الوحي: معناه وصفاته ومظاهره في الكتاب والسنة
دراسة شاملة لركن النبوة والطريق الذي نزل به القرآن الكريم

يُعد الوحي من أعظم المباحث التي يحتاج إليها كل طالب علم ودارس للقرآن الكريم، فهو الصلة الإلهية بين الخالق والمخلوق، والطريق الذي اختاره الله تعالى لإبلاغ رسالاته إلى البشرية. إن فهم حقيقة الوحي وصفاته ومظاهره يُمثل مدخلاً أساسياً لفهم الإسلام بأكمله، ويكشف عن الإعجاز الإلهي في اختيار هذا الأسلوب الفريد للتواصل مع الأنبياء والرسل عبر العصور.
المقدمة
الوحي ركن النبوة الذي به تكون، ومصدر العلم الذي يبلغه الانبياء عن الله تعالى الى الخلائق، ومن هنا كان بحثه وتفصيله على غاية من الأهمية لكل دارس للقرآن، لأنه الطريق الذي جاء هذا القرآن بواسطته. إن دراسة الوحي تفتح أمامنا آفاقاً واسعة لفهم طبيعة الرسالة الإلهية وكيفية تلقي الأنبياء عليهم السلام للتعاليم الربانية، وتكشف لنا عن عظمة الله تعالى في اصطفائه لأنبيائه وتهيئتهم لحمل هذه الأمانة العظيمة. كما أن فهم حقيقة الوحي يُزيل كثيراً من الشبهات ويُرسخ اليقين في قلوب المؤمنين، ويُبين لنا دقة القرآن الكريم في اختيار ألفاظه ومصطلحاته التي تعبر عن معانٍ عميقة لا يمكن لأي لفظ آخر أن يؤديها بنفس الدقة والشمول.
معنى الوحي في اللغة العربية
وكلمة «وحي» لغة كما قال الامام ابن فارس (الواو والحاء والحرف المعتل: أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء الى غيرك، فالوحي: الاشارة، والوحي: الكتاب والرسالة، وكل ما ألقيته الى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان». فالمعنى اللغوي للوحي يدور حول الإلقاء السريع الخفي للعلم والمعرفة، وهذا التعريف اللغوي يكشف لنا عن جوانب مهمة في طبيعة الوحي، فهو ليس مجرد كلام عادي، بل هو إلقاء متميز بالسرعة والخفاء، مما يجعله يختلف عن سائر أنواع التواصل البشري العادي.
ويختص معنى الوحي لغة اضافة الى ما ذكرناه بتضمنه معنى السرعة، فالإشارة السريعة هي التي يقال لها: وحي. ولتضمنه معنى السرعة قالوا: أمر وحي وشيء وحي” أي سريع، والوحي الوحي بحاجتي أبي السرعة بقضائها. ومنه قوله تعالى في زكريا عليه السلام: «فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا. أي أشار إليهم اشارة سريعة. فالسرعة إذن عنصر جوهري في معنى الوحي اللغوي، وهذا يتناسب تماماً مع طبيعة الإلهام الإلهي الذي يحدث بسرعة البرق ودون تأخير أو تمهل، فالملك جبريل عليه السلام كان ينزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرعة فائقة، وكان النبي يتلقى هذا الوحي في لحظات معدودة رغم ما يحمله من معانٍ عظيمة وعلوم جليلة.
استخدامات الوحي في القرآن الكريم والمعنى الاصطلاحي
وورد الوحي في القرآن بمعنى الالهام، كما في قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه). وورد بمعنى الالهام الغريزي في قوله تعالى: (وأوحى ربك الى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون). كما ورد بمعنى الوسوسة: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا». فالقرآن الكريم استخدم لفظ الوحي في سياقات متعددة، مما يُبين مرونة هذا اللفظ وشموليته، وكل هذه الاستخدامات تشترك في المعنى الأساسي وهو الإلقاء السريع الخفي، سواء كان من الله تعالى أو من الشيطان أو من الغريزة.
أما في الاصطلاح الشرعي: فالوحي هو اعلام الله تعالى رسولا من رسله او نبيا من أنبيائه بطريقة خفية سريعة ما يشاء من كلام أو معنى، إعلاما يفيد اليقين القاطع بما أعلمه الله به. وبالموازنة بين معنى الوحي الشرعي ومعناه في اللغة تتبين دقة القرآن الكريم في اختيار هذه الكلمة المفردة التي تعبر عن جملة معان، تعبيرا لا تطيقه كلمة أخرى في لغة العرب بل ولا في لغات العالم. وهذا يكشف لنا الضعف فيما قاله بعض الكاتبين: (لذلك حرص القرآن على تسمية ما نزل على قلب محمد وحياً ليشابه مدلول الوحي بين جميع النبيين تشابه اللفظ الدال عليه). فهذا القول يجعل المسألة مسألة تشابه في اللفظ، فكأن لفظ الوحي كان معروفا في اللغات السابقة، فمن قال ذلك وأين وفي أي مرجع علمي أو لغوي غير عربي نجد هذا اللفظ «وحي»، أو ما يدل على معناه دلالته على معناه الذي عرفناه في اللغة العربية، ذلك ما لا يمكن أن يقيم الكاتب عليه أي دليل. إنما اختار القرآن لفظ «وحي» تمشيا مع أسلوبه المعجز في اختيار الكلمة ثم الجملة وهكذا، وهذه الكلمة أدق تعبير عن قضية الوحي لأنها تحتوي على مضمونه كاملاً، فالوحي إعلام، وسرعة وخفاء، وكل هذه قد اجتمعت في ابلاغ الله رسله ما يشاء إبلاغهم.
كيفيات الوحي الثلاث في القرآن الكريم
على أن القضية ليست قضية لفظ ومدلول لغوي فحسب، بل هي قضية الحقيقة، الحقيقة الجلية، يبينها لنا القرآن الكريم نفسه، وتجلوها الأحاديث النبوية الصحيحة. يقول الله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء). فقد دلت هذه الآية على كيفيات الوحي وصفاته بصيغة الحصر، لتدل على أنها لا تتعدى ثلاث كيفيات، وهي:
الكيفية الأولى: الإلقاء المباشر
أن يلقي الله ما يريد إلقاءه الى النبي مباشرة، بطريق خفي سريع ودون واسطة، وذلك كما أوحاه الى النبي الكريم ليلة المعراج وهو فوق السموات من فرض الصلوات ومضاعفة الحسنات، الحسنة بعشر أمثالها، وغير ذلك. وهي مرتبة داخلة في قوله: “أن يكلمه الله إلا وحياً”، أي إعلاما خفياً. وقد أبان الامام المفسر القاضي البيضاوي معنى «وحي» في قوله في الآية “وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً” فقال: (أي كلاما خفيا يدرك بسرعة لأنه تمثيل، ليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة يتوقف على تموجات متعاقبة».
الكيفية الثانية: التكليم من وراء حجاب
أن يكلمه الله من وراء حجاب تكليماً، أي أن المخاطب لا يرى المتكلم سبحانه فكأنه يسمع من وراء حجاب أو أن يصل الكلام بواسطة مكان حاجب، وليس الحجاب للمتكلم لأنه تعالى لا يحجبه عن خلقه شيء، ومثال ذلك تكليم الله موسى من الشجرة، فكانت الشجرة هي الحجاب كما نصت الآية: (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين».
الكيفية الثالثة: إرسال الملك
أن يرسل الملك الى النبي فيلقي اليه ما أمره الله تعالى. وقد جاءت الأحاديث تعطينا مزيدا من البيان والشرح لكل واحدة من هذه الكيفيات مما يجعل الرجوع اليها على غاية الأهمية.
بداية الوحي والرؤيا الصادقة
فمن ذلك ما روته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «أول ما بدى به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح». ثم حبب اليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد – الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع الى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع الى خديجة ويتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال ما أنا بقارىء. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ. قلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم”، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
فقال لخديجة – وأخبرها الخبر -: لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عم خديجة وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الانصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينما أنا أمشي اذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فاذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرُعبَت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني: فأنزل الله عز وجل (يا أيها المدثر قم فأنذر الى قوله والرجز فاهجر) فحمي الوحي وتواتر». أخرجه البخاري. فقد عرفنا من الحديث مجيء الوحي للنبي في الرؤيا، وهذا بيان لبعض صور التلقي المباشر من الله تعالى أو التلقي من الملك، فكلاهما يكون في الرؤيا وفي اليقظة، لأن رؤيا الانبياء وحي. وهذا كما نص القرآن عن إبراهيم الخليل عليه السلام: «قال يا بني: إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين».
مراتب تلقي النبي للوحي من الملك جبريل
ونجد الأحاديث الصحيحة توافينا بمزيد من بيان صور تلقي النبي من الملك جبريل عليه السلام نلخصها فيما يلي:
١ – الرؤيا الصادقة
وذلك كما ورد في حديث عائشة «أول ما بدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم» والوحي في هذه المرتبة إما أن يكون بالقاء الله أو بواسطة الملك فهو داخل في الآية لا يخرج عنها.
٢ – الإلقاء في الروع
أن يأتيه الملك فيلقي في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما أخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب…».
٣ – تمثل الملك رجلاً
أن يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه فيعي عنه ما يقول، كما ورد في الحديث المشهور من سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاسلام والايمان والاحسان والساعة وهو حديث متفق عليه.
٤ – مجيء الملك على صورته الملكية
أن يأتيه الملك على حالته الملكية ويوحي اليه، وفي هذه المرتبة يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس، وكان ذلك أشد الوحي عليه صلى الله عليه وسلم كما بين النبي صلى الله عليه وسلم من جوابه لسؤال الصحابي الحارث بن هشام: سأل رسول الله فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول». قالت عائشة رضي الله عنها: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا».
٥ – رؤية جبريل في صورته الحقيقية
أن يأتيه الملك جبريل، ويظهر له في صورته الملكية العظيمة التي خلق عليها فيوحي اليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له صلى الله عليه وسلم مرتين احداهما في الأرض والأخرى في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى. كما قال تعالى في سورة النجم: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى».
طبيعة الوحي والاستعداد لتلقيه
والوحي في أي مرتبة من مراتبه أمر عظيم يقتضي من الانسان أن يتجاوز حدود المادة وعالم الشهادة ليتصل بالملائكة وعالم الغيب، وذلك يقتضي من صاحبه استعدادا يهيئه الله تعالى في أولئك الاخيار الذين اصطفاهم من خلقه لهذه المنزلة، وكثيرا ما كان يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة في التلقي من الملك. قال الامام الزركشي في «وصف التلقي من الملك»: «والتنزيل له طريقان: أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية الى صورة الملائكة وأخذه من جبريل، والثاني: أن الملك انخلع الى البشرية حتى يأخذ الرسول منه والأول أصعب الحالين».
ولهذا كانت تحف نزول الوحي آثار وظواهر يعرف منها الصحابة أن الوحي يتنزل عليه صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما ذكر في حديث السيدة عائشة الذي رويناه سابقا وقولها: “ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا». وأخرج البخاري وغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى «لا تحرك به لسانك لتعجل به» قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل: “لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه”. قال جمعه لك في صدرك وتقرأه “فاذا قرأناه فاتبع قرآنه”، قال فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فاذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه.
المظاهر المادية المصاحبة لنزول الوحي
وهذه الشدة التي يعانيها النبي صلى الله عليه وسلم، كان الصحابة يحسون بها احساسا ماديا واضحاً، وخصوصا كتاب الوحي. فقد ثبت عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله». فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي: قال يا رسول الله: والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ـ وكان أعمى ـــ فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله «غير أولي الضَّرر». أخرجه البخاري بلفظه وأحمد وأبو داود وغيرهم.
ومن هذه الآثار أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل. عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزلت عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ علينا: «قد أفلح المؤمنون.. حتى ختم العشر». أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
الخاتمة
وبعد، فهذه ظاهرة الوحي ما كنا لنستطيع بحثها من عند أنفسنا، لكنها المصادر الاصيلة التي تتميز بأنها تتحدث لكل راغب بالمعرفة بما يمكن للإنسان المحدود أن يعرفه، كما تتحدث بصراحة الى المستشكلين تعالج إشكالهم وتداويه، وقد جعلناها عمدتنا في البحث مما يلقي في القلب ثلج الاطمئنان ورسوخ اليقين.
إن دراسة الوحي من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة تكشف لنا عن عظمة هذه الظاهرة الإلهية التي اختارها الله تعالى وسيلة للتواصل مع أنبيائه ورسله. وقد رأينا كيف أن القرآن الكريم اختار لفظ الوحي بدقة متناهية ليعبر عن حقيقة هذا الاتصال الإلهي بكل جوانبه من السرعة والخفاء والإعلام اليقيني. كما تبين لنا من خلال السنة النبوية الشريفة التفاصيل الدقيقة لكيفيات الوحي ومراتبه والمظاهر المصاحبة له، مما يؤكد حقيقة هذه الظاهرة ويرسخ الإيمان بها في قلوب المؤمنين. إن فهم الوحي على النحو الذي بيناه يُعد مدخلاً ضرورياً لفهم الإسلام بأكمله، ويُزيل كثيراً من الشبهات التي قد تثار حول هذا الموضوع العظيم، ويفتح أمام الدارسين والباحثين آفاقاً واسعة لفهم طبيعة الرسالة الإلهية وعظمة الدين الإسلامي.
سؤال وجواب
١. ما هو تعريف الوحي في الاصطلاح الشرعي؟
الوحي في الاصطلاح الشرعي هو إعلام الله تعالى رسولاً من رسله أو نبياً من أنبيائه بطريقة خفية سريعة ما يشاء من كلام أو معنى، إعلاماً يفيد اليقين القاطع بما أعلمه الله به. وهذا التعريف يجمع بين الخصائص الجوهرية للوحي وهي الإعلام الإلهي والسرعة والخفاء واليقين، مما يميزه عن سائر أنواع المعرفة البشرية العادية.
٢. ما هي الكيفيات الثلاث للوحي المذكورة في القرآن الكريم؟
حدد القرآن الكريم في آية سورة الشورى ثلاث كيفيات للوحي بصيغة الحصر، وهي: الأولى أن يلقي الله ما يريد إلقاءه إلى النبي مباشرة بطريق خفي سريع ودون واسطة، والثانية أن يكلمه الله من وراء حجاب تكليماً كما حدث مع موسى عليه السلام، والثالثة أن يرسل ملكاً رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء كما كان جبريل عليه السلام يأتي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
٣. ما الفرق بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للوحي؟
المعنى اللغوي للوحي يدل على إلقاء علم في إخفاء إلى غيرك مع تضمنه معنى السرعة، ويشمل الإشارة والكتاب والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه. أما المعنى الاصطلاحي فهو أخص وأدق، حيث يقتصر على إعلام الله تعالى لأنبيائه ورسله بطريقة خفية سريعة تفيد اليقين القاطع. والموازنة بين المعنيين تكشف دقة القرآن في اختيار هذا اللفظ الذي يحتوي على مضمون الوحي كاملاً.
٤. كيف كانت بداية الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؟
بدأ الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء فكان يتعبد في غار حراء، حتى جاءه الملك جبريل وقال له اقرأ، وكرر ذلك ثلاث مرات مع الغط حتى نزلت أول آيات القرآن: اقرأ باسم ربك الذي خلق. وقد رجع النبي صلى الله عليه وسلم من هذه التجربة يرجف فؤاده مما يدل على عظمة وشدة هذا الأمر.
٥. ما هي مراتب تلقي النبي للوحي من الملك جبريل؟
للوحي من الملك جبريل خمس مراتب: الأولى الرؤيا الصادقة في النوم، والثانية أن يلقي الملك في روع النبي وقلبه من غير أن يراه، والثالثة أن يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه، والرابعة أن يأتيه الملك على حالته الملكية فيأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس وكان هذا أشده عليه، والخامسة أن يرى جبريل في صورته الحقيقية العظيمة التي خلق عليها وهذا وقع مرتين.
٦. ما هي المظاهر المادية التي كانت تصاحب نزول الوحي على النبي؟
كانت تصاحب نزول الوحي مظاهر مادية واضحة يحس بها الصحابة، منها تفصد العرق من جبين النبي حتى في اليوم الشديد البرد، وثقل جسده الشريف حتى كان يثقل على من يجلس بجانبه، وسماع صوت كدوي النحل عند وجهه الشريف، وتحريكه لشفتيه بسرعة ليحفظ ما ينزل عليه. وهذه المظاهر تدل على عظمة الوحي والجهد الكبير الذي كان يبذله النبي في تلقيه.
٧. لماذا اختار القرآن لفظ وحي تحديداً للتعبير عن هذه الظاهرة؟
اختار القرآن لفظ وحي لأنه أدق تعبير عن حقيقة هذه الظاهرة الإلهية، فهذه الكلمة تحتوي على مضمون الوحي كاملاً من حيث الإعلام والسرعة والخفاء واليقين. وهذا يتماشى مع أسلوب القرآن المعجز في اختيار الألفاظ التي تؤدي المعنى بأكمل وجه. ولا يوجد في اللغة العربية ولا في لغات العالم لفظ آخر يحمل هذه الدلالات الثلاث مجتمعة بنفس الدقة والشمول.
٨. ما معنى قوله تعالى أن يكلمه الله إلا وحياً في الآية الكريمة؟
فسر الإمام البيضاوي هذه العبارة بأنها تعني كلاماً خفياً يدرك بسرعة لأنه تمثيل، ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة يتوقف على تموجات متعاقبة. وهذا يعني أن الله تعالى يلقي إلى النبي ما يشاء بطريقة مباشرة وسريعة وخفية دون واسطة ملك، كما حدث ليلة المعراج حين فرضت الصلوات وضوعفت الحسنات. وهذه أعلى مراتب الوحي وأشرفها.
٩. هل الوحي يقتصر على الأنبياء فقط أم يشمل غيرهم؟
الوحي بمعناه الاصطلاحي الدقيق يقتصر على الأنبياء والرسل، حيث يعلمهم الله تعالى ما يشاء من الأحكام والشرائع. أما الوحي بمعناه اللغوي العام فقد ورد في القرآن بمعان متعددة، فاستخدم للإلهام كما في قوله تعالى وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، وللإلهام الغريزي كما في وأوحى ربك إلى النحل، بل وحتى للوسوسة الشيطانية. لكن الوحي النبوي يتميز بأنه يفيد اليقين القاطع ويحمل الشرائع والأحكام.
١٠. ما الحكمة من شدة الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؟
الوحي أمر عظيم يقتضي من الإنسان أن يتجاوز حدود المادة وعالم الشهادة ليتصل بالملائكة وعالم الغيب، وهذا يتطلب استعداداً خاصاً يهيئه الله تعالى في أنبيائه المصطفين. والشدة التي كان يعانيها النبي تدل على عظمة هذا الأمر وجلاله، وعلى انخلاع الرسول من صورة البشرية إلى مقام أعلى يؤهله لتلقي الوحي من الملك، وهذا أصعب الحالين كما ذكر الإمام الزركشي.