تراجم

الأعشى (ميمون بن قيس): حياته، وديوانه، وخصائصه الفنية

يستعرض هذا المقال سيرة الشاعر الجاهلي الكبير الأعشى، ويسلط الضوء على ديوانه ومعلقته الشهيرة، ويحلل خصائصه الفنية التي جعلته أحد أبرز فحول الشعر العربي على مر العصور.

خاتمة

يحتل الشاعر ميمون بن قيس، المعروف بلقب الأعشى، مكانة مرموقة في تاريخ الأدب العربي، حتى لُقب بـ “صناجة العرب” لما لشعره من تأثير موسيقي فريد وقدرة فائقة على الانتشار. لم تقتصر شهرة الأعشى على جودة شعره فحسب، بل امتدت لتشمل حياته الحافلة بالترحال بين بلاط الملوك وسادات القبائل، وتجربته الإنسانية المعقدة التي عكست تحولات عصره. ويهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة أكاديمية متكاملة تتناول مسيرة حياة الأعشى منذ نشأته في اليمامة، مروراً بأسفاره الواسعة وموقفه من ظهور الإسلام. كما يسلط الضوء على آثاره الأدبية، وعلى رأسها ديوانه ومعلقته الشهيرة، مع تحليل بنيتها ومضامينها. وأخيراً، يقدم المقال تحليلاً لمنزلة الأعشى الأدبية وخصائصه الفنية التي ميّزت شعره وجعلته ظاهرة فريدة في سماء الشعر الجاهلي.

حياة الأعشى

يُعرَّف الأعشى في اللغة بأنه الشخص الذي لا يتمكن من الإبصار ليلاً، بينما يبصر نهاراً. وقد كثر عدد الملقبين بهذا اللقب، حيث بلغ عددهم، كما أحصاهم الآمدي، سبعة عشر شاعراً قديماً بين العصرين الجاهلي والإسلامي. ويميز الناس كل شاعر يُلقب بالأعشى من غيره من الأعشين بنسبته إلى قبيلته.

يُعد الأعشى ميمون بن قيس، المعروف بأعشى قيس، أشهر من حمل هذا اللقب. اسمه الكامل هو ميمون بن قيس بن جندل، وكنيته أبو بصير، ولقبه “صناجة العرب”. وكان يُقال لأبيه قيس بن جندل “قتيل الجوع”، وقد سُمي بذلك لأنه دخل غاراً يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل فسدت فم الغار، فمات فيه جوعاً. أما أمه فهي أخت المسيب بن علي من بني جماعة، ثم من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وعن خاله المسيب أخذ الأعشى الشعر.

ينتمي الشاعر الكبير الأعشى إلى بني قيس بن ثعلبة، وهم بطن من بطون بكر، كانوا يعيشون في وادٍ من أودية اليمامة يُسمى وادي العِرْض. وقد تميز هذا الوادي بكثرة العيون والغدران والنخيل والقرى. وفي قرية من هذه القرى اسمها (منفوحة)، عاشت أسرة الأعشى عيشاً يبتعد عن حياة البداوة ويقترب من الاستقرار.

غير أن الشاعر الأعشى، وهو الشاعر البعيد المطامح، لم يكن يلزم قريته، بل كان كثير الترحال والتنقل بين أطراف الجزيرة العربية. وقد كان الأعشى يختار النابهين من أشرافها وسادتها ويخصهم بمدائحه، ويصيب منهم الجوائز. ولما كانت الحيرة في ذلك العصر حاضرة من حواضر العرب وفيها دولة مستقرة، فقد يمّم الأعشى شطرها، وأقام فيها زمناً يمدح أمراءها وأشرافها، مثل الأسود بن المنذر، وأخيه النعمان، وإياس بن قبيصة الطائي. كما قصد الأعشى نجران ومدح سادتها، ومنهم بنو عبد المدان بن الديان، وهوذة بن علي سيد بني حنيفة. وقد تردد الأعشى أيضاً على سوق عكاظ ومدح من كان يلقى في هذه السوق من شيوخ العرب.

يذكر الرواة أن الأعشى رحل إلى حضرموت وكندة واليمن، بل يذكرون أنه رحل إلى مدن الشام كحمص وبيت المقدس. ويسرفون في مزاعمهم إذ يزعمون أن الأعشى سافر إلى بلاد الفرس والأحباش، ويروون عنه أخباراً وأشعاراً لم يقطع الدكتور شوقي ضيف بصحتها، فقال: “وأكبر الظن أنه لم يصنع شيئاً من ذلك، وأنه إنما اقتصر في أسفاره ورحلاته على أطراف اليمن ونجد والحيرة”.

وقد أفاد الأعشى من أسفاره مالاً وتجارب وثقافة، لأن هذه الأسفار أبلغته أبواب الأمراء، فمدح وتكسب، ووصلته بمراكز الحضارة فرقّ شعر الأعشى ولان. كما أطلعته على أحداث زمانه وأغنت ثقافة الأعشى بأخبار الأولين. وظهرت آثار ثقافته تلك في شعره، إذ ذكر في مواضع كثيرة من قصائده أخبار الفرس والروم وطسم وجديس وعاد وثمود. وهيأت له أسفار الأعشى أسباب الاتصال بالحانات والأديرة، فاطلع على النصرانية وأغنى شعره بطائفة من أفكارها ورسومها.

ويبدو من أخبار الأعشى أنه لم يطب له العيش في أسرة يلزمها، ومع امرأة يتزوجها ويسكن إليها. فقد روي أنه تزوج امرأة، فلم يرضَ عشرتها فطلقها، أو أنه أجبر على طلاقها، فقال الأعشى:
ياجارتي بيني، فَإِنَّكِ طالقة *** كذاك أمورُ النَّاسِ عَادٍ وَطَارِقَة
وبعد انطلاقه من شرك الزواج، أطلق الأعشى لشهواته العنان، ومضى يتنقل من قينة إلى قينة، ومن حانة إلى حانة، يمدح الأمراء والأشراف ثم ينفق ما يصيبه منهم على لذاته. وربما كان لهذه الحياة العابثة الماجنة التي عاشها الأعشى أثرها الكبير في تخوّفه من الانضواء تحت راية الإسلام الذي يحرم الزنا والميسر والخمر، ويعدها من الكبائر.

جاء في كتاب الأغاني أن الأعشى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مدحه بقصيدته التي أولها:
ألم تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ ارْمَدا *** وعادَكَ ما عاد السليم المشهدا
فبلغ خبره قريشاً، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب، ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها بك رافق ولك موافق. قال: وماهن؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال الأعشى: لقد تركني الزنا وما تركته. ثم ماذا؟ قال: القمار. قال: لعلّي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار. ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال: أوه، أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس، فأشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا. فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفاً، وإن ظهر أتيته. فقال الأعشى: ما أكره ذلك.
فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى، والله لئن أتى محمداً واتبعه، ليضرمنّ عليكم نيران العرب بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها الأعشى وانطلق إلى بلده. فلما كان بقاع منفوحة، رمي به بعيره فقتله.

من هذا الخبر، نستطيع أن نستنتج أموراً عدة حول شخصية الأعشى:

  • أولاً، كان الأعشى ماجناً كلفاً بالخمر والقمار، لا صبر له على تركها، وأنه حين ظهر الإسلام كان راغباً فيه، لم يصرفه عنه إلا تعلقه بشهواته، أو ما أبقى له الدهر من هذه الشهوات.
  • ثانياً، تمتع الأعشى بمنزلة وشهرة، وصاحب شعر سيار في القبائل، إن مدح رفع وإن هجا وضع، وإن أثار ثار الناس، ولذلك اشترى أبو سفيان سكوته بمائة ناقة.
  • ثالثاً، كان الأعشى وثنياً راضياً بوثنيته، لا لما تنطوي عليه من قيم ومثل، بل لأنها تخلي بينه وبين لذائذه، ولا تلزمه فريضة تشق عليه.
اقرأ أيضاً:  امرؤ القيس: الملك الضليل وأسطورة الشعر الجاهلي - تحليل شامل لحياته وشعره

وحينما ناقش الدكتور شوقي ضيف دين الأعشى قال: وقد زعم لويس شيخو أنه كان نصرانياً، وشاركه هذا الزعم بعض المستشرقين، مستدلين على ذلك بأنه كان يمدح أساقفة نجران، ويتصل بالبيئات المسيحية في الحيرة. وبعد أن أنكر شوقي ضيف مسيحية الأعشى، قال: كان الأعشى وثنياً غالياً في وثنيته، كما تدل على ذلك خلاله التي وصفناها في شعره. وأيضاً أقسامه الوثنية التي رواها نفس هذا الراوي المسيحي – يعني يونس بن متى راوية شعر الشاعر الكبير الأعشى – إذ نراه يقسم بالكواكب والنجوم كما يقسم بالكعبة التي يحج إليها العرب، وبما يهدون إليها من القرابين في مثل قول الأعشى:
إن لعمرُ الذي خَطَّتْ مَنَاسِمُها *** تخدي وسيق إليه الباقر الغُيل
والحق أنه لم يكن نصرانياً، وإنما كان الأعشى وثنياً على دين آبائه، وقد احتفظ بوثنيته بكل ما فيها من إثم وفجور.

