر عن هذا الحكم القاطع، الذي يجسد قوة الهجاء عند الأعشى، في الأبيات التالية:
عَلْقَمَ لَا لَسْتَ إلى عامر *** الناقض الأوتار والواتر
ساد وَأَلْقَى قَوْمَهُ سَادَةٌ *** وكابراً سَادُوكَ عَنْ كَابِرِ
حكمتُمُونِي، فَقَضَى بَيْنَكُمْ *** أَبْلَجَ مِثْلُ القَمَرِ البَاهِر
لا يأخذ الرَّشْوَةُ فِي حُكْمِهِ *** وَلَا يُبَالِي غَبَن الخاسرِ

يتسع نطاق الهجاء عند الأعشى ليشمل الأقارب أيضًا، كما يتضح في قصته مع عمرو بن المنذر بن عبدان، وهو أحد أقربائه. كان سبب هذا الهجاء أن عمراً هذا اتهم قائد الأعشى بالسرقة، فكان رد الشاعر قاسياً، حيث وظّف الهجاء عند الأعشى ليصف قريبه بطول الكمد وشدة الحزن، مصوراً إياه كأنه يبكي على يد مقطوعة. ثم يرتقي الهجاء عند الأعشى من المستوى الشخصي إلى مستوى القيم، فيقرر أن قطع اليد أهون من انقطاع صلة المرء بالمفاخر والأمجاد. يواصل الشاعر تعميق جرح خصمه من خلال فن الهجاء عند الأعشى، فيؤكد أن هذا الخصم ليس له من أمجاد العرب نصيب، لا قليل ولا كثير، وهذا النوع من الهجاء عند الأعشى يضرب في صميم الشرف القبلي:
أَرَى رَجُلًا مِنْكُمْ أَسِيفاً، كَأَنَّما *** يضم إلى كَشَحَيْهِ كَفَّاً خَصَّبا
وَمَا عِنْدَهُ مُجدَ تَلِيدٌ، وَلَا لَهُ *** مِنَ الريح فَضْلُ لا الجُنُوبُ وَلَا الصّبا

اقرأ أيضاً:  الفخر عند زهير بن أبي سلمى: دراسة في سمات الاعتدال بين الفخر الشخصي والقبلي

من الخصائص الجوهرية التي تميز فن الهجاء عند الأعشى هو ابتعاده عن الابتذال والسباب المباشر. كان الهجاء عند الأعشى في معظمه أقرب إلى الهجاء القبلي، أو ما يمكن وصفه بلغة عصرية بأنه “نقد سياسي”. وخير مثال على ذلك هو الهجاء عند الأعشى الموجه ضد يزيد بن مسهر الشيباني.

خصائص الهجاء السياسي عند الأعشى

يتخذ الهجاء عند الأعشى في هذا النموذج أبعادًا سياسية قبلية تتجلى في النقاط التالية:

  • توجيه زجر مباشر ليزيد بن مسهر لوقف حقده الذي يأكل قلبه، ويدفعه إلى الكيد للنيل من قبيلة الأعشى، وهذا يوضح الدور الدفاعي الذي لعبه الهجاء عند الأعشى.
  • التحذير من مغبة الاستمرار في إيذاء القبيلة، بقوله “هيهات”، مما يبرز الثقة العالية التي يستند إليها الهجاء عند الأعشى.
  • استخدام صورة بلاغية قوية ومحكمة، حيث شبهه، في ذروة توظيفه لفن الهجاء عند الأعشى، بالثور الذي يكسر قرنيه على صخرة أمجاد القبيلة الراسخة، وذلك حين ينفر الأبطال إلى القتال مندفعين كالسيل، يحملون الغنائم والسبايا.

إن هذا النوع من الهجاء عند الأعشى يظهر في الأبيات التالية:
أَبْلِغْ يَزِيدَ بَي شَيْبَانَ مَالُكَة *** أَبا بَيْتٍ، أَمَا تَنْفَكُ تَأْتكل
ألستَ مُنْتَهِما عَنْ نَحْتِ أَثْلَتِنا *** وَلَسْتَ ضَارَها ما ألت الإبل
لأعرفَنَّكَ إِنْ جَدَّ النَّفِيرُ بِنَا *** وشُبّت الحرب بالطُّوافِ واحتَمَلُوا
گناطح صَخْرَةُ يَوْمَا لِيُعْلِقَها *** فلم يَضِرَهَا، وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَجل

من خلال هذه القصيدة، يتضح أن الهجاء عند الأعشى لا يستهدف ابن مسهر لدفع أذاه عن شخص الشاعر فحسب، بل لحماية القبيلة كلها من هذا الأذى، وهو ما يرفع من قيمة الهجاء عند الأعشى ليجعله سلاحًا جماعيًا.

على الرغم من البعد القبلي والسياسي، فإن الهجاء عند الأعشى قد يمتزج في بعض الأحيان بمنفعته الشخصية، ليصبح أداة للتزلف وكسب ود الممدوح. يتحقق ذلك حين يهجو الشاعر خصم الممدوح، أو يعقد مقارنة بينهما ليظهر الفارق الشاسع في الصفات، وخاصة الكرم. ولما كانت غاية الشاعر الأولى هي استعطاف الممدوح، فإن أهم الخصال التي يجعلها محور الهجاء هي خصلة الكرم. يتجلى هذا الأسلوب في الهجاء عند الأعشى في قصيدته التي يهجو فيها الحارث بن وعلة بن مجالد، بينما يمدح هوذة بن علي الحنفي، أمير اليمامة. فقد تجشم الأعشى عناء السفر إلى الحارث، فلم يجده كريماً كوالده وعلة أو جده مجالد، فانصرف عنه إلى الأمير هوذة. وهناك، مضى يعرض مقارنة هي في جوهرها هجاء مبطن للحارث وتحقير له، مما يوضح الأبعاد المركبة في شعر الهجاء عند الأعشى. إن هذا النموذج من الهجاء عند الأعشى يخدم غرض المدح بشكل غير مباشر:
أَتيتُ حُرَيْناً زَائِراً عَنْ جَنابَة *** وَكَانَ حُرَيْتُ عَنْ عَطَائِي جَامِدا
لَعَمْرُكَ مَا أَشْبَهتَ وَعْلَةٌ في النَّدَى *** شَمائِلَهُ، وَلَا أَبَاهُ الْمُجَالِدا

يرتقي الهجاء عند الأعشى في بعض المواقف ليأخذ طابعًا قوميًا جامعًا، ويظهر ذلك بأوضح صوره في هجائه لكسرى حين هدد العرب وطلب منهم رهائن من أبنائهم وبناتهم. في تلك اللحظة، ثار الأعشى، وأثار معه العرب، وتحول الهجاء عند الأعشى إلى صوت للكرامة العربية. لقد رفض الشاعر طلبة كسرى التي تهين العرب وتفسد أولادهم، وحمل رسوله إلى عظيم الفرس رسائل شعرية تفضحه وتقبح وجهه، وهنا يبلغ الهجاء عند الأعشى ذروته السياسية والقومية. إن الهجاء عند الأعشى في هذا الموقف لم يكن فرديًا، بل كان لسان حال أمة بأكملها:
من مُبلغ كسْرَى إِذا مَا جَاءَه *** عَنِّي مَالِكَ مُخمِشَاتٍ سُردا
اليتُ لا نعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا *** رهناً، فَيُفْسِدَهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدا

ثم مضى يسخر منه ومن تاجه المعقود على جبينه، رافضًا الخضوع له ولمطلبه الذي يهين العرب ويستعبدهم. لقد فضح الهجاء عند الأعشى ما في قلب كسرى من حقد على العرب، مصوراً هذا الحقد بأنه لو خرج من صدره إلى وجهه لصبغه وصبغ وجوه الفرس بلون أسود حالك. إن هذا التصوير البلاغي يمثل قمة الإبداع في فن الهجاء عند الأعشى، حيث يحطم رمز القوة ويجعله مصدرًا للخزي. يبرع الهجاء عند الأعشى في هذا التحويل الرمزي:
فاقْعُدْ عَلَيْكَ التَّاجَ مُعْتَصِباً بِهِ *** لا تَطْلَبَنُ سَوَامَنا، فتعبّدا
لا تَحْسَبَنَا غَافِلين عن التي *** تُغْشِي وجُوهَ القَوْمِ لَوْناً أَسْوَدا

اقرأ أيضاً:  مصادر الأدب الجاهلي: بين رمال الشك وجذور التوثيق

لقد استطاع الهجاء عند الأعشى أن يحوّل تاج الملك الذي يفاخر به إلى معرة يُعيّر بها، لأنه نظر من خلاله إلى غير المنظور، وأخرج ما في قلب كسرى من ضغائن سود. وهكذا، انطفأ بريق الذهب حين غشيه دخان الحقد الأسود الذي كشفه الهجاء عند الأعشى ببراعة فائقة، ليثبت أن الهجاء عند الأعشى كان أداة فاعلة في التعبير عن الهوية والدفاع عنها.

خاتمة

في ختام هذا التحليل، يتضح أن الهجاء عند الأعشى لم يكن غرضًا شعريًا عابرًا، بل كان ساحةً معقدة تتصارع فيها الدوافع الشخصية مع الولاءات القبلية والمواقف القومية. لقد أثبت الأعشى من خلال شعره الهجائي أنه لم يكن مجرد شاعر يطلب العطاء، بل فاعلًا سياسيًا مؤثرًا يستخدم فنه للدفاع عن مصالح قبيلته، وتحقيق مكاسبه، وفي أسمى تجلياته، للوقوف في وجه القوى الخارجية التي تهدد كرامة العرب. لقد تميز الهجاء عند الأعشى بارتقائه عن مستوى الشتائم المبتذلة إلى بناء صور فنية عميقة ونقد لاذع يضرب في صميم قيم الخصم. وبهذا، يظل الهجاء عند الأعشى نموذجًا فريدًا في تاريخ الشعر العربي، يكشف عن عبقرية شاعره وقدرته على تحويل الكلمة إلى قوة لا يستهان بها، تخلد المواقف وترسم ملامح عصر بأكمله.

سؤال وجواب

ما هي الدوافع الرئيسية التي حركت فن الهجاء عند الأعشى؟
تنوعت الدوافع وراء شعر الهجاء عند الأعشى بشكل ملحوظ، ويمكن تصنيفها ضمن ثلاثة محاور رئيسية. المحور الأول هو المنفعة الشخصية والنفعية، حيث كان الأعشى يستخدم الهجاء كأداة ضغط للحصول على العطاء أو للانتقام من الذين خيبوا أمله، كما حدث في قصته مع الأسود العنسي وانتقاله من مدح علقمة بن علاثة إلى هجائه بعد أن وجد جودًا أكبر عند عامر بن الطفيل. أما المحور الثاني فهو الدفاع القبلي، إذ كان الهجاء عند الأعشى سلاحًا لحماية قبيلته وردع أعدائها، ويتجلى ذلك بوضوح في هجائه ليزيد بن مسهر الشيباني، حيث لم يكن الهجاء شخصيًا بقدر ما كان دفاعًا عن كيان القبيلة وأمجادها. المحور الثالث والأكثر سموًا هو الدافع القومي، وقد بلغ ذروته في هجائه لكسرى، ملك الفرس، حين رفض طلبه المهين للعرب، محولًا شعره إلى صوت جماعي يعبر عن الكرامة والإباء العربي.

كيف يمكن اعتبار الهجاء عند الأعشى شكلاً من أشكال النقد السياسي؟
يمكن اعتباره نقدًا سياسيًا بامتياز، لأنه تجاوز حدود السباب الشخصي ليتناول قضايا تتعلق بالزعامة، والسيادة، والعلاقات بين القبائل، والتصدي للتهديدات الخارجية. فعندما هجا علقمة بن علاثة لصالح عامر بن الطفيل، لم يكن الأمر مجرد مفاضلة شخصية، بل كان تدخلاً في صراع على الزعامة القبلية، حيث قدم الأعشى نفسه كحكم عدل يفصل في أهلية كل منهما للسيادة. كما أن هجاءه ليزيد بن مسهر لم يكن شتيمة، بل كان تحذيرًا سياسيًا واضحًا من مغبة المساس بأمن قبيلته. أما المثال الأبرز فهو هجاؤه لكسرى، الذي يُعد بيانًا سياسيًا قوميًا يرفض التبعية ويفضح نوايا الإمبراطورية الفارسية تجاه العرب، ويحول رمز الملك (التاج) إلى أداة للسخرية والتحقير، وهذا هو جوهر النقد السياسي.

ما الذي يميز أسلوب الهجاء عند الأعشى عن غيره من الشعراء؟
يتميز الهجاء عند الأعشى بعدة خصائص فنية تجعله متفردًا. أولاً، كان يميل إلى الهجاء الموضوعي الذي يبتعد عن الفحش والسباب المباشر، ويركز بدلًا من ذلك على تحطيم الصورة المعنوية للخصم بأسلوب فني رفيع. ثانيًا، برع في استخدام أسلوب المقارنة لإظهار تفوق ممدوحه على المهجو، كما فعل في قصيدته التي مدح فيها هوذة بن علي وهجا الحارث بن وعلة، حيث جعل من بخل الحارث خلفية تبرز كرم هوذة. ثالثًا، تميزت صوره الهجائية بالقوة والابتكار، مثل تشبيهه ليزيد بن مسهر بالثور الذي يناطح صخرة فلا يضرها بل يهشم قرنه، وهي صورة تجسد العبث والضعف في مواجهة القوة الراسخة. رابعًا، قدرته على تحويل رموز الفخر لدى الخصم إلى معاير للخزي، كما فعل بتاج كسرى.

كيف تتجلى العلاقة بين المدح والهجاء في شعر الأعشى؟
العلاقة بين المدح والهجاء عند الأعشى هي علاقة ديناميكية ومرنة، تحكمها في كثير من الأحيان المصلحة والظروف المتغيرة. لم يكن الانتقال بين الغرضين يمثل تناقضًا في منظوره، بل كان جزءًا من احترافه للشعر كصناعة. قصته مع علقمة وعامر هي المثال الأوضح، حيث تحول من قاصد لعلقمة إلى مادح لعامر وهاجٍ لعلقمة في رحلة واحدة وقصيدة واحدة. هذا يدل على أن الولاء الشعري لديه كان يمكن شراؤه بالعطاء والجوار الكريم. وبهذا، يصبح الهجاء الوجه الآخر للمدح؛ فكلاهما أداة لتقييم الأشخاص بناءً على معيار أساسي في ذلك العصر وهو الكرم وحماية الجار، ومن يفشل في هذا الاختبار يصبح هدفًا مشروعًا لفن الهجاء عند الأعشى.

اقرأ أيضاً:  المدح عند زهير بن أبي سلمى: من إخماد نار الحرب إلى ترسيخ القيم الإنسانية

هل استخدم الأعشى الهجاء ضد أقاربه؟ وما دلالة ذلك؟
نعم، من الحالات الموثقة التي تظهر شمولية الهجاء عند الأعشى هو هجاؤه لقريب له يدعى عمرو بن المنذر بن عبدان. السبب كان اتهام عمرو لقائد الأعشى بالسرقة، وهو ما اعتبره الشاعر مساسًا بشرفه وشرف رجاله. دلالة هذا الموقف مزدوجة؛ فهي من ناحية تظهر أن ولاء الأعشى لم يكن محكومًا بالقرابة وحدها، بل بالقيم الأخلاقية كحفظ السمعة والدفاع عن الأتباع. ومن ناحية أخرى، تكشف عن طبيعة الهجاء لديه، حيث لم يكتفِ بالرد على التهمة، بل صوّر خصمه بصورة مهينة نفسيًا، كرجل يتألم على “كف مقطوعة”، ثم ربط هذا الألم الشخصي بانقطاعه عن المفاخر والأمجاد القبلية، مما يجعل الهجاء أعمق وأكثر إيلامًا لأنه يمس المكانة الاجتماعية بأكملها.

ما هي أبرز الصور الفنية في شعر الهجاء عند الأعشى؟
برع الأعشى في ابتكار صور فنية قوية ومؤثرة في هجائه. من أبرزها صورة الثور الذي يناطح الصخرة في هجائه ليزيد بن مسهر، وهي صورة حسية بليغة تجسد فشل محاولات الخصم وعجزه وقوة القبيلة وصلابتها. صورة أخرى بارزة هي تصويره لعمرو بن المنذر وهو “يضم إلى كشحيه كفًا خضيبا”، وهي صورة نفسية عميقة ترسم مشهد رجل يتألم بصمت وكمد، ثم يربط الشاعر هذا الألم بانعدام المجد، مما يضاعف من قوة الصورة. أما في هجائه لكسرى، فصورة الحقد الأسود الذي لو خرج من قلبه لصبغ وجهه ووجوه الفرس بالسواد هي صورة ذهنية مبتكرة تحول الغضب المعنوي إلى لون مادي محسوس، وتجرد الملك من هيبته وتكشف عن بشاعة نواياه.

كيف يعكس الهجاء عند الأعشى قيم المجتمع الجاهلي؟
يعكس الهجاء عند الأعشى بوضوح منظومة القيم السائدة في المجتمع الجاهلي. فتركيزه على هجاء البخلاء مثل الحارث بن وعلة يؤكد القيمة العليا للكرم والسخاء. ودفاعه عن قبيلته ضد يزيد بن مسهر يجسد أهمية العصبية القبلية والشرف الجماعي. كما أن مدحه لعامر بن الطفيل لأنه أمنه حتى “من الموت” (بدفع ديته) وهجاءه لعلقمة الذي لم يفعل، يسلط الضوء على قدسية “الجوار” وأهمية حماية المستجير. وأخيرًا، فإن هجاءه القومي لكسرى يعكس شعورًا متناميًا بالهوية العربية ورفض الخضوع والتبعية، وهي قيمة الإباء التي كانت من أهم مفاخر العرب.

هل كان الهجاء عند الأعشى مربحًا ماديًا؟
نعم، تشير الروايات إلى أن الهجاء، أو التهديد به، كان مصدرًا من مصادر الكسب المادي للأعشى، تمامًا كالمدح. فالشعر كان صناعته التي يعيش منها، وكان الشاعر ذا تأثير إعلامي هائل، لذا كان الأمراء والسادة يحرصون على كسب وده وتجنب لسانه. قصته مع الأسود العنسي وعلقمة تظهر أنه كان يتوقع مقابلًا ماديًا سخيًا لمدحه، وإذا لم يتحقق ما يرضيه، لم يكن يتردد في استخدام الهجاء. وبهذا المعنى، كان الهجاء أداة تفاوضية فعالة تضمن للشاعر مكانته وتحقق له عوائد مادية، مما يؤكد الطبيعة الاحترافية التي مارس بها الأعشى شعره.

ماذا كانت نتيجة هجاء الأعشى لكسرى؟
يمثل هجاء الأعشى لكسرى نقطة تحول في الوعي القومي العربي، حيث كان بمثابة إعلان شعري صريح لرفض الهيمنة الفارسية. على المستوى الأدبي، خلدت هذه القصيدة موقفًا تاريخيًا مهمًا وأصبحت من أشهر نماذج الشعر السياسي والفخري في العصر الجاهلي، وأظهرت قدرة الشعر على تعبئة الرأي العام. وعلى المستوى السياسي، ساهمت هذه القصيدة وغيرها من المواقف في تعزيز الشعور بالاستقلالية لدى العرب، ومهدت نفسيًا للمواجهات اللاحقة مع الإمبراطورية الفارسية، مثل معركة ذي قار. لقد أثبت الهجاء عند الأعشى في هذا الموقف أن الشاعر يمكن أن يكون لسان حال أمته والمدافع الأول عن كرامتها.

ما هي مكانة الهجاء ضمن مجمل إنتاج الأعشى الشعري؟
على الرغم من أن الأعشى اشتهر بأغراض أخرى كالمدح والغزل ووصف الخمر والرحلة، فإن الهجاء يحتل مكانة مهمة وحيوية في ديوانه لأنه يكشف عن جوانب أخرى من شخصيته وفكره. فبينما يظهره المدح كشاعر محترف يسعى للكسب، يظهره الهجاء كشخصية معقدة قادرة على الدفاع بشراسة عن حقوقها وقبيلتها وأمتها. إن الهجاء عند الأعشى ليس غرضًا ثانويًا، بل هو مكمل أساسي لشخصيته الشعرية، يبرز وعيه السياسي، وقدرته على التحليل النفسي، وإتقانه لاستراتيجيات الخطاب الشعري. ومن دونه، تبقى صورة الأعشى ناقصة، فهو الغرض الذي يظهر فيه “صناجة العرب” ناقدًا سياسيًا ومدافعًا عن الهوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى