الخطابة: مكانتها وأنواعها وخصائصها في العصر الجاهلي

يمثل فن الخطابة ركيزة أساسية في الثقافة العربية، حيث كان الأداة الأقوى للتأثير والإقناع في العصر الجاهلي. دعونا نتعمق في فهم هذا الفن العريق وأبعاده المختلفة.
مقدمة
شكلت الخطابة في العصور القديمة، وخصوصاً في العصر الجاهلي، حجر الزاوية في الحياة الاجتماعية والسياسية للقبائل العربية. لم تكن مجرد فن لإلقاء الكلمات، بل كانت سلاحاً فتاكاً، ووسيلة لتوحيد الصفوف، وأداة للدفاع عن الشرف والمكانة. تتناول هذه المقالة الشاملة فن الخطابة، مستعرضةً مكانته المرموقة مقارنة بالشعر، وأنواعه المتعددة التي عكست مختلف جوانب الحياة، بالإضافة إلى السنن التي اتبعها الخطباء والخصائص الفنية التي ميزت هذا الفن الأصيل، مما يقدم للقارئ فهماً عميقاً لأهمية الخطابة وتأثيرها البالغ.
مكانة الخطابة في العصر الجاهلي
كان للخطابة في العصر الجاهلي شأن أي شأن، إلا أنه ليس بين أيدينا نصوص تمثل تطور هذا الفن، وترصد انتقاله من مرحلة إلى مرحلة. والشك فيما بلغنا من خطب لا يدفعنا إلى إنكارها. فلقد كانت حياة العرب تقتضي ازدهار الخطابة، وتجعلها رديف الشعر الأول في ترجمة المشاعر والأفكار، ثم في توجيه الأحداث.
ورأى شوقي ضيف – وفي رأيه غلو – أن الخطابة كانت فوق الشعر، وأن صخب الحياة السياسية رجح منزلة الخطيب، وشفع رأيه بقولين أحدهما قول أبي عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يُقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم، ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم. وبها بهم شاعر غيرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر.
والثاني قول الجاحظ: كان الشاعر أرفع قدراً من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم، وتذكيرهم بأيامهم. فلما كثر الشعر صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر. ولك أن تستنبط من قولي أبي عمرو والجاحظ ما استنبط شوقي ضيف، ولك أن تعيد النظر في القولين لتجد لهما تفسيراً آخر، خلاصته أن الشعر كان أشيع من الخطابة وأنجع، وأن إسفاف فريق من الشعراء أركب الخطابة ظهر الشعر.
فلو بقي الشعر في عليائه ما طاوله فن آخر. وإذا أغضيت عن القولين – وهما في الحقيقة قول واحد – ونظرت في مسلك العرب وجدت الشعراء أبرز من الخطباء، وأبعد تأثيراً في الحياة العامة. فهم رؤساء الوفود عند الملوك. وبهم يناط الدفاع عن المصالح، والشفاعة للأسرى، وبألسنتهم تنعقد المنافرات، وبكلامهم الموزون تجري الألسنة. وربما شاركهم الخطباء، فاجتمع الشاعر والخطيب على الفكرة الواحدة، فجرى لسان الخطيب بمثل ما جرى لسان الشاعر، غير أن كلام الخطيب يذهب أكثره، وكلام الشاعر يحفظ كله وأنت تعرف من خبر المنافرة بين الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم ما يعلي الشعر على الخطابة، فقصيدة عمرو بن كلثوم الهت بني تغلب عن كل مفخرة، وقصيدة الحارث ابن حلزة وصلت إلى موضع الانعطاف في عقل الحكم فلوت عنقه من السير في ركاب تغلب إلى السير في ركاب بكر.
ويدعي شوقي ضيف أن الخطيب كان يطغى على الشاعر في مواقف ينفرد بها، إذ كان يدعو إلى السلم، وأن تضع الحرب أوزارها. أما الشاعر فلم يكن يدعو إلا إلى الأخذ بالثأر، وإشعال نار الحرب ويشفع رأيه بأبيات حماسية كقول ربيعة بن مقروم:
ومنى تَقُمْ عِنْدَ اجتماع عشيرةٍ خطباؤُنَا بَيْنَ العَشيرة يُفْصلِ
وقول أبي زبيد الطائي:
وخطيبٌ إذا تمعَّريِ الأو جُه يوماً في مأقِطٍ مشهود
وقول بشر بن أبي خازم:
وكنّا إذا قلنا: هوازنُ أقبلي إلى الرُّشدِ لَمْ يَأْتِ السدادِ خَطيبُها
وردنا على هذا الادعاء أن الاحتجاج ببيت أو أبيات لا يقوم حجة، ولا يثبت دعوى، ففي الشعر الجاهلي قصائد كثيرة دعا أصحابها إلى السلام، وحسبك أن تمر بشعر الأفوه الأودي، ولقيط بن يعمر وزهير بن أبي سلمى لتلقى في الشعر أضعاف ما نلقى في الخطب من الحكمة الرزان، والدعوة إلى المصالحة، فها هو ذا مرثد الخير بن ينكف يدعو إلى مجانبة الحرب، وينفر من ثمارها المشؤومة:
ولا تجنيا حرباً تجر عَلَيْكُما عواقبها يوماً من الشّر أشأَما
حذار، فلا تسَّتنِّبوها، فإنها تغادر ذا الأنف الأشمِّ مكشَّما
وها هو ذا العباس بن مرداس يندم على خوضه الحروب، ويبغضها إلى الناس:
ألمْ ترَ أنّي كرِهتُ الحروب وأنِّي ندمتُ على ما مضى
وللأعشى وقيس بن زهير أبيات كثيرة تجري في هذا المضمار. وردنا الأخير أن الفصل بين الخطابة والشعر في العصر الجاهلي مطلب عسير فكثيراً ما ينطوي الخطيب في إهاب شاعر، وكثيراً ما يتحول الخطيب إذا اشتعل حماسة وتفجر غضباً إلى شاعر أو راجز. ومن الشعراء الذين خطبوا وأجادوا عامر بن الطفيل وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المرّي.
ومن أشهر الخطباء الذين برعوا في الخطابة، ولم يبرعوا في الشعر:
- عامر بن الظرب العدواني
- قس بن ساعدة الإيادي
- المأمون الحارثي
- عتبة بن ربيعة خطيب قريش يوم بدر
- ابن عمار الطائي خطيب مذحج
- هانىء بن قبيصة خطيب شيبان في يوم ذي قار
- قبيصة بن نعيم
- هاشم بن عبد مناف
- قيس بن خارجة
أنواع الخطابة وأشهرها في الجاهلية
شهد العصر الجاهلي أنواعاً من الخطب، تختلف باختلاف الدواعي التي تستوجبها، وأشهر الأنواع التي عكست مهارات الخطابة آنذاك هي:
١. خطب المنافرة
٢. خطب الوعظ
٣. الخطب الحماسية الداعية إلى الحرب
٤. خطب الزواج
٥. خطب إصلاح ذات البين
٦. الخطب التي تقال في التعزية
٧. الخطب التي تقال في التهنئة
ولكل رسوم وسمات، وأعلام عرفوا بها.
١ – خطب المنافرة: «المنافرة والمفاخرة بمعنى واحد، وهي المباهاة في الجمع المحتشد بفضائل الأصل ومكارم النسب، ومحامد الخلق، وعلو المنزلة، وجليل الفعال .. ومن هذه المنافرات منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل حينما تنازعا الرياسة، فمضى كل واحد منهما يذكر مناقبه. وهي شبيهة بمعركة انتخابية يتنافس فيهما زعيمان من زعماء السياسة للفوز بتأييد الجماهير. قال علقمة العامر: «أنا خير منك أثراً، وأحد منك بصراً، وأعز منك نفراً، وأشرف منك ذكراً، فرد عليه عامر: «إني أسمى منك سمة، وأطول منك قمة، وأحسن منك لمة)، وأجعد منك جمة، وأسرع منك رحمة، وأبعد منك همة. فإن نظرت في الفضائل التي يعتز بها الطرفان وجدت فيها خلاصة المثل العليا، وزبدة الفضائل والمكارم. ولما كان كبشا النطاح ينتطحان على مرأى من الناس ومسمع، فهما مضطران إلى التزام الصدق، ومجانبة الادعاء. فكأنهما يتقاضيان أمام محكمة يترأسها قاض، ويشهدها جمهور من أنصار الفريقين. وربما أعقبت المنافرة بين الخصمين خطبة يلخص فيها الحاكم رأيه، ولا يقبل منه الحكم مالم يشفع بالأدلة التي ترجح كفة على كفة، كما صنع نفيل بن عبد العزى حين تنافر إليه عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، وحرب بن أمية. خاطب نفيل حرباً فقال: يا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك ملامة، وأكثر منك ولداً، وأجزل صفداً وأطول منك مذودا؟؟ وإني لأقول هذا. وإنك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب، جد المريرة، تجليل العشيرة. ولكنك نافرت منفراً، فحرب – على فضائله الكثيرة – لا يصلح المطاولة عبد المطلب ومقاواته، ولكن جده العائر صغره أمام الكبير وحقره بين يدي الجليل. فخرج من المقامرة مقموراً، وتلك عاقبة المتكبرين.
٢ – خطب الوعظ : إذا فرغ الأعرابي المتبصر من الرعي في السلم، ومن الغزو في الحرب أرسل نظره في السماء، وأعمل عقله في الحياة، وساءه أن يغفل قومه عن حقائق يهديه إليها إدراكه، فطفق يبصرهم بها، ويعظهم وعظ المعتبر بالتجربة الحية. فجاء وعظه نظرات مفككة، لكنها تلتقي عند محور واحد هو مشكلة الموت والمعاناة من الضياع. ومن أشهر الخطباء الوعاظ المأمون الحارثي الذي خطب قومه، فقال: «أرعوني أسماعكم، وأصغوا إلى قلوبكم، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد. طمع بالأهواء الأشر، وران على القلوب الكدر، وطخطخ) الجهل بالنظر. إن فيها ترى لمعتبراً لمن اعتبر أرض موضوعة، وسماء مرفوعة، وشمس تطلع وتغرب، ونجوم تسري فتعزب.. يا أيها العقول النافرة، والقلوب النائرة أنّى تؤفكون، وعن أي سبيل تعمهون وفي أي حيرة تهيمون، وإلى أي غاية توفضون». لو كشفت الأغطية عن القلوب، وتجلت الغشاوة عن العيون، لصرح الشك عن اليقين، وأفاق من نشوة الجهالة من استولت عليه الضلالة. وربما كانت خطبة قس بن ساعدة الإيادي بسوق عكاظ أشهر من هذه الخطبة، ولا يميزها منها إلا مزجها بأبيات من الحكمة تكمل ما في الخطبة من تأملات. أما الموضوع فيكاد يطابق الموضوع الذي طرقه المأمون الحارثي.
٣ – خطب الحرب: في الحرب تغلب الحماسة الحكمة، ويطغى الغضب على الحلم ويتبارى الخطباء والشعراء في إيراء النار. هذا يقتدح، وذاك يحتطب، والنتيجة احتراق القبائل بما تصطلي. وقد تخرج الخطبة من إطار الصراع بين القبائل إلى إطار الحمية القومية، فيذكر الخطيب بالقيم، ويزهد في الحياة، ويدعو إلى النزال. قال هاني بن قبيصة الشيباني محرض قومه يوم ذي قار: يا معشر بكر هالك معذور خير من ناج فرور. إن الحذر الا نجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر. المنية ولا الدنية. استقبال الموت خير من استدباره. الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور. يا آل بكر، قاتلوا فيما للمنايا بده.
٤ – خطب الزواج أو الإملاك: في هذا النمط من الخطب مظهر من رقي العرب وشكل من أشكال التعبير عن تواصلهم الإنساني. وجوهره أن يعلن الخطيب مناقب المخاطب ليظفر بالقبول من أهل المخطوبة، وربما نهض خطيب من قوم المخطوبة فتكلم. فيكون الكلام رداً لبقاً يؤنس الناس، ويترجم مكارم الأخلاق. لكن هذا الضرب من الخطب لا يخلو من إعنات للخطيب، وكد للخاطر، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما يتصعدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح، ولعل السبب في ذلك المأزق اللحج الذي يوضع فيه الخطيب، فالأفكار لا تخلو من مجاملة ومصانعة، ومذاهب القول محدودة بالمدح الهادف إلى الظفر بالقبول، ولذلك يتوخى الخطيب الصدق، وسوق الفضائل ومن أشهر الخطب المأثورة في هذا المجال خطبة أبي طالب في خطبة السيدة خديجة رضي الله عنها لمحمد صلى الله عليه وسلم . قال أبو طالب: «الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وجعل لنا بلدا حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برأ وفضلاً وكرماً وعقلاً ومجداً ونبلاً. وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي. أما الرد فجوهره القبول وإطراء الخطيب للخاطب والمخطوبة، وربما تضمن بعض النصح يزجيه الأب بين يديه، وغايته توجيه ابنته وتوديعها، وتحميل الخاطب تبعة حمايتها. قال عامر بن الظرب العدواني في الردّ على خاطب ابنته صعصعة بن معاوية: يا صعصعة إنك جئت تشتري مني كبدي، وأرحم ولدي عندي، منعتك أو بعتك. النكاح خير من الأيمة، والحسيب كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب، وقد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك أفر من السر إلى العلانية، أنصح ابنا وأودع ضعيفاً قويا ثم أقبل عامر بن الظرب على قومه بنى عدوان، فقال: يا معشر عدوان. أخرجت من بين أظهركم كريمتكم على غير رغبة عنكم. ولكن من خُط له شيء جاءه. رب زارع لنفسه حاصد سواه … وهي خطبة طويلة جميلة.
٥ – خطب إصلاح ذات البين: للبداوة سلوك وخلق تفرضها على أبنائها، فهي تدفعهم إلى الحماسة، وترغبهم في الفخر، وقد ينقلب تفاخر الأعراب إلى منافرة، والمنافرة إلى مشاجرة، وحينئذ يبرز العقل حكماً فيصلاً، يقمع مظاهر العنف، ويطفى جذوة العجرفية، ويبين للمتنافرين أن الصلح أحجى، وينهض بالأمر أصحاب الحكمة الرزان، فينصحون للفريقين بالموادعة، ويزجرونها عن المهاترة، ويدعونها إلى جمع الشمل، ورتق الخرق قبل استفحال العداوة. كان مرثد الخير بن ينكف قيلاً، وكان حدباً على عشيرته، محباً لصلاحهم، وكان سبيع بن الحارث، وميثم بن مثوب بن ذي رعين تنازعا الشرف حتى تشاحنا، وخيف أن يقع بين حيهما شر، فيتفانى جذماهما، فبعث إليهما مرتد، وقال: إن التخبط وامتطاء الهجاج، واستحقاب اللجاج، سيقفكما على شفا هوة، في توردها بوار الأصيلة، وانقطاع الوسيلة، فتلافيا أمركما قبل انتكاث العهد، وانحلال العقد وتشتت الألفة. فقد عرفتم أنباء من كان قبلكم من العرب ممن عصى النصيح، وخالف الرشيد، وأصغى إلى التقاطع، ورأيتم ما آلت إليه عواقب سوء سعيهم، وكيف كان صيور أمورهم، فتلافوا القرحة قبل تفاقم الثاني).
٦ – خطب التعزية والتهنئة: من آداب الجاهلية التي أقرها الإسلام التعزية بما يحزن والتهنئة بما يفرح. ولما كانت حياة القوم قسمة بين بؤسى ونعمى، وترح وفرح فقد كثر كلامهم في التعزية والتهنئة. كانوا إذا عزوا حاولوا أن يهونوا من شأن الدنيا، وأن يزهدوا في ترفها، لأنها إلى زوال، وحاولوا أن ينفحوا الناس بالمواعظ، ويحثوهم على التزام الفضائل، لأن حسن الأحدوثة أبقى ما يبقى من البشر. عزّى أكثم بن صيفي عمرو بن هند ملك الحيرة حينما قضى أخوه فقال: «إن أهل هذه الدار سفر، لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها. وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيطعن عنك، ويدعك واعلم أن الدنيا ثلاثة أيام: فأمس عظة وشاهد عدل، فجعك بنفسه، وأبقى لك وعليك حكمته. واليوم غنيمة وصديق أتاك، ولم تأته، طالت عليك غيته، وستسرع عنك رحلته. وغد لا تدري من أهله، وسيأتيك إن وجدك، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر. وقد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفروع بعد أصولها؟ واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها. وخير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله. وكانوا في التهنئة يذكرون فضل المهنا، ويذكرونه بفضل الله عليه، وكأنهم بذلك يكفونه عن الغرور، ويزجرونه عن البطر والأشر. هنا عبد المطلب بن هاشم سيف بن ذي يزن باسترداد ملكه من الحبشة، فقال: إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلاً رفيعاً، صعباً منيعاً، باذخاً شامخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته، وعزت جرثومته. أشخصنا إليك الذي أبهجك بكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة، لا وفد المرزئة.
سنن الخطباء وقواعد ممارسة الخطابة
تواضع الخطباء على رسوم يلتزمونها، وأعراف يتبعونها في أثناء التحدث إلى الناس. ومما يميز الخطابة إلقاؤها في المحافل، والأندية التي يتقاطر إليها الناس. وهذه السنن المتبعة ترقى بفن الخطابة، وتخلع عليه ظلال الهيبة، وأبرزها أن الخطباء كانوا في المواسم يتسنمون الرواحل، ليراهم القاصي والداني، ويلوثون على رؤوسهم العمائم، فتزيدهم وقاراً، ويشيرون في أثناء النطق بالمخاصر، والعصي، والقسي، فتبلغهم هذه الإشارات الموزونة مواطن التأثير في نفوس القوم.
ومما يمتدح في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، شديد العارضة، قوي الحجة، كثير الريق، حاضر البديهة، حَسَن الالتفات، قوي الشخصية، قادراً على إقناع الناس بما يرى أنه الحق. وربما لجأ الخطيب إلى اصطناع الجهارة في الصوت واصطناع السعة في الشدق، والتلاعب بالصوت تضخيماً وتفخيماً، وتوقيعاً وتنغيماً حتى يسحر السامعين بالصوت قبل أن يقنعهم بالحجة. وأجاد بعض الخطباء في بعض الخطب إجادة خلدت ما قالوا، فحفظ الرواة خطبهم، وسموها بأسماء تميزها من غيرها. قال الجاحظ ومن خطب العرب العجوز وهي خطبة لآل رقبة، ومنها العذراء، وهي خطبة قيس بن خارجة في حرب داحس والغبراء.ومما أخذ على الخطيب البهر والارتعاش، والعي والحصر، والتلجلج، والخوف من لقاء الناس، ومس الذقن والسبال والشوارب، وكأنهم رأوا أن في ذلك شططاً وإسرافاً في الحركات المعبرة، أو دليلاً على إنطاق الجوارح بما يعجز اللسان عن النطق.
خصائص الخطابة الجاهلية وسماتها الرئيسة
يطيب لكثير من الباحثين أن يشكك في كثير ما روي من خطب الجاهليين، لبعد العهد بين روايتها وتدوينها. ونحن لا نرى في هذا البعد وفي غيره من الحجج مسوغات كافية لإنكار هذه النصوص كلها أو بعضها، وتذكر خصائصها ذاهبين إلى أنها إلى الصحة أقرب، وأهم هذه الخصائص التي ميزت فن الخطابة في تلك الحقبة:
(١) القصر: فإذا قست ما روي من خطب العصر الجاهلي بما روي من خطب العصرين الإسلامي والأموي أدركت هذه الظاهرة، وهي عندنا حجة لإثبات الصحة، لا دليل على الشك فيها، لأن الحفظة نقلوا ما بقي في الذهن ولم يتزيدوا، ولو أرادوا الانتحال لأطالوا.
(٢) غياب المنهج: لا تجد في خطب العصر الجاهلي منهجاً واضح القسمات وخطوات مرعية يلتزمها الخطيب. فمن الخطباء من كان يهجم على غرضه بلا تمهيد، ويختم كلامه بلا خاتمة تلخص رأيه. ومنهم من يبدأ بالعبارة المألوفة (أما بعد) ومنهم من يجري لسانه بالفكرة الأولى التي يقذفها الخاطر غير مفتتح بهذه العبارة، أو بعبارة أخرى يلتزمها الخطباء.
(٣) الاستشهاد بالشعر: لما كان الشعر أهم الفنون الأدبية في العصر الجاهلي فإن الخطيب كان يتوكأ على الشعر، ويناقل بينه وبين النثر فمرة يجعل الشعر حشوا في خطبته، ومرة يجعله خاتمة لها.
(٤) قصر الجملة: عني الخطباء بإيقاع الكلام، وأتقنوا تقسيمه إلى جمل موزونة في أغلب الأحيان.
(٥) الصنعة: لا يخلو كلام الخطباء من سجع وازدواج وتوازن لأن هذه الظواهر تعين الخطيب على التأثير في القلوب والأسماع.
(٦) بساطة الأفكار: أفكار الخطباء مجموعة من معان مقطعة، وأفكار واضحة، يعوزها الفكر العميق. وهذه الظاهرة حجة كافية لترجيح الصحة على الشك في نسبة الخطب إلى أصحابها.
خاتمة
في الختام، يتضح أن الخطابة لم تكن مجرد فن ثانوي في العصر الجاهلي، بل كانت قوة محركة للمجتمع، توازي الشعر في أهميتها، بل وتتفوق عليه في بعض المواقف الحاسمة. من خلال استعراض مكانتها الرفيعة، وأنواعها المتعددة التي لامست كل جوانب الحياة من الحرب والسلم إلى الزواج والإصلاح، والسنن والخصائص التي شكلت ملامحها، ندرك عمق هذا الفن وتجذره في الثقافة العربية. إن فهم أصول الخطابة الجاهلية هو في جوهره فهم لجزء أصيل من هوية وتاريخ العرب، وإدراك لقوة الكلمة وتأثيرها الخالد.
سؤال وجواب
١- ما هي مكانة الخطابة في العصر الجاهلي مقارنة بالشعر؟
كانت للخطابة مكانة عظيمة وشأن كبير، ورأى البعض أنها تفوقت على الشعر بسبب صخب الحياة السياسية، بينما يرى آخرون أن الشعر كان الأسبق والأكثر تأثيراً، وأن مكانة الخطابة ارتفعت بعد أن أسف بعض الشعراء في استخدام شعرهم.
٢- لماذا ازدهر فن الخطابة في حياة العرب الجاهليين؟
ازدهرت الخطابة لأن حياة العرب كانت تقتضي وجودها، فقد كانت الأداة الرئيسة إلى جانب الشعر في ترجمة المشاعر والأفكار، وتوجيه الأحداث الكبرى مثل الحروب والمصالحات والدفاع عن مصالح القبيلة.
٣- ما هي أبرز أنواع الخطابة التي شاعت في العصر الجاهلي؟
شملت أنواع الخطابة: خطب المنافرة للمفاخرة بالأنساب والأفعال، وخطب الوعظ للتذكير بالموت وحقائق الحياة، والخطب الحماسية للحث على القتال، وخطب الزواج، وخطب إصلاح ذات البين، بالإضافة إلى خطب التعزية والتهنئة.
٤- ما المقصود بخطب المنافرة وما هو الهدف منها؟
هي نوع من الخطابة يقوم فيه شخصان بالتفاخر والمباهاة أمام حشد من الناس بفضائل الأصل والنسب ومكارم الأخلاق، والهدف منها هو إثبات التفوق على الخصم وكسب تأييد الجمهور والظفر بالرياسة أو المنزلة.
٥- ما هي السمات التي كان يجب أن يتمتع بها الخطيب الناجح؟
كان يُمتدح في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قوي الحجة، حاضر البديهة، ذا شخصية قوية قادرة على الإقناع، مع حسن استخدام الإشارات الجسدية كرفع اليدين واستعمال العصا لزيادة التأثير في نفوس السامعين.
٦- هل اتبعت الخطب الجاهلية منهجاً أو هيكلاً محدداً؟
لا، تميزت الخطابة الجاهلية بغياب المنهج الواضح، فبعض الخطباء كانوا يبدأون في عرض غرضهم مباشرة دون مقدمة أو ينهون كلامهم دون خاتمة، بينما استخدم آخرون عبارة “أما بعد” كبداية، ولكن لم يكن هناك هيكل ثابت وملزم للجميع.
٧- ما هي الخصائص الفنية الرئيسة التي ميزت الخطابة الجاهلية؟
من أبرز خصائصها القصر وإيجاز العبارة، وقصر الجمل مع العناية بالإيقاع، والاستشهاد بالشعر، واستخدام الصنعة اللفظية كالسجع والازدواج، بالإضافة إلى بساطة الأفكار ووضوحها المباشر.
٨- كيف استخدم الخطباء الشعر في خطبهم؟
كان الخطيب يتكئ على الشعر لتقوية حجته وتزيين كلامه، فكان يدمجه في ثنايا الخطبة كدليل أو حكمة، أو يجعله خاتمة مؤثرة لخطبته لترسيخ الفكرة في أذهان المستمعين.
٩- ما هو الموقف من صحة نصوص الخطب الجاهلية التي وصلتنا؟
على الرغم من تشكيك بعض الباحثين في صحتها بسبب الفارق الزمني بين إلقائها وتدوينها، يميل النص إلى ترجيح صحتها، معتبراً أن خصائصها مثل القصر وبساطة الأفكار هي دليل على أصالتها لا على انتحالها.
١٠- ماذا كانت وظيفة الخطابة في مناسبات الزواج؟
كانت الخطابة في الزواج وسيلة لإعلان المناقب وطلب القبول، حيث كان خطيب الخاطب يلقي خطبة يمدح فيها الخاطب وأهله، فيرد عليه خطيب من أهل المخطوبة بالقبول والثناء، مما يضفي على المناسبة طابعاً رسمياً وأخلاقياً رفيعاً.