علوم القرآن الكريم

جمع القرآن الكريم: كيف حُفظ كتاب الله في الصدور والسطور؟

ما هي المراحل التي مر بها حفظ القرآن وتدوينه عبر التاريخ؟

يُعد جمع القرآن الكريم من أعظم الأعمال التي قامت بها الأمة الإسلامية، حيث تميز كتاب الله بخصوصية فريدة لم تتوفر لكتاب سماوي آخر، وهي حفظه بوسيلتين متكاملتين بلغتا درجة القطع واليقين. وقد سجل التاريخ شهادة عظيمة للمسلمين في حرصهم على نقل القرآن بأدق وأصح الطرق عن صاحب النبوة صلى الله عليه وسلم.

المقدمة

هذا الموضوع هام غاية الأهمية لأنه يدرس خصوصيتين من خصائص القرآن، ذكرهما العلماء في تعريف القرآن، كما مر معنا أنه «المنقول بالتواتر، المكتوب في المصاحف». أي أن القرآن توفر له النقل بوسيلتين، كل منهما بلغت درجة القطع واليقين الجازم بحقيقة نقل القرآن أدق نقل وأصحه عن صاحب النبوة، هما الحفظ في الصدور عن ظهر قلب، والكتابة في السطور. ويطلق العلماء على كل من هذين الحفظين (جمع القرآن)، وأطلقوا على الموضوع الشامل لهما (جمع القرآن) أيضا، مما يوجب التنبه لدى الرجوع إلى المصادر.

والجدير بالذكر أن أول ما استعمل هذا الاصطلاح: (جمع القرآن) في القرآن الكريم نفسه، فورد بمعنى الحفظ في الصدر في قوله تعالى: «إن علينا جمعه وقرآنه». فقد كان للعرب قدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب، مما جعل القرآن يستقر في قلوبهم وعقولهم بشكل لا مثيل له. وعندما جاء الإسلام، وجد العرب في القرآن ضالتهم، فشغفوا به وأولعوا به حتى صار ديدنهم ليلاً ونهاراً.

جمع القرآن الكريم حفظاً في الصدور

العرب قوم معروفون بحدة ذكائهم، وقوة ذاكرتهم، وقد شغفوا بهذا القرآن وأولعوا به، حتى كان هجيراهم ودأبهم ليل نهار، مهما كانوا عليه من العناء، ولو في الحروب، حتى عرف عن المسلمين الأوائل أنهم «رهبان في الليل، فرسان في النهار». وبلغ من شغفهم بالقرآن أن اشتغلوا به عما سواه، حتى ترك شاعر فحل من شعراء المعلقات الشعر به، وهو لبيد الشاعر، الذي يضرب المثل بشاعريته، وقد سئل فقال: «أليس حسبي سورة البقرة».

استقر القرآن في صدور الصحابة وحوافظهم، حتى كان أكثر شيء حضوراً لذاكرتهم، وقد تضافرت على ذلك عوامل كثيرة ساهمت في تيسير حفظه وترسيخه في القلوب. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمهل في إلقائه عليهم، كما أن القرآن نزل منجماً مفصلاً آيات وسوراً ليتيسر على المسلمين حفظه. وكان لتلك الخصوصية القرآنية وإعجازه البلاغي دور كبير في تعلق قلوب الصحابة به وحرصهم على حفظه واستظهاره.

عوامل حفظ الصحابة للقرآن

استقر القرآن في صدور الصحابة وحوافظهم، حتى كان أكثر شيء حضوراً لذاكرتهم، وقد تضافرت على ذلك عوامل كثيرة نذكر أهمها فيما يلي:

١ – تمهل الرسول صلى الله عليه وسلم في إلقائه عليهم: فقد أنزل القرآن منجماً كما علمنا من قبل، وفصله الله تعالى آيات وسوراً، ليتيسر على المسلمين حفظه، وكان لذلك أثره البالغ في حفظ القرآن في الصدور.

٢ – قوة التلهف النفسي إلى القرآن: فقد كان العرب في الجاهلية في جهالة جهلاء، وضلالة عمياء فلما سطع نور الإيمان في قلوبهم استشعروا نسيم السعادة الإيمانية، وروح الحياة، وكان القرآن هو منارة هدايتهم، فغدت نفوسهم تتلهف شوقاً للكلمة والآية من القرآن، والتلهف وتعلق القلب بالأمر يجعل صفحة القلب والذاكرة متأهبة له، منفتحة لاستيعابه أكمل استيعاب. فكيف بالصحابة.

٣ – إعجاز القرآن: فقد كان العرب يتعشقون الكلام البليغ ويولعون به رواية وحفظاً، فلما تنزل القرآن وأعجزهم، ملك أفئدتهم بإعجاز فصاحته وبلاغته، فجعلهم يقبلون على حفظه بغاية الحرص والشغف. ومن إعجاز القرآن تلك الخصوصية التي ليست لكلام غيره، وهي قابليته للحفظ، فقد بلغت مبلغاً عجيباً، فهذه أمم العجم تحفظ القرآن عن ظهر قلب حفظاً متيناً لا يتطرق إليه خلل ولا بكلمة واحدة، ولا تفريط في حكم تجويد، وأحدهم كما رأينا بأنفسنا – لا يعرف من العربية شيئاً.

٤ – وجوب العمل بالقرآن: حيث إنه ينبوع عقيدتهم وعبادتهم، ودستور معاملاتهم، وهو المصدر الأول لوعظهم وتذكيرهم، حتى قد ترجموه إلى سلوك وخلق وحضارة.

٥ – تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بتعليم القرآن: كما في هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «كان للرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يستمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا».

٦ – حض الله ورسوله المؤمنين على قراءة القرآن: فقد ذكرها القرآن الكريم في مقدمة أجل العبادات والقربات التي أجزل لأصحابها عظيم الثواب: «إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله…».

مكانة حفظة القرآن وتكريمهم

وكان النبي الكريم يتولى بنفسه تكريم حفظة القرآن، وتقديم المكثرين البارعين على غيرهم في المقامات العالية والمراكز. وقد كان القارئ (أي الحافظ) في ذلك الوقت هو الحافظ للقرآن العالم بمعانيه وأحكامه، فلذلك كان أقرؤهم هو أولاهم بالتقدم في إمامة الصلاة، والإمارة عليهم. وقد كثرت الأحاديث جداً في فضل قراءة القرآن وتعلمه وتعليمه، وفضل من علم القرآن وعلمه، حتى كان هؤلاء خير الناس، كما ثبت في الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».

وعن عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران». وقد سن الإسلام للمسلم ألا يتأخر في ختم القرآن أكثر من شهر، كما في حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أجد قوة. حتى قال (فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك)».

انتشار حفظ القرآن بين الصحابة

وهكذا تناهى حرص الصحابة على القرآن فحفظوه في صدورهم إذ كانوا أميين، ولحاجتهم إلى قراءته غيباً في الصلوات وغيرها، وصار القرآن ديدنهم لا يفترون عن قراءته، حتى صارت لهجتهم بتلاوة القرآن من الليل خير دليل على الحي الذي تقطنه القبيلة منهم، كما في الحديث الصحيح: عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار».

لقد كان من الطبيعي كنتيجة ضرورية لما ذكرناه أن يكثر حفاظ القرآن الذين يحفظونه كله، والذين يحفظون جملاً منه، وأن يكون كما قال الزركشي: «حفظه في حياته جماعة من الصحابة، وكل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة، أقلهم بالغون حد التواتر». وأما ذكر بعض الصحابة بعدد محدود في بعض الأحاديث، فإنما كان ذلك لامتيازهم أو الإرشاد للأخذ عنهم، كما هو الشأن ألا يذكر من كل فئة إلا أهل الامتياز منها، مهما كان عدد تلك الفئة كبيراً.

حفاظ القرآن من الصحابة

فمن جلة حفاظ الصحابة الأئمة في تعليم القرآن، هؤلاء الذين ورد الحديث فيهم: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب». على هذا النحو أيضاً ورد الحديث عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد». فقد ذكر أنس هؤلاء لمعنى خاص، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك في حديثه.

وقد وافتنا الوثائق الثابتة الصحيحة نماذج عن كثرة الحفاظ بين الصحابة. فهذه حرب المرتدين في اليمامة يقتل فيها سبعون من القراء. بل ثبت بأوثق الإثباتات أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في وفادة واحدة لتعليم بعض القبائل سبعين من القراء، وهم الذين غدر بهم المشركون في أثناء طريقهم. وهكذا ثبت حفظ الصحابة للقرآن في صدورهم بما يبلغ رتبة التواتر، بل يزيد عليها أضعافاً. وفي هذا يقول الإمام أبو الخير بن الجزري: «إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب. وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة».

جمع القرآن الكريم تدويناً في السطور

ويمتاز هذا الجمع بأنه حفظ مستمر يدوم مع الزمان، لا يذهب بذهاب الإنسان. وقد تحقق هذا اللون من الحفظ للقرآن أكمل تحقق، كيف وقد تكفل الله بحفظه: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». وندرس فيما يلي جمع القرآن في السطور والمصاحف في كل مرحلة من مراحل التاريخ، حيث شهد جمع القرآن الكريم مراحل متعددة، كل مرحلة منها كانت تستجيب لحاجة ماسة وضرورة ملحة لحفظ كتاب الله تعالى.

على الرغم من أمية العرب في عهد البعثة حتى لم يكن يحسن الكتابة منهم إلا القليل النادر، وعلى الرغم من الصعوبة الواضحة لتحضير وسائل الكتابة وأدواتها، ومع كون النبي الكريم أمياