الفخر عند لبيد بن ربيعة: تجليات الفخر الفردي والقبلي في شعره
تحليل عميق لأبعاد الفخر الشخصي والجماعي في أشعار الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة العامري

يُعد لبيد بن ربيعة من أبرز شعراء العصر الجاهلي والإسلامي، حيث شكّل الفخر محورًا أساسيًا في ديوانه. تستكشف هذه المقالة أبعاد هذا الغرض الشعري لديه، وتوضح كيف تجلى الفخر عند لبيد بن ربيعة في شقيه الفردي والقبلي.
مقدمة في فهم الفخر عند لبيد بن ربيعة
لم يكسر اليتم أنف لبيد، ولم يطفئ جذوة العنفوان في نفسه لسببين: أولهما أن أعمامه أحسنوا تنشئته وقدروا موهبته. وثانيهما أن قومه أدركوا ما ينطوي عليه فتاهم من ملكات فقدموه وجعلوه – وهو غلام – أحد الوافدين على ملك الحيرة. إن هذه النشأة كانت حجر الأساس الذي بُني عليه الفخر عند لبيد بن ربيعة.
فكان هجوه الربيع بن زياد المحك الأول الذي كشف عن معدنه ورسخ ثقته بلسانه، وثقة قومه به، وحضه على التفاني في الدفاع عن بني عامر. وهكذا جرى لبيد في مضماري الفخر الفردي والفخر القبلي غير متردد، ليصبح شعره مرآة تعكس هذه القيم الأصيلة.
تجليات الفخر الفردي في شعر لبيد
فَقَدَ لبيد أباه وهو طفل فكان أبا نفسه، يروضها على احتمال التبعات وينشئها على التمرّس بالصعاب، وتقديم العون إلى من يطلبه. وإذا كان قَدْ لَهَا في شبابه لهواً غير متهور، وأنفق في الخمر مالاً ولم يسرف، فإنه لم يله بالتافه عن الخطير، ولم تشغله الشهوة عن النخوة. وقد تجسدت هذه النخوة في أفعال محددة شكلت جزءًا أساسيًا من الفخر عند لبيد بن ربيعة، ومنها:
- فك قيود الأسرى.
- هداية الضالين في ظلمات الليل.
- إغاثة المستغيث.
- طعن الخصم المعتدي طعنة قاتلة.
وكان يجتاح ظلمات الليل ليهدي الضالين سواء السبيل حتى إذا أبلغهم مأمنهم، وبزغ ضياء الفجر انصرف إلى مكرمة أخرى، فأغاث المستغيث، وطعن خصمه الطعنة القاتلة التي تبكي على المعتدي نساء الحي:
وعانٍ فَكَكْتُ الكَيْلَ عَنْهُ، وَسُدْفَةٍ سرَيْتُ، وَأَصحابي هَدَيْتُ بِكَوكَب
سرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَغَيَّبَ نَجْمُهُمْ فقال النعُوسُ: نَوَّرَ الصُّبْحُ فَاذْهَبَ
وَدَعْوَةِ مَرهوبٍ أَجَبْتُ وَطَعْنَةٍ رفعتُ بها أَصْوَاتَ نَوْحٍ مُسَلْبِ
اللسان والعرض والمال: ركائز الفخر الشخصي
ومن مفاخر لبيد لسانه الذلق الطلق ودفاعه عن الحق، وقدرته على المفاخرة، وحمايته عرضه من المهانة. وأسعد الناس من برىء من الذم، وأقواهم من لم يتهيب مظاهر القوة، وهيبة الملك. ومن كانت له همة لبيد لم يمنعه ازدحام السيوف والسهام من تجويد الكلام، ولم تعقل الرعدة لسانه خوفاً من الأبطال.
بل يشق لسانه الحاد السبيل إلى قلوب الناس بالحجة الدامغة والحق المبين:
وَحَيْتُ قَوْمِي إِذْ دَعَتْنِي عَامِرٌ وَتَقَدَّمَتْ يَوْمَ الغَبِيطِ وقود
أكرمت عرضي أَنْ يُنَالَ بِنَجْوَةِ إن البريء مِنَ الهَنَاتِ سَعِيدُ
ما إن أهابُ إِذا السرادق غَمُّهُ قرعُ القسيّ وأرعشَ الرعدِيدُ
وإذا كان الناس يفاخرون بالمال ويظنون أنه الشرف، فلبيد يفاخر بإنفاقه في حماية الشرف، وبالاتجار به في سوق المحامد. وحسبه ربحاً أن يبلغه ماله حسن الذكر، وأن يعينه على القيام بحق الضيف، وأن يجعله قدوة يقتدي بها الناس كما اقتدى لبيد بالكرام من بني عامر. يعكس هذا المنظور العمق الأخلاقي الذي اتسم به الفخر عند لبيد بن ربيعة.
ويظهر ذلك جليًا في قوله:
أقي الِعرْضَ بِالمَالِ التِّلادِ وأَشْتَري بهِ الحَمْدَ إِنَّ الطَّالب الحمدَ مُشترِ
أباهي به الأكْفَاء في كلّ مَوْطِن وأقضي فُرُوضَ الصَّالحينَ وَأَقْتَرِي
العزيمة ومواجهة الخطوب كمصدر للفخر
ومعدن الإنسان لا يظهر إلا في الملمات، إذ يثبت أصحاب العزائم، ويخور المهازيل، ولبيد من أولي العزم، لا يثنيه خطر عن قصد، ولا يعروه تردد إذا صمم. بل يغالب الخطوب ويصبر عليها حتى تنكشف، ولا يلوم زماناً قدر عليه البلاء.
بل يتلقى البلاء بالمضاء، كما يصور في أبياته التي تعد مثالًا واضحًا على ثباته:
ما يَمْنَعُ اللَّيْلُ مِنّي مَا هَمَمْتُ بِهِ ولا أحار إذا ما اعتادَني السِّفَرُ
إن أقاسي خُطوباً ما يقوم لها إلا الكرام على أمثالها الصبر
ولا أقولُ إِذا ما أَزْمَةٌ أَزمَتْ يا ويحَ نَفْسِي ما أَحْدَثَ القَدَرُ
الفخر القبلي: الانتماء إلى بني عامر
لو كان أعمام لبيد قد تحيّفوه لأسلكوه مسلك طرفة في الشكوى من ذوي القربى، أو لأركبوه مركب الصعلكة، فكان حرباً على قومه. لكنهم أكرموه صغيراً فأكرمهم كبيراً، وأحسنوا رعايته بعد مصرع أبيه فرعى بني عامر أحياء وصرعى ونافح عن حياضهم منافحة الحكيم المجرّب.
إِنْ سمع عنهم فرية دحضها، وإن نافرهم شاعر انبرى له، يدفع دعواه الباطلة بالبرهان المبين حتى ينقاد له ولقومه، ويقر لهم بالفضل، وهذا ما يرسخ مفهوم الفخر عند لبيد بن ربيعة كونه دفاعًا عن كرامة الجماعة:
قَوْمِي بَنُو عَامِرٍ وَإِنْ نَطَقَ الـ أعداءُ فِيهِمْ مَناطِقاً كَذِبًا
بِمِثْلِهِمْ يُجْبَهُ المَناطِحُ ذُو الع ـزّ ويُعطي المحافظُ الجَنبا
أسس الفخر العائلي والقبلي عند لبيد
وأوضح براهينه دلالة على ما يقول أن يسرد على مسامع العرب سلسلة ذهبية من بني عامر حفظت ذاكرة الزمان أسماءهم، وشهد لهم التاريخ بالكرم والنجدة والشجاعة والوفاء. فالفخر عند لبيد بن ربيعة لم يكن ادعاءً فارغًا، بل استند إلى تاريخ حافل ومجيد لأجداده الذين كانوا مثالًا يحتذى به، ومنهم:
- أعمامه: ابن الحيا، وأبو شريح، وخالد، وقد عُرفوا بالحزم والجود.
- جده عتبة بن جعفر: فارس الرعشاء، وهو رئيس بريء من المثالب والعيوب.
- أبوه ربيع الأيتام: كان يقري الضيف عن سعة وغنى دون منّ أو أذى.
وقد وثق لبيد هذا المجد العائلي في شعره قائلًا:
فَعَنمّي ابْنُ الحَيَا وأَبو شُرَيْحٍ وَعَمّي خَالِدٌ حَزْمَ وَجُودُ
وَجَدّي فارِسُ الرَّعْشَاء مِنْهُمْ رئيسٌ لا أسرُّ ولا سنيدُ
وجدتُ أَي ربيعاً لِلْيَتَامَى وَلِلْأَضْيَافِ إِذْ حُبُّ الفَئِيدُ
قوة القبيلة ومنعتها في شعر لبيد
فأي شريف يستطيع أن يقيس قومه بقوم لبيد؟ وأي شرف يطاول هذا الشرف الباذخ؟ ومن لم يصدق دعوى لبيد فليأت بأنداد يضارعون قومه وهيهات أن يكون لهم ضريع. وفي انتماء لبيد إلى قومه قوة تحميه، فمتى همّ متخرص بانتقاصه ثمّ عرف أنه عامري أمسك، لأنه على يقين أن جحافل العامريين تقهر من يحاربها، وتجندل من يناطحها.
وهذا ما يؤكده بقوله:
إنّي امرءٌ مَنَعَتْ أَرومَهُ عامر ضيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَليَّ خُصُومُ
بكتائب تَرْدِي تَعَوّدَ كَبْشُها نطح الكباش كأنهْنَ نُجُومُ
والتاريخ بعيده والقريب له شافع، فقد حمى بنو عامر (شعب جبلة) يوم تخاذلت تميم، وجبنت أسد، وانكفأت ذبيان. فكانت قبيلته مصدر قوة وعزة، وتميزت بصفات جعلت الفخر عند لبيد بن ربيعة أمرًا راسخًا ومبررًا، ومن هذه الصفات:
- جوهر وهاج: لا تملكه القبائل الأخرى.
- عنصر كريم: يميزهم عن غيرهم.
- عقول راسخة: تدل على الحكمة.
- أعراق حسيبة: تشير إلى أصالة النسب.
وهو ما يصفه في قوله:
قَوْمِي أُولئِكَ إِنْ سَأَلْتِ بِخِيمهِمْ ولِكُلِّ قَوْم في النوائب خِيمُ
وَهُمْ حُلوم كالجبال، وَسَادَة نجبٌ وفرعٌ ماجدٌ وأرُومُ
خلاصة: تلاحم الفخر الفردي والقبلي
على هذا النحو مضى لبيد يفاخر بقومه راسخ الخطى، ثابت العزم، مستنداً إلى حقائق الواقع والتاريخ، يمجد القبيلة التي مجدته، ويضيف إلى موروثها طريفاً يستجده. وبهذا، يتضح أن الفخر عند لبيد بن ربيعة لم يكن مجرد غرض شعري، بل كان هوية متكاملة.
فإذا الفردي بعض القبلي، وإذا الخاص توءم العام أو ربيبه. وهكذا، قدم الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة نموذجًا فريدًا للفخر الذي يجمع بين الاعتزاز بالذات والولاء المطلق للقبيلة، ليظل شعره شاهدًا على قيم الفارس العربي الأصيل.
سؤال وجواب
١- ما هما النوعان الرئيسيان للفخر في شعر لبيد بن ربيعة؟
النوعان الرئيسيان هما الفخر الفردي، الذي يركز فيه على صفاته الشخصية مثل الشجاعة والكرم وحماية العرض، والفخر القبلي، الذي يمجد فيه قبيلته بني عامر ويستعرض تاريخها وأمجادها وبطولاتها.
٢- على ماذا استند لبيد في فخره القبلي ببني عامر؟
استند لبيد في فخره القبلي على تاريخ قومه الحافل بالمآثر، حيث ذكر أسماء أجداده المشهورين بالكرم والشجاعة مثل أبيه “ربيع الأيتام” وجده “فارس الرعشاء”، كما استشهد بوقائع تاريخية مثل يوم “شعب جبلة” الذي أظهر منعة قبيلته.
٣- كيف أثرت نشأة لبيد في تكوين شعوره بالفخر؟
أثرت نشأته بشكل كبير، حيث إن رعاية أعمامه له بعد يتمه وتقديرهم لموهبته، بالإضافة إلى ثقة قومه به وتقديمه وهو غلام لملك الحيرة، كل ذلك عزز ثقته بنفسه ورسخ شعوره بالعنفوان والانتماء.
٤- ما هي أبرز مظاهر الفخر الفردي عند لبيد بن ربيعة؟
تجلت مظاهر فخره الفردي في أفعاله الأخلاقية مثل فك قيود الأسرى، وإغاثة المستغيث، وهداية الضالين ليلاً، بالإضافة إلى فصاحة لسانه، وقدرته على الدفاع عن الحق، وثباته وصبره في مواجهة الشدائد.
٥- كيف وازن لبيد بين قيمة المال وقيمة الشرف في شعره؟
كان لبيد يرى المال وسيلة وليس غاية، حيث يفاخر بإنفاقه لحماية العرض وصون الشرف، وشراء الحمد والثناء، وإكرام الضيف. فالشرف عنده أسمى من المال، والمال خادم للشرف.
٦- ما هي العلاقة بين الفخر الفردي والفخر القبلي عند لبيد؟
العلاقة بينهما تكاملية ومترابطة، ففخره بنفسه هو جزء من فخره بقبيلته التي ينتمي إليها ويحمل قيمها، ومجدُه الشخصي يضيف إلى مجد القبيلة. فالفردي في شعره هو انعكاس للقبلي، والخاص توأم للعام.
٧- من هم أبرز أجداد لبيد الذين ذكرهم كمصدر للفخر؟
ذكر من أجداده وأعمامه: عمه ابن الحيا، وأبو شريح، وخالد الذين اشتهروا بالحزم والجود، وجده عتبة بن جعفر المعروف بلقب “فارس الرعشاء”، ووالده “ربيع” الذي كان ملجأ للأيتام والضيوف.
٨- كيف يظهر الفخر عند لبيد بن ربيعة في مواجهة الصعاب والملمات؟
يظهر فخره في مواجهة الصعاب من خلال ثباته وعزيمته، حيث يؤكد أنه لا يتردد أمام الخطر ولا يلوم القدر عند نزول البلاء، بل يقاسي الخطوب بصبر الكرام، معتبراً ذلك من شيم أصحاب العزائم.
٩- ما هو البرهان التاريخي الذي ساقه لبيد لإثبات منعة قومه؟
البرهان التاريخي الأبرز هو يوم “شعب جبلة”، حيث ذكر أن قبيلته بني عامر قد حمت الموقف وثبتت في المعركة بينما تخاذلت قبائل أخرى مثل تميم وأسد وذبيان، مما يثبت تفوقهم وشجاعتهم.
١٠- ما هي الصفات التي ميز بها لبيد قومه بني عامر عن غيرهم؟
ميزهم بصفات جوهرية مثل امتلاكهم لعقول راجحة كالجبال، وكونهم سادة نبلاء، وأصحاب أرومة كريمة ونسب أصيل، مما يجعلهم متفردين في أوقات الشدائد والنوائب.