ونحن، على أخذنا برأي شوقي ضيف، لا نقطع بأن الأعشى كان غالياً في وثنيته شديد التعصب لها. ودليلنا على ما نذهب إليه أنه لم يُعادِ الإسلام، ولم يكره النبي عليه السلام، بل لان قلبه له، وأوشك أن يسلم، لكن رؤوس الوثنية صرفوه، فاشترى الضلالة بالهدى وآثر الدنيا على الآخرة. ولم يصرفه عن الدين الجديد زهده فيه بل طمعه في غيره، ولا تعلقه بمبادئ سامية كان يؤمن بها، بل خوفه من ألا يطيق المبادئ التي تنتزع منه ما تعلق به، وتقمع تماديه في الباطل الذي لزمه الأعشى في حياته، وبعد وفاته.

ذكر صاحب الأغاني خبراً عن محمد بن إدريس قال: قبر الأعشى بمنفوحة، وأنا رأيته، فإذا أراد الفتيان أن يشربوا خرجوا إلى قبره، فشربوا عنده، وصبوا عنده فضلات الأقداح. وكأني بأبي العلاء المعري قد أدرك حقيقة الأعشى، ولذلك أدخله الجنة في رسالة الغفران، وقال على لسانه: “فأُدْخِلْتُ الجنة على ألا أشرب فيها خمراً، فقرت عيناي بذلك. وإن لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة لم يُسْقَها في الآخرة”. ولم يكن أبو العلاء، وهو أعدى أعداء الخمر، ليدخل الأعشى الجنة لولم يجد في معتقده ميلاً إلى الإسلام، وإيماناً بالله، أو ببعض ما يدعو الله إلى الإيمان به على نحو ما. قال على لسان الأعشى: “وقد كنت أومن بالله وبالحساب، وأصدق البعث وأنا في الجاهلية الجهلاء”.

ويُعد الأعشى من المعمرين، إذ قدرت المصادر القديمة والدراسات الحديثة أنه عاش نحواً من مائة سنة بين سنتي (٥٣٠ – ٦٢٩م). وإذا صح تحديد سنة وفاته، فإن تحديد سنة ميلاده لا يخلو من ظنّ يشوبه الخطأ، وهذا يتعلق بمسيرة حياة الأعشى الطويلة.

آثار الأعشى: ديوانه ومعلقته

للأعشى ديوان رواه يحيى بن متى، وشرحه نحوي الكوفة ثعلب، ثم حظي في العصر الحديث بعناية الدارسين من عرب وأجانب. نشره المستشرق رودلف غاير سنة ١٩٢٧ – ١٩٢٨م بعد أن حققه بعنوان “الصبح المنير في شعر أبي بصير”، وضمّ إليه مجموعتين: الأولى (مجموعة باقيات أشعار الأعشين غير ميمون بن قيس)، والثانية (مجموعة ما أنشد للمسيب بن علس)، وأتبعه بشروح وتعليقات وتصحيحات ومقابلات باللغة الألمانية.

ثم طبعه سنة ١٩٥٠م الدكتور محمد محمد حسين، أستاذ الأدب العربي بجامعة الإسكندرية، طبعة جيدة، شرح فيها الأبيات، وقدم للقصائد، وعرف الأعلام والأحداث، وصنع للديوان تسعة فهارس تعين القارئ على الانتفاع به، وسماه (ديوان الأعشى الكبير). وعلى هذه الطبعة اعتمدنا في دراسة الشاعر الأعشى.

القسم الأعظم من شعر الأعشى يتركز في المدح والغزل والخمر، وأشهره المعلقة. وإذا كان طول القصيدة أهم خصائص المعلقات، ففي ديوان الأعشى معلقات كثيرة لا معلقة واحدة؛ فيه تسع طوال يزيد عدد أبيات كل منها على ستين بيتاً، وأربع وعشرون قصيدة يزيد عدد أبيات كل منها على أربعين بيتاً. وبهذه الظاهرة تفرد الأعشى من بين شعراء العصر الجاهلي. قال ابن سلام: “وقال أصحاب الأعشى: هو أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة”.

ومعلقة الأعشى ليست أطول قصائد الديوان، وإنما هي أوفاها حظاً من الجودة، وأحفلها بالغزل والفخر، وأوثقها صلة بحياة الشاعر الأعشى. ومطلعها:
ودع هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ *** وَهَل تُطِيقُ وداعاً أَيُّها الرَّجُلُ
عدة أبيات القصيدة ستة وستون بيتاً، ثلاثة أخماسها في الغزل والخمر، وخمساها في الهجاء والفخر. وليس للأطلال منها كثير ولا قليل.

بدأ الأعشى قصيدته بالغزل، فتحدث عن تعلقه بصاحبته هريرة، فوصف مفاتنها، ومشيتها، وزينتها، ودلالها، وترفها، وغرقها في الطيب، وتعلقها بغيره، وتعلق غيرها به. ويقع هذا القسم في أكثر من عشرين بيتاً (١ – ٢١). ثم وصف في تسعة أبيات (٢٢ – ٣٠) السحاب، والبرق، والمطر، واندفاع السيل. وعرض لذكر الناقة والفلاة في أربعة أبيات (٣١ – ٣٤)، أتبعها بعشرة أبيات (٣٥ – ٤٤) في اللهو والمجون وصفة القيان والندمان. وفي القسم الأخير (٤٥ – ٦٦)، مضى الأعشى يهدد يزيد بن مسهر الشيباني، ويفخر بقومه وبنفسه. وخاتمة القصيدة هي قول الأعشى:
قالوا: الركوب، فَقُلْنَا تِلْكَ عادتنا *** أَوْ تَنْزِلُونَ، فَإِنَّا مَعْشَرَ نُزُلُ

منزلة الأعشى وخصائصه الفنية

اختلف القدماء في الأعشى؛ فمنهم من قدّمه واحتج لتقديمه، ومنهم من وعى ما في شعره من هنات وندد بها. ومن الذين قدموا الأعشى ابن سلام، إذ جعله واحداً من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، وأبو عبيدة الذي قال: “من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرفه في المديح والهجاء، وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره”. ومنهم الشعبي الذي أعطى الأعشى قصب السبق في الغزل والتخنث والحماسة فقال: “الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت”.
فأما أغزل بيت فقوله:
غراء فرعاء مقفول عوارضها *** تمشي الهوينى كما يَمْشِي الوجي الوجل
وأما أخنث بيت فقوله:
قَالَتْ هُرَيْرَةَ لمَّا جِئْتُ زَائِرَها *** ويلي عَلَيْكَ، وَوَيْلِي مِنْكَ يَارَجُلُ
وأما أشجع بيت فقوله:
قالوا الطراد فَقَلْنَا تِلْكَ عادتنا *** أو تنزلون فإنَّا معشر نُزُل

ومن الذين وقفوا على هناته ونقدوه الأصمعي الذي أنكر عليه الفحولة، وأحمد بن طباطبا العلوي الذي نسب إليه الغثاثة فقال: “من الأشعار الغثة الألفاظ، الباردة المعاني، المتكلفة النسج، القلقة القوافي، المضادة للأشعار المختارة، قول الأعشى:
بانت سعاد وأمسى حَبْلَهَا انْقَطَعا *** واحتلت الغَمرَ فالجدين فالفَرعَا
لا تسلم منها خمسة أبيات”.

ولم يغفل المعجبون بشعر الأعشى عن جوانب النقص في شعره، ومنهم محمد بن سلام الذي ساءه خلوّ شعر الأعشى من النفائس، فقال: “لم يكن للأعشى بيت نادر على أفواه الناس مع كثرة شعره كأبيات أصحابه”.

هذه الأقوال تلخص أهم آراء القدماء في شعر الأعشى، لكنها لمحات خاطفات لا تحلل ولا تعلل، ولا تقف الدارس على خصائصه الفنية. فما أهم هذه الخصائص التي تميز بها شعر الأعشى؟

اقرأ أيضاً:  خصائص الأدب الجاهلي ومواضيعه وأسلوبه

١. السرد القصصي: يُعد السرد القصصي من أهم الخصائص في شعر الأعشى، وهو الذي ينتظم أفكاره وأغراضه. وهو نوعان: سرد قصصي حماسي يرد في مطولاته، وينطوي على أكثر ما شهد الشاعر الأعشى في عصره من أحداث، وما وعت ذاكرته من أخبار الأولين، ويكثر فيه ذكر الملوك والقادة من عرب وأعاجم. وسرد غزلي حواري، يعرض فيه الأعشى ما دار بينه وبين صويحباته من أحاديث وأحداث، فيذكر كيف كان يدس الرسول الداهية إلى المتمتعة، فيظل يجادلها ويخاتلها حتى تسقط في شركه، وكيف كان يجوز إلى الحصان المحروسة أعين الرقباء من مسالك خفية مأمونة، وينقل إلينا ما يجري في خبائها من حوار فاجر. وربما كان هذا السرد لدى الأعشى، على قصره، منطلق عمر بن أبي ربيعة إلى قصصه المفصلة المطولة.

٢. الاستعانة بالتشبيه والاستعارة: لهذه الظاهرة شيوع في الشعر الجاهلي كله، والقدر الأكبر من صور الأعشى خلو من الجدة والابتكار، كتشبيه الهودج بالسفينة، والكريم بالسيل المتدفق، ووحشة الصحراء بعزيف الجنّ، وتشبيه الناقة ببنيان ضخم، وعين الناقة بالمرآة الصافية. غير أنّ طائفة من صور الأعشى لا تخلو من مسحة الإبداع، كجعل الناقة التي تجوز الفلوات وتطوي الآكام حوتاً ضخماً يتجرع الأمواج:
إذا ما الآثمات ونين حطّت *** على العلاّتِ تجترعُ الإكاما
وتشبيه عنق الناقة المسرعة في الليل بسيف حاد يشق الأديم الأسود، كما في شعر الأعشى:
تشق الليل والسِّبراتِ عنها *** بأتْلعَ ساطعٍ يُشري الزِّماما

٣. المسحة الحضرية والمبالغة: ذكر شوقي ضيف أن شعر الأعشى “يفصح عن ذوق متحضر سواء في خطاب الأمراء والأشراف والخضوع لهم، أو في خطاب النساء والتذلل لهن، أو في اللعب بمهجويه والاستهزاء بهم والاستخفاف، أو في تصوير الخمر ومجالسها ودنانها وكؤوسها”. وجعل المبالغة مظهراً من مظاهر المسحة الحضرية في شعر الأعشى، وتمهيداً لمبالغات الشعراء في العصر العباسي فقال: “ولعلنا بعد ذلك لا نعجب إذا رأيناه يشبه العباسيين في مبالغاتهم، كقوله:
لو أسندت ميتاً إلى نحرها *** عاش ولم يسند إلى قابِرِ
ونحن، على إقرارنا برأي شوقي ضيف، نعتقد أن المبالغات في شعر الأعشى قليلة، وليست ظاهرة عامة فيه، وإنما هي خروج على ظاهرة عامة، وهي الصدق أو الواقعية التي أشرنا إليها في حديثنا عن وصف الأعشى للخمر.

٤. تفاوت الأسلوب: لا يسلك الأعشى مسلكاً واحداً في النظم، فهو في المدح والفخر ووصف البداوة يميل إلى الجزالة، وفي الغزل ووصف الخمر يؤثر الأسلوب اللين، واللفظ الرقيق، ولا يأنف في الخمريات بخاصة من استخدام كثير من ألفاظ الأعاجم، وهو ما يميز أسلوب الأعشى المتنوع.

٥. الأوزان والموسيقا: يعد الأعشى من أكثر الشعراء تنويعاً في استخدام الأوزان، فديوانه يشمل على اثنين وثمانين قصيدة موزعة على عشرة بحور. وقد أكثر الأعشى من البحور القصيرة، ولا سيما التي تظهر فيها الموسيقا الراقصة ظهوراً واضحاً كالمتقارب والوافر. وعلّة ذلك أن الحضارة أرهفت حسّه، وصقلت ذوقه، ومالت به إلى الإيقاع الراقص والنغمة اللعوب. وقد أدرك أرباب الغناء في عصر الأعشى هذه الخاصة في شعره، فغنّوا كثيراً من مقطّعاته، حتى لقب بـ “صنّاجة العرب”.

خاتمة

وفي الختام، يتضح أن الأعشى لم يكن مجرد شاعر جاهلي عابر، بل كان ظاهرة أدبية متكاملة جمعت بين حياة الترحال الثرية والإنتاج الشعري الغزير. لقد كشفت هذه الدراسة عن أبعاد شخصية الأعشى المعقدة، التي تراوحت بين الوثنية والميل للإيمان، وبين المجون والبحث عن الاستقرار. كما أبرزت القيمة الفنية العالية لديوانه ومعلقته، مستعرضةً خصائصه التي ميّزته، من السرد القصصي إلى المسحة الحضرية والموسيقا الفريدة في شعره. وبذلك، يظل الأعشى “صناجة العرب” شخصية محورية في تاريخ الأدب العربي، ونموذجاً للشاعر الذي استطاع أن يعكس عصره بصدق فني، ويؤسس لتيارات شعرية لا تزال أصداؤها تتردد حتى يومنا هذا.

سؤال وجواب

١. لماذا لُقب الشاعر ميمون بن قيس بالأعشى، وهل كان هذا اللقب حكراً عليه؟
لُقب الشاعر ميمون بن قيس بالأعشى لصفة جسدية، فكلمة “الأعشى” في اللغة العربية تطلق على الشخص الذي يعاني من ضعف البصر ليلاً بينما يتمكن من الرؤية نهاراً. لم يكن هذا اللقب حكراً عليه على الإطلاق، بل كان شائعاً بين الشعراء في تلك الفترة. وقد أحصى الناقد الآمدي سبعة عشر شاعراً قديماً بين العصرين الجاهلي والإسلامي حملوا هذا اللقب. وللتمييز بينهم، جرت العادة على نسبة كل أعشى إلى قبيلته، فأصبح ميمون بن قيس معروفاً بـ “أعشى قيس” نسبة إلى قبيلته بني قيس بن ثعلبة، وقد كان هو الأشهر والأبرز بين جميع من حملوا هذا اللقب، حتى أصبح مرادفاً لاسمه.

٢. كيف أثرت رحلات الأعشى الواسعة على شعره وثقافته؟
كان لرحلات الأعشى الكثيرة والمتعددة تأثير عميق وجوهري على نتاجه الشعري وثقافته العامة. فلم يلتزم الشاعر بقريته “منفوحة” في اليمامة، بل تنقل بين أرجاء الجزيرة العربية وخارجها، قاصداً الحواضر ومراكز النفوذ. ففي الحيرة، اتصل ببلاط المناذرة ومدح أمراءهم، وفي نجران مدح ساداتها، كما تردد على سوق عكاظ واليمن. هذه الأسفار أتاحت له تحقيق مكاسب مادية كبيرة من خلال مدائحه، لكن الأهم من ذلك أنها صقلت تجربته الشعرية؛ فاتصاله بمراكز الحضارة أدى إلى رقة شعره وليونته. كما أثرت ثقافته بمعرفة واسعة بأحداث عصره وأخبار الأمم السابقة كالفرس والروم، وهو ما انعكس بوضوح في قصائده. بالإضافة إلى ذلك، هيأت له هذه الرحلات فرصة الاطلاع على الديانة النصرانية من خلال الأديرة، مما أغنى شعره ببعض الأفكار والمصطلحات الدينية.

٣. ما هي قصة توجه الأعشى إلى النبي محمد لاعتناق الإسلام، وما الذي منعه من ذلك؟
تعتبر قصة توجه الأعشى إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أشهر المواقف في سيرته. تفيد الروايات، كما ورد في كتاب الأغاني، أن الأعشى انطلق قاصداً النبي ليعلن إسلامه، وقد أعد قصيدة مدح في ذلك. وعندما علمت قريش بقدومه، اعترضوا طريقه مدركين خطورة إسلام شاعر بمكانته وتأثيره. بدأوا بحواره حول المحرمات في الإسلام التي يعلمون تعلقه بها، مثل الزنا والقمار والخمر. ورغم أن الأعشى أبدى نوعاً من الاستعداد لتركها، إلا أن أبا سفيان بن حرب قدم له عرضاً مغرياً: مائة من الإبل مقابل أن يعود إلى بلده لعام واحد وينتظر ما ستؤول إليه الأمور. قبل الأعشى العرض، وأخذ الإبل وعاد، لكنه توفي في طريقه قبل أن يتمكن من العودة مجدداً. ويُستنتج من هذه القصة أن تعلقه الشديد بملذات الحياة، بالإضافة إلى الإغراء المادي الذي قدمته له قريش، كانا السببين الرئيسيين اللذين حالا بينه وبين إتمام إسلامه.

اقرأ أيضاً:  أرسطو: الفيلسوف الشامل وتأثيره الدائم على مسيرة الفكر الإنساني

٤. هل كان الأعشى وثنياً أم نصرانياً، وما هي الأدلة التي استند إليها النقاد في تحديد ديانته؟
أثير جدل أكاديمي حول ديانة الأعشى، حيث ذهب بعض الباحثين مثل لويس شيخو وبعض المستشرقين إلى أنه كان نصرانياً، مستدلين على ذلك بصلاته الوثيقة بالبيئات المسيحية في الحيرة، ومدحه لأساقفة نجران، واستخدامه لبعض الصور والمصطلحات المسيحية في شعره. في المقابل، يرفض باحثون آخرون، وعلى رأسهم الدكتور شوقي ضيف، هذا الرأي رفضاً قاطعاً، ويؤكدون أنه كان وثنياً على دين قومه. وتستند حجة هؤلاء إلى أن حياة الأعشى الماجنة التي تميزت بالخمر والنساء والقمار تتعارض مع تعاليم المسيحية. والأهم من ذلك هو وجود أدلة نصية من شعره نفسه، حيث كان يقسم بالآلهة الوثنية والكواكب والنجوم، ويعظم الكعبة ويشير إلى طقوس الحج الوثني. والرأي الراجح هو أنه كان وثنياً، لكنه بحكم أسفاره واحتكاكه بالثقافات الأخرى، كان منفتحاً ومطلعاً على الديانات الأخرى، مما انعكس في شعره دون أن يعتنقها.

٥. بماذا تميزت معلقة الأعشى عن غيرها من المعلقات الجاهلية من حيث البناء والمضمون؟
تتميز معلقة الأعشى، التي مطلعها “ودع هريرة إن الركب مرتحل”، بعدة سمات تجعلها فريدة بين المعلقات. أولاً، من حيث المضمون، هي تبتعد بشكل كبير عن المقدمة الطللية التقليدية التي كانت سمة غالبة في الشعر الجاهلي، فلا نجد فيها وقوفاً على الأطلال وبكاءً عليها إلا إشارات عابرة. بدلاً من ذلك، يهيمن على القصيدة محورا الغزل الصريح بوصف صاحبته هريرة، ووصف مجالس الخمر واللهو، حيث يشغلان ثلاثة أخماس القصيدة. أما الخمسان الباقيان فيتوزعان بين الهجاء والفخر. ثانياً، من حيث البناء، تُظهر القصيدة تنقلاً سلساً بين أغراضها المتعددة، من الغزل إلى وصف المطر والسيل، ثم وصف الناقة، فمجالس اللهو، وأخيراً التهديد والفخر، مما يعكس قدرة الشاعر الفائقة على تنظيم قصيدته الطويلة. هذا التركيز على الحياة الشخصية واللهو، مع غياب شبه تام للوقفة الطللية، يمنح معلقة الأعشى طابعاً حضرياً متفرداً.

٦. كيف تباينت آراء النقاد القدماء في تقييم شعر الأعشى ومنزلته؟
كان الأعشى شخصية شعرية أثارت تبايناً واضحاً في آراء النقاد القدماء. فمن جهة، كان هناك فريق يضعه في قمة الشعر الجاهلي، ومن أبرزهم ابن سلام الجمحي الذي صنفه ضمن شعراء الطبقة الأولى، وأبو عبيدة الذي احتج لتقديمه بكثرة قصائده الطوال الجيدة وقدرته على الإجادة في مختلف فنون الشعر من مديح وهجاء وغيره. كما أثنى عليه الشعبي الذي اعتبره الأبرع في الغزل والتخنث والشجاعة، مستشهداً بأبيات محددة لكل صفة. ومن جهة أخرى، وجه له فريق من النقاد انتقادات لاذعة، مثل الأصمعي الذي أنكر عليه بلوغ مرتبة الفحولة الشعرية، وأحمد بن طباطبا العلوي الذي وصف بعض أشعاره بالضعف وركاكة المعنى، ضارباً المثل بقصيدة “بانت سعاد”. هذا الاختلاف يعكس مدى تعقيد الظاهرة الشعرية للأعشى، الذي جمع بين الجودة الفائقة في كثير من شعره ووجود بعض الهنات في أجزاء أخرى منه.

٧. ما هي أبرز الخصائص الفنية التي يمكن رصدها في شعر الأعشى؟
يتميز شعر الأعشى بمجموعة من الخصائص الفنية البارزة التي شكلت بصمته الخاصة. أولها، استخدامه المكثف للسرد القصصي بنوعيه: الحماسي الذي يروي فيه أخبار الملوك والأيام، والغزلي الحواري الذي يصف فيه مغامراته العاطفية. ثانيها، اعتماده على الصور البيانية من تشبيه واستعارة، ورغم أن بعضها تقليدي، إلا أنه أبدع صوراً مبتكرة كتشبيه الناقة بالحوت الضخم. ثالثها، المسحة الحضرية الواضحة في شعره، والتي تتجلى في ذوقه الرفيع في مخاطبة الملوك والنساء، وفي وصفه الدقيق لمجالس الخمر، بالإضافة إلى ميله للمبالغة أحياناً. رابعها، تفاوت أسلوبه بين الجزالة والقوة في أغراض الفخر والمدح، والرقة واللين في الغزل ووصف الخمر، مع استخدامه لألفاظ أعجمية. خامسها، التنوع الوزني والموسيقي، حيث استخدم بحوراً شعرية متعددة، وأكثر من البحور القصيرة ذات الإيقاع الراقص، مما أكسب شعره جرساً موسيقياً فريداً.

٨. ما سبب إطلاق لقب “صناجة العرب” على الأعشى؟
يعود سبب إطلاق لقب “صناجة العرب” على الأعشى بشكل مباشر إلى الطبيعة الموسيقية البارزة في شعره. فالصناجة هي آلة موسيقية ذات رنين واضح، وقد وُجد أن لشعر الأعشى إيقاعاً قوياً ونغماً مميزاً يطرب له السامعون. هذه الموسيقية لم تكن عفوية، بل نتجت عن إتقانه للأوزان الشعرية وقدرته على التنويع فيها، حيث استخدم عشرة بحور شعرية مختلفة. وقد مال بشكل خاص إلى استخدام البحور القصيرة ذات الإيقاع السريع والراقص، مثل بحري المتقارب والوافر. ويرى النقاد أن احتكاكه بالحضارات في الحيرة والشام قد أرهف حسه الموسيقي وصقل ذوقه. وقد أدرك المغنون في عصره هذه الميزة، فكانوا يختارون قصائده ومقطوعاته للغناء، مما رسخ هذا اللقب وجعله علامة فارقة في مسيرته.

٩. كيف وظف الأعشى السرد القصصي في شعره، وما هي أنواعه؟
يعد التوظيف المتقن للسرد القصصي إحدى أهم السمات الفنية في شعر الأعشى، وقد استخدمه لتنظيم أفكاره وتقديم أغراضه الشعرية في قالب حكائي جذاب. يمكن تمييز نوعين رئيسيين من السرد في شعره. النوع الأول هو السرد القصصي الحماسي أو التاريخي، ويظهر في قصائده الطوال حيث يستعرض أحداثاً تاريخية، ويروي أخبار الملوك والقادة العرب وغير العرب، وسير الأمم الغابرة، مما يحول القصيدة إلى سجل تاريخي مصاغ شعراً. أما النوع الثاني فهو السرد الغزلي الحواري، وفيه يحكي الأعشى عن مغامراته العاطفية بأسلوب قصصي حي، فيصف كيف كان يخطط للقاء حبيباته، ويرسل الرسل، ويتسلل إلى أماكنهن المحصنة، ثم ينقل الحوارات التي تدور بينه وبينهن. ويعتبر هذا النوع من السرد، على قصره، تمهيداً للقصص الشعري المفصل الذي تطور لاحقاً عند شعراء مثل عمر بن أبي ربيعة.

١٠. ما الذي يميز ديوان الأعشى من حيث حجمه وتنوع أغراضه الشعرية؟
يتميز ديوان الأعشى بكونه أحد أضخم دواوين الشعر الجاهلي، وهذه الضخامة ليست مجرد تراكم كمي، بل هي انعكاس لقدرة الشاعر الفائقة على نظم القصائد الطوال المتقنة، وهو ما يعرف بظاهرة “التطويل”. قال عنه ابن سلام إن أصحابه يحتجون له بـ “كثرة طواله الجياد”. فديوانه يضم تسع قصائد يزيد عدد أبيات كل منها على ستين بيتاً، وأربعاً وعشرين قصيدة يزيد عدد أبيات كل منها على أربعين بيتاً، وهي ظاهرة تفرد بها عن معظم شعراء عصره. إلى جانب هذا الحجم، يتميز الديوان بتنوع كبير في الأغراض الشعرية؛ فالأعشى لم يقتصر على غرض واحد، بل أجاد في المدح والهجاء، والغزل بنوعيه العفيف والصريح، ووصف الخمر ومجالسها، والفخر والحماسة، مما يجعله شاعراً شاملاً استطاع أن يطرق معظم فنون الشعر ويجيد فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى