النحو

لا العاملة عمل ليس وموقعها الإعرابي؟

مقدمة:
تُعد الأدوات النحوية في اللغة العربية من أدق المباحث التي تكشف عن ثراء اللغة ومرونتها، حيث تتعدد وظائف الأداة الواحدة تبعاً للسياق والتركيب. ومن أبرز هذه الأدوات “لا” التي تتجاوز النفي المحض لتعمل عمل “ليس” ضمن شروط وضوابط دقيقة حددها النحاة.

أشار إمام النحاة سيبويه إلى أن (لا) قد تقع في الكلام بمنزلة (ليس) تماماً، فتعمل عملها في رفع الاسم ونصب الخبر، إلا أنه وصف هذا الاستعمال بالقلة. ويبدو من استقراء نصه أنه حينما وجد بعض شواهد (لا) النافية للجنس وقد ارتفع الاسم النكرة بعدها، لم يكرر حملها المباشر على (ليس)؛ بل إنه ذكرها في سياق حديثه عن إلغاء عمل (لا) النافية للجنس، وما يترتب على ذلك من وجوب تكريرها حينئذٍ.

أهم النقاط:

  • تعمل “لا” عمل “ليس” عند سيبويه ولكن هذا الاستعمال قليل.
  • أورد سيبويه هذا الحكم في سياق حديثه عن إلغاء عمل “لا” النافية للجنس ووجوب تكرارها.
  • ارتفاع الاسم النكرة بعد “لا” هو الذي دعاه لمقارنتها بـ “ليس”.

ما هي شروط إعمال “لا” وبنيتها التركيبية؟

ذكر النحويون أنها لا تتركب مع اسمها تركيب “لا” النافية للجنس لئلا تلتبس بها؛ ولذلك فإن حركة اسمها تكون حركة إعراب (رفع) لا حركة بناء. وقد أشاروا إلى شروط محددة لإعمالها، وهي في جوهرها شروط إعمال (لا) النافية للجنس؛ فهي لا تعمل إلا في نكرة، أو ما نُزل منزلتها من المعرفة، ويجب أن يكون موضعها مع اسمها موضع ابتداء. ومن الشواهد على ذلك قول سعيد بن مالك:

مَنْ صَدَّ عن نِيرانها *** فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَرَاحُ

حيث جعل الشاعر (لا) بمنزلة (ليس)، وأعملها في (براح) الذي جاء مرفوعاً، وخبرها محذوف تقديره “لي” أو ما شابه.

أهم النقاط:

  • اسم “لا” العاملة عمل “ليس” معرب وليس مبنياً.
  • يشترط لإعمالها أن يكون اسمها نكرة أو بمنزلتها.
  • يجب أن يكون موضعها مع اسمها موضع ابتداء.
اقرأ أيضاً:  ما هي الضمائر المنفصلة وما أنواعها وتعريفها؟

هل يجوز الفصل بين “لا” ومعمولها أو تقديم خبرها؟

من القواعد المقررة أنه لا يجوز أن يُفصل بينها وبين معمولها بشيء، كما لا يجوز أن يُقدم خبرها على اسمها. فإن حَدَث فصل، أو قُدّم الخبر، بطل عملها ووجب تكرارها. فلا يجوز القول: “لا فيها أحدٌ إلا ضعيفاً” (بإعمالها)، ولا يحسن القول: “لا فيك خيرٌ”. ومع ذلك، قد يجوز في الشعر خاصة الفصل بينها وبين اسمها، كما في قول الشاعر:

بكَتْ جَزَعاً، واسترجعت ثم آذنتْ *** ركائبُها أَنْ لا إلينا رُجُوعُها

والتقدير في البيت: ليس رجوعها إلينا، حيث فُصل بالجار والمجرور.

أهم النقاط:

  • يبطل عمل “لا” إذا فُصل بينها وبين اسمها أو تقدم خبرها.
  • عند بطلان العمل يجب تكرار “لا”.
  • يجوز الفصل في الضرورة الشعرية فقط.

كيف تعامل النحاة مع إعمالها في المعرفة وحذف خبرها؟

روي إعمالها في المعرفة في بعض الشواهد، نحو قول النابغة الجعدي:

وحلَّتْ سوادَ القلبِ، لا أنا باغياً *** سِواها، ولا، في حبِّها مُتَرَاخِيا

وقد أوَّله ابن مالك على احتمال أن يكون الضمير (أنا) فاعلاً لفعل مضمر تقديره: “لا أرى”، حيث ظهر الضمير المستتر لعلة إضمار الفعل، وليس اسماً لـ (لا).
وفي مسألة الخبر، ذكر بعض النحويين أن خبرها لم يُلفظ به ولم يُسمع عن العرب وإن كان المعنى يقتضيه. إلا أن أبا حيان ردَّ هذا الزعم، مؤكداً أنه قد جاء، ولكنه في غاية القلة والشذوذ، مستشهداً بقول الشاعر:

تَعَزَّ، فلا شيءٌ على الأرض، باقيا *** ولا وَزرٌ، مِمَّا قَضَى اللَّهُ، واقيا

أهم النقاط:

  • ورد إعمالها في المعرفة (مثل الضمير “أنا”) وأوّله ابن مالك بتقدير فعل محذوف.
  • اختلف النحاة في ذكر خبرها؛ فمنهم من نفى سماعه، وأثبته أبو حيان نادراً واستشهد عليه.
اقرأ أيضاً:  الفرق بين كاف الخطاب والضمير الكاف: دليلك لفهم الفروق النحوية بدقة

هل تفيد “لا” العاملة عمل “ليس” نفي الجنس؟

اضطربت عبارة النحويين في تحديد معناها بدقة، فأغلبهم اكتفى بذكر عملها وشروطه فقط. ولكن يُستدل من عبارة سيبويه أنها تفيد نفي الجنس، كونه أشار إليها في سياق حديثه عن النافية للجنس، ولم يذكر شيئاً يميزها عنها سوى الحركة الإعرابية. وقد رأى ابن عصفور أنها تفيد نفي الجنس حتماً؛ لأنها عملت بسبب اختصاصها بالجملة الاسمية، والأداة لا تكون مختصة حتى تكون للنفي العام.

من جانبه، بيّن الرضي أنه يجوز أن يكون معناها نفي الجنس واستغراقه مع ارتفاع النكرة بعدها؛ لأن النكرة في سياق النفي تدل على العموم، سواء أكانت النكرة مع (لا) أو (ليس) أو غيرهما من حروف النفي أو النهي أو الاستفهام. ويجوز أيضاً أن تكون نافيةً غير لاستغراق الجنس (نفي الوحدة) وذلك مع وجود القرينة، نحو: “لا رجلٌ في الدار بل رجلان”، فوجود (رجلان) قرينة واضحة على نفي الواحد فقط.

أهم النقاط:

  • يرى سيبويه وابن عصفور أنها تفيد نفي الجنس لاختصاصها بالجملة الاسمية.
  • فصّل الرضي بجواز إفادتها الاستغراق (العموم) أو نفي الوحدة بحسب القرينة.
  • النكرة في سياق النفي تفيد العموم غالباً ما لم توجد قرينة تصرفها.

الخاتمة:
يتضح مما سبق أن “لا” العاملة عمل “ليس” تمثل وجهاً دقيقاً من أوجه العربية، تتداخل فيه القواعد الإعرابية مع الدلالات المعنوية، ورغم قلة استخدامها مقارنة بـ “لا” النافية للجنس، إلا أنها خضعت لتحليل مستفيض من كبار النحاة كسيبويه وابن مالك وأبي حيان لضبط شروط إعمالها ودلالاتها.

هل يمكن اعتبار ندرة استخدام “لا” العاملة عمل “ليس” في اللغة المعاصرة دليلاً على ميل اللغة نحو التقعيد الأكثر اطراداً والابتعاد عن الشذوذ؟

المراجع

  1. سيبويه، ع. ب. (1988). الكتاب (تحقيق ع. السلام هارون، ط. 3، مج. 1). مكتبة الخانجي.
    يُعد هذا المصدر المرجع الأساسي الذي استند إليه المقال في عرض رأي سيبويه حول عمل “لا” وموقعها.
  2. ابن هشام، ع. ب. (1985). مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (تحقيق م. محيي الدين عبد الحميد، مج. 1). المكتبة العصرية.
    يدعم هذا الكتاب تفصيلات عمل الأدوات وشروط إعمال “لا” والرد على الآراء المختلفة المذكورة في النص.
  3. أبو حيان، م. ب. (1998). تذكرة النحاة (تحقيق ع. ر. العبيدي). دار الفكر.
    يوثق هذا المرجع رأي أبي حيان المذكور في المقال ورده على من نفى ذكر خبر “لا” العاملة عمل “ليس”.
  4. حسن، ع. (1975). النحو الوافي (ط. 3، مج. 1). دار المعارف.
    يُقدم هذا الكتاب فصلاً تطبيقياً شاملاً يجمع شروط “لا” وأحكامها، مما يدعم الشرح الوارد حول الشروط والتركيب.
  5. السامرائي، ف. (2000). معاني النحو (مج. 1). دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
    يُفصل هذا المرجع في الدلالات المعنوية للنفي والفرق بين نفي الجنس ونفي الوحدة الذي ناقشه الرضي.
  6. الحديثي، خ. (1986). أبنية الصرف في كتاب سيبويه. مجلة المجمع العلمي العراقي، 37(2)، 120-145.
    تتناول هذه الورقة البحثية منهج سيبويه في التعامل مع الأبنية والحركات الإعرابية، مما يوضح سياق حديثه عن “لا”.
اقرأ أيضاً:  لات العاملة عمل ليس، معناها وما أبرز شواهدها؟

المصداقية والمراجعة

تم إعداد هذا المحتوى بالاستناد إلى مصادر لغوية ونحوية رصينة، مع الحرص على نقل آراء النحاة بدقة وأمانة علمية. نلفت عناية القارئ إلى أن القواعد النحوية قد تتضمن أوجه خلافية دقيقة، وقد تم اعتماد الآراء الأشهـر والأكثر تداولاً في كتب التراث لخدمة سياق المقال.

جرت مراجعة هذا المقال من قبل فريق التحرير في موقعنا لضمان الدقة والمعلومة الصحيحة.

لتعميق فهمك لهذه القواعد الدقيقة، لا تكتفِ بالقراءة النظرية؛ بل ابدأ اليوم بتطبيق ما تعلمته من خلال استخراج شواهد “لا” من دواوين الشعر القديم ومحاولة إعرابها، فهذا هو السبيل الأمثل لتمكين الملكة اللغوية لديك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى