مصطلحات أدبية

الاعتذاريات في الشعر العربي: فنٌّ يروي قصص الملوك والشعراء

يُعدّ الاعتذار فعلًا إنسانيًا عميقًا ونبيلًا، يتجاوز مجرد الإقرار بالخطأ ليصبح تعبيرًا عن الشجاعة والوعي بالذات. ففي العديد من الثقافات، قد يُنظر إلى الاعتذار على أنه مظهر من مظاهر الضعف، إلا أن جوهره يتطلب قوة داخلية تمكّن الفرد من الإذعان للحق ومحاسبة الذات، مما يجعله موقفًا يتسم بالبسالة. هذا المفهوم الإنساني المتجذر وجد له صدىً عميقًا وتجليًا فريدًا في الشعر العربي القديم.  

لم يكن الاعتذار مجرد كلمة عابرة في التراث الأدبي العربي، بل تطور ليصبح غرضًا شعريًا قائمًا بذاته، عُرف بـ”الاعتذاريات”. هذه القصائد لم تكن مجرد تعبيرات فردية عن الندم أو التبرير، بل كانت مرآة تعكس بوضوح طبيعة العلاقات المعقدة بين الشعراء ومراكز القوة، كالملوك والأمراء، إضافة إلى ديناميكيات السلطة، والولاء، والصراعات القبلية والسياسية التي سادت تلك العصور الغابرة. لقد كانت الاعتذاريات سجلًا فنيًا غنيًا بالتعقيد والثراء، يروي قصصًا من صميم الحياة السياسية والاجتماعية.

الاعتذاريات: نشأة غرض شعري وتأصيل لمفهوم الاعتذار

تُعرف “الاعتذاريات” بأنها غرض شعري أصيل في الأدب العربي القديم، استغله الشعراء وسيلةً للتشفع وطلب البراءة مما قد يُشاع عنهم من تهم أو وشايات لدى الملوك والأمراء. هذا الغرض مشتق لغويًا من الجذر “اعتذر، يعتذر، اعتذارًا”. كان الهدف الأساسي من هذه القصائد هو التبرؤ من الاتهامات بالخيانة أو الذنب وإظهار الولاء المطلق للمعتذر منه.  

لم يكن ظهور الاعتذار الشعري، كفن متفرع عن المديح، ظاهرة حديثة تمامًا في صدر الإسلام، بل نشأ وتجذّر في العصر الجاهلي. وقد طرق هذا الباب عدد من الشعراء الأوائل، مثل عمرو بن قميئة وبشر بن أبي خازم، اللذين يُعدان من رواد هذا الفن. ومع ذلك، ظل هذا الغرض قليلًا نسبيًا في الشعر الجاهلي قبل النابغة الذبياني، وكان يأتي غالبًا لإظهار الندم على فعل حدث.  

يُمكن فهم العمق الفلسفي الكامن وراء الاعتذار الشعري من خلال بيت دعبل الخزاعي الشهير: “تأن ولا تعجل بلومك صاحباً لعل له عذراً وأنت تلوم”. هذا الشطر الثاني، الذي تحول إلى مثل يُردد في المجالس والخصومات، يلخص جوهر الاعتذار كدعوة للتمهل في الحكم والبحث عن المبررات أو الأسباب الكامنة قبل الإدانة. إن قصائد الاعتذار، في جوهرها، هي محاولة لتقديم هذا “العذر” أو التبرير بطريقة فنية ومؤثرة. هذا يشير إلى أن فعل الاعتذار الشعري لم يكن مجرد طلب للرحمة، بل كان استئنافًا لحس أعمق من العدالة والتفهم وإمكانية الخطأ في الحكم. إنه يعكس قيمة مجتمعية عميقة تُعطى للاستماع إلى التفسيرات والنظر في وجهات النظر البديلة قبل الإدانة. لذا، تحول الشكل الشعري إلى وسيلة راقية لعرض هذه “الأعذار” أو “الدفاعات” بطريقة مقنعة ومؤثرة بلاغيًا وعاطفيًا. هذا الارتقاء بفعل الاعتذار من مجرد “أنا آسف” إلى التماس معقد ومبرر وفني لإعادة النظر، يُبرز العمق الفكري المتأصل حتى في الأغراض الشعرية التي قد تبدو بسيطة.  

النابغة الذبياني: رائد الاعتذار وباني صرحه الفني

يُعد النابغة الذبياني بلا منازع أسبق العرب في فن الاعتذار، وقد أسهب فيه وأتقنه، مما أكسبه شهرة واسعة حتى قيل عنه إنه “أضاف إلى الشعر فنًا جديدًا” ، وهو فن الاعتذار. هذه الريادة تبرز مكانته كشاعر ناقد لا يرضى إلا بأعلى مستويات الإتقان في شعره. يُصنف النابغة من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، وقد كان شعره وسيلة للتقرب من الملوك والشخصيات البارزة.  

جمعت النابغة بالنعمان بن المنذر، ملك المناذرة في الحيرة (580-602 م)، علاقة معقدة ومتوترة كانت المحرك الأساسي لسلسلة من القصائد التي أصبحت أيقونة في فن الاعتذار. كانت دوافع اعتذار النابغة متعددة الأوجه، تتجاوز الجانب الشخصي إلى أبعاد سياسية وقبلية عميقة.  

دوافع الاعتذار عند النابغة الذبياني

تتعدد الأسباب التي دفعت النابغة الذبياني إلى نظم قصائده الاعتذارية، ويمكن تصنيفها ضمن أبعاد شخصية، سياسية، وفنية، مما يكشف عن تعقيد هذا الغرض الشعري:

البعدالدافعالشرح
شخصي/عاطفيالندم على المفارقةندم الشاعر على القطيعة العظيمة التي حدثت بينه وبين النعمان، بسبب الوشاة والحاسدين.
الرغبة في العودةرغبة كامنة في العودة إلى كنف النعمان والعيش في ترفه وهباته ومنعته.
الرهبة والخوفخوفه الشديد من نقمة النعمان وبطشه الذي كان يؤرقه ويقض مضجعه.
سياسي/قبليتبرير مدح الغساسنةتسويغ فني وأدبي مقنع لما قاله في مدح الغساسنة (خصوم المناذرة)، وبيان أسباب هذا المديح.
الولاء المطلق للنعمانبيان مظلوميته من الحاسدين والحاقدين وتأكيد ولائه المطلق والحقيقي للنعمان.
تهديد مصالح قبيلتهمحاولة تسوية الخلافات التي نشأت بسبب تهديد مصالح قبيلته (بني يربوع) لمصالح الحيرة.
فني/بلاغيإثبات البراءة بالحجاجاستخدام أساليب الحجاج (القسم، التبرير المنطقي) لتفنيد الاتهامات وإقناع النعمان ببراءته.
تمجيد سلطة المعتذر منهتعظيم قوة النعمان ونفوذه بين القبائل كجزء من استراتيجية الاعتذار وكسب الرضا والعفو.

لقد رفض الدارسون المعاصرون التفسير القديم للخلاف الذي كان يرى الأسباب شخصية بحتة، وركزوا على الأبعاد السياسية والقبلية الأكثر تعقيدًا. فالنابغة كان يرى مصلحة قبيلته ذبيان في إقامة علاقات متوازنة مع كل من الغساسنة (خصوم المناذرة) واللخميين (المناذرة) دون الانحياز التام لأي طرف. وقد أدت تهديدات بني يربوع بن غيظ، أقرباء النابغة، لمصالح الحيرة الاستراتيجية في الجزيرة العربية، إلى إثارة غضب النعمان بن المنذر وسادة ذبيان المقربين منه. نتيجة لذلك، خرج بنو يربوع بن غيظ، ومعهم النابغة، من ديار القبيلة ولجأوا إلى شمالي الحجاز، حيث كان الغساسنة متنفذين، بل وغيروا ولاءهم القبلي مؤقتًا بالالتحاق بنسب قضاعة. ومع نهاية حكم النعمان، سوّى النابغة وقومه خلافاتهم وعادوا إلى نجد. تجدر الإشارة إلى أن قصائد النابغة التي قيلت في الغساسنة تعبر، في الواقع، عن علاقة متوترة لا حميمة، وأن معظمها قد يعود إلى ما بعد عهد النعمان بن المنذر.  

اقرأ أيضاً:  الأسلوب السردي: فن الحكاية والتعبير الأدبي

هذا يكشف أن “الاعتذاريات” كانت أبعد من مجرد التماس شخصي للمغفرة. لقد كانت أداة سياسية بالغة التعقيد استخدمها الشعراء، الذين غالبًا ما كانوا بمثابة متحدثين باسم قبائلهم ودبلوماسيين، للتنقل في ديناميكيات القوة المعقدة. أصبح شعر النابغة وسيلة استراتيجية لإدارة التحالفات، وتأكيد المصالح القبلية، وضمان البقاء الشخصي والجماعي في مشهد سياسي متقلب. وهكذا، كان “الاعتذار” فعلًا محسوبًا من أفعال السياسة، مغلفًا ببراعة شعرية، ومصممًا لاستعادة الحظوة السياسية وتخفيف التهديدات.

تحليل القصيدة الأيقونية “أتاني أبيت اللعن”

يفتتح النابغة الذبياني إحدى أشهر اعتذارياته بالبيت الشهير الذي ورد في استعلام المستخدم: “أتاني أبيت اللعن أنك لمتني * وتلك التي أهتم منها وأنصب”. هذا البيت يعبر عن قلقه العميق وتأثره الشديد باللوم الذي بلغه عن النعمان، ويمهد لبقية القصيدة التي تتضمن القسم على البراءة، وتمجيد النعمان، وتبرير موقف الشاعر بذكاء وحنكة.  

لقد تجاوز النابغة في هذه القصائد مجرد التعبير العاطفي عن الندم. فقد وظف النابغة الحجاج والبلاغة بشكل مكثف لإثبات براءته، وتعددت أنماط القسم في قصائده كأداة إقناعية قوية. فقد أقسم النابغة ونفى التهمة الموجهة إليه، مؤكدًا أن من بلغه الخبر كاذب. ومن الأبيات الأخرى التي تبرز ولاءه وتمجيده للنعمان، تشبيهه البليغ: “فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب” ، الذي يرفع من شأن النعمان ويقلل من شأن غيره، مما يعزز موقفه كمعتذر.  

إن هذا الأسلوب يوضح أن “الاعتذاريات” لم تكن مجرد مناشدة عاطفية، بل كانت شكلًا متطورًا من أشكال الدفاع العلني، يشبه الحجة القانونية المقدمة في قالب شعري. فالشاعر، بصفته محامي نفسه، حشد الأدلة (أو على الأقل، تأكيدات قوية)، واستخدم الأيمان لاستدعاء الشهادة الإلهية، ووظف تفنيدات منطقية لتفكيك الاتهامات. لم يعتمد نجاح الاعتذار على صدق ضيق الشاعر فحسب، بل على القوة المقنعة لبلاغته في إقناع المتلقي القوي (الذي يشبه القاضي) ببراءته. هذا يبرز الدور العميق للم الشعر كوسيلة للعدالة، والبحث عن الحقيقة، وحل النزاعات في العصر الجاهلي، مما يظهر براعة النابغة الفائقة في الارتقاء بهذا الغرض.

السمات الفنية والجمالية لقصائد الاعتذار الجاهلية

تتميز قصائد الاعتذار في الشعر الجاهلي بخصائص فنية وجمالية تعكس عمق التجربة الشعرية في تلك الفترة:

الخصائص العامة للشعر الجاهلي في الاعتذاريات

  • البساطة والوضوح: تميز الشعر الجاهلي بالابتعاد عن التكلف والصنعة والتعقيد، مع الحفاظ على المعاني الراقية واللغة الفطرية، مما يدل على مهارة الشاعر في النظم. البساطة هنا لا تعني السذاجة، بل تعني القدرة على إيصال المعنى بوضوح وجمال دون تعقيد غير ضروري.  
  • الواقعية والصدق: كانت المشاعر والتجارب تُصور بصدق وواقعية، مما يجعل الشعر يعكس مكنونات الشاعر الداخلية وتجاربه اليومية.  
  • الاستطراد والإطالة: مال الشاعر الجاهلي إلى إطالة القصائد، والتطرق لموضوعات أخرى قد تكون قريبة أو بعيدة عن المعنى الأساسي، وهو ما كان يُحمد عليه ويعكس طول نفس الشاعر.  
  • النزعة الوجدانية والروح الجماعية: على الرغم من وجود النزعة الوجدانية التي تصف شعور الشاعر، إلا أنها لم تتجاوز الروح الجماعية، حيث كان الشاعر غالبًا ما يتحدث بصيغة الجمع ليعبر عن حال قبيلته ويكون لسانها.  
  • الخيال: منح اتساع الصحراء وآفاقها الشاعر اتساعًا في الخيال، مما منحه القدرة على تأليف صور جميلة باستخدام الاستعارة والتشبيه والكناية.  
  • تعدد الموضوعات: قصائد الاعتذار غالبًا ما كانت تتضمن أغراضًا أخرى مثل المديح أو الفخر، مما يعكس مرونة القصيدة الجاهلية وتعدد أبعادها.  
اقرأ أيضاً:  الاستقراء: رحلة من الجزئيات إلى الكليات في الفكر والعلم والأدب

السمات الفنية الخاصة باعتذاريات النابغة الذبياني

تُظهر اعتذاريات النابغة الذبياني سمات فنية خاصة تبرز براعته:

  • البناء الفني: التزمت القصيدة الجاهلية ببنية محددة لدى النقاد، مع وحدة موضوعية وشكلية في الغالب، وتقديم الأفكار بشكل متسلسل ومنطقي، حيث يرتبط كل بيت بالذي سبقه.  
  • الطبقة الصوتية (الموسيقى والإيقاع): استخدم النابغة بحر الطويل، وهو بحر يناسب الأغراض الجادة والطويلة. كما التزم بالروي الموحد في القصيدة، مثل حرف العين أو الباء في قصائده الشهيرة. وتمتعت القصيدة بجمالية الأصوات والإيقاع المتناغم في نهاية كل بيت، مما يعكس لطف “الأنا الشاعرية” تجاه “الأنت الشاعرية” (النعمان)، ويؤكد مشاعر الحزن والإرهاق التي يعاني منها الشاعر.  
  • طبقة وحدات المعنى (المضمون والأساليب البلاغية): كان المضمون الأساسي هو الاعتذار من الشاعر للملك، مع مدح للملك وتأكيد على أن الاتهام الموجه للشاعر غير صحيح. وقد استخدم النابغة مكثفًا للأساليب البلاغية التي تزيد من قوة الإقناع والتأثير العاطفي، مثل: الأساليب العاطفية، الاستعارة، الطباق، القسم (للتأكيد على البراءة)، التشبيه، التوكيد، المبالغة، والاستفهام.  
  • طبقة الموضوعات المتمثلة: كان الموضوع الرئيسي هو الاعتذار، وتدعمه موضوعات فرعية مثل الحزن ورثاء الشاعر لنفسه، ومدح المعتذر منه، ويمين الولاء للملك. والشخصيات الرئيسية المذكورة هي “الأنا الشاعرية” (الشاعر نفسه) و”الأنت الشاعرية” (الملك النعمان بن المنذر) كهدف رئيسي للقصيدة. كما تذكر القصائد قلق الشاعر الذي قضى الليل بعد تلقيه اتهامًا غير صحيح.  
  • طبقة المظاهر التخطيطية والطبقة الميتافيزيقية: تعكس هذه الطبقات حالة الشاعر النفسية غير الجيدة التي ترافقه مشاعر الحزن والإحباط والتعب، وتُظهر محاولته للبحث عن العدالة والدفاع عن نفسه بسبب العلاقة التبادلية والعاطفية التي تربطه بالملك.  

إن الاستخدام المكثف للشخصيات البلاغية المعقدة والبناء الصوتي المتناغم يُظهر أن “الاعتذاريات” كانت شكلًا أدبيًا بالغ التعقيد، بعيدًا عن مجرد التعبير التلقائي عن الندم. لقد أبدع الشعراء في صياغة أبياتهم بدقة لتحقيق أقصى تأثير إقناعي، مستفيدين من القوة الجمالية للغة لنقل الصدق والمنطق والاحترام. هذا الرقي يؤكد العمق الفكري والفني للثقافة العربية قبل الإسلام، والقيمة العالية التي كانت تُعطى للبلاغة، حتى في اللحظات التي قد تبدو فيها ضعفًا. إن هذه الدقة في التأليف تكشف عن الإبداع الحقيقي الكامن في صياغة هذه الاعتذارات المؤثرة.

أصوات أخرى في فن الاعتذار: تنوع التجارب الشعرية

لم يقتصر فن الاعتذار على النابغة الذبياني وحده، بل شهدته تجارب شعرية أخرى أثرت هذا الغرض وأظهرت تنوعه:

  • عدي بن زيد العبادي:
    • هو شاعر جاهلي آخر، دخل السجن على يد النعمان بن المنذر، وهو نفس الملك الذي اعتذر له النابغة. قام عدي بن زيد بكتابة الشعر للنعمان مادحًا ومعتذرًا، راجيًا بذلك أن يخرجه من السجن ويعيد له حريته.  
    • من أمثلة أبياته التي تعكس محنته وطلبه العفو: “سَعَى الأعداءَ لا يَالُونَ شَرّاً عَلَيَّ وَرَبَّ مكَّةَ والصَّليبِ” التي تظهر المكائد التي دُبرت ضده، و”أَلاَ مضن مُبلغُ النُّعمانَ عَنِّي وقد تُهدَى النَّصيحَةُ بالَمغيبِ” التي يطلب فيها إيصال نصيحته للنعمان رغم غيابه.  
  • وعلة الجرمي:
    • هو شاعر وفارس جاهلي يماني الأصل، اشتهر ببعض الأبيات الاعتذارية التي يغلب عليها الطابع الفكاهي أو الطريف.  
    • من قصائده الشهيرة: “فدى لكما رجلي أمي وخالتي غداة الكلاب إذ تحز الدوابر”. قيلت هذه القصيدة في سياق يوم الكلاب الثاني، وهي تُعد مثالًا فريدًا للاعتذار عن الفرار من المعركة بطريقة طريفة، حيث يصف نجاته بأنه لم ير الناس مثله، ويشبه نفسه بعقاب كاسر.  
اقرأ أيضاً:  الشعر الجاهلي: دراسة شاملة في تعريفه وأغراضه وخصائصه وأهميته

إن هذه الأمثلة تُظهر أن غرض “الاعتذاريات” لم يكن مقتصرًا على المناشدات السياسية الكبرى ذات الرهانات العالية. بل شملت هذه القصائد طيفًا واسعًا من المواقف البشرية والسجلات العاطفية، من العمق والاستراتيجية التي نراها في أعمال النابغة، إلى اليأس الذي يعبر عنه عدي بن زيد من سجنه، وحتى الفكاهة أو السخرية الذاتية في أبيات وعلة الجرمي. هذا التنوع يؤكد مرونة وثراء الشعر العربي، وقدرته على التعبير عن مجموعة واسعة من التجارب الإنسانية، حتى تلك التي قد تبدو متعارضة مع التركيز الثقافي السائد على الكبرياء. هذا التباين في التعبير الشعري سمح بتفسيرات إبداعية ومتنوعة، عاكسًا بذلك الصورة الكاملة للتفاعل البشري.

مسيرة الاعتذار الشعري: من الجاهلية إلى العصور اللاحقة ومآلاته

لم تتوقف ظاهرة الاعتذار الشعري عند العصر الجاهلي، بل امتدت إلى عصر صدر الإسلام. في هذه الفترة، برزت ظاهرة الاعتذار للنبي صلى الله عليه وسلم ولخلفائه، غالبًا ما كانت نتيجة للصراعات الفكرية والسياسية التي شهدها المجتمع الإسلامي الناشئ.  

تطور الاعتذار في العصر العباسي

واصل الشعراء العباسيون النظم في غرض الاعتذار، الذي كان النابغة الذبياني قد ابتكره في العصر الجاهلي. ومع ذلك، طرأ تحول نوعي؛ فقد اعتمد الشعراء العباسيون بشكل أكبر على قدراتهم العقلية واستخدموا أسلوب الحجاج والإقناع المنطقي بشكل أكثر وضوحًا، مما أثبت قدرة البلاغة على تحقيق الإقناع.  

يُلاحظ أن هذا التطور يعكس ازدهارًا فكريًا وعلميًا أوسع في العصر العباسي. فمع تطور المنطق والفلسفة والبلاغة، أدمج الشعراء هذه التخصصات بشكل أكثر وضوحًا في اعتذاراتهم. تحول التركيز نحو بناء حجج محكمة ومنطقية، وتوظيف هياكل منطقية متطورة، والتوجه إلى عقل المتلقي، بدلًا من الاعتماد فقط على الإقناع العاطفي أو التصريحات الكبرى. يبرز هذا التحول قدرة الشعر على التكيف كوسيلة للخطاب الفكري، ويعكس تغير القيم المجتمعية وأنظمة المعرفة.

من أمثلة شعراء العصر العباسي وما بعده الذين أبدعوا في هذا الفن: الشاعر الدمشقي عرقلة الكلبي، والشاعر الأندلسي ابن زيدون (في اعتذاره لحبيبته ولادة بنت المستكفي)، وسري السقطي. كما يُذكر في هذا السياق دعوات كبار الأئمة والفقهاء كالإمام الشافعي والبحتري لقبول الاعتذار، مما يعكس قيمة الاعتذار في الثقافة الإسلامية كفضيلة أخلاقية.  

أسباب تراجع الاعتذار كغرض شعري بارز

على الرغم من ازدهار الاعتذار الشعري في فترات معينة، إلا أنه شهد تراجعًا كغرض شعري بارز لأسباب عدة:

  • الكبرياء العربية الأصيلة: لقد اعتقد الكثير من العرب الأوائل أن الاعتذار نقطة ضعف واعتراف بالذنب، مما يناقض علو الكرامة والهمة والاعتزاز بالذات الذي عُرفوا به. هذا المفهوم جعل الاعتذار نادرًا في بعض الفترات، حيث كان يُنظر إليه على أنه انكسار أو هزيمة لا تليق بمكانة الفرد.  
  • تغير الوظيفة الاجتماعية للشعر: مع مرور العصور وتغير طبيعة العلاقة بين الشعراء والحكام، وتراجع دور الشعر كوسيلة أساسية للتشفع أو الدفاع القانوني أو السياسي، ربما تراجع الاهتمام بهذا الغرض كفن مستقل بذاته، ليصبح جزءًا ضمنيًا من أغراض أخرى كالعتاب أو المديح.  
  • الاعتذار في العصر الحديث: في المقابل، يُنظر إلى مفهوم الاعتذار في المجتمعات الحديثة بشكل متزايد كقوة وشجاعة، ودليل على النضج والمسؤولية، وليس ضعفًا أو فشلًا. هذا التحول في النظرة يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية الاعتذار في ترميم العلاقات وتعزيز التفاهم.  

خاتمة: الاعتذار كقيمة إنسانية وفن أدبي خالد

يظل الاعتذار، سواء تجلى في أبهى صوره الشعرية أو في أبسط مواقفه اليومية، فعلًا إنسانيًا عميقًا يتطلب شجاعة وصدقًا ووعيًا بالذات. إنه ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو فعل يرمم العلاقات ويجدد الثقة.  

لقد خلفت الاعتذاريات في الشعر العربي إرثًا عظيمًا، كدليل ساطع على ثراء اللغة العربية وقدرتها الفائقة على التعبير عن أعمق المشاعر وأكثر المواقف تعقيدًا، من الخوف والندم إلى التبرير والولاء. لم يكن النابغة الذبياني مجرد شاعر يعتذر، بل كان مبدعًا حقيقيًا صاغ فنًا جديدًا، ووضع أسسًا بلاغية وفنية لهذا الغرض، مما جعله خالدًا في ذاكرة الأدب العربي ومثالًا يُحتذى به في فن الإقناع الشعري. لقد أظهر إبداعًا فريدًا في تحويل موقف شخصي وسياسي معقد إلى تحفة فنية تستخدم كل أدوات البلاغة لإثبات البراءة واستعادة المكانة.  

إن التأمل في مسيرة الاعتذاريات يدعو القارئ إلى فهم أعمق للدروس المستفادة، ليس فقط كفن أدبي عريق، بل كمرآة للقيم الإنسانية المتغيرة والثابتة عبر العصور، وكيف يمكن للفن أن يكون وسيلة قوية للتعبير عن هذه القيم والتأثير في مسار الأحداث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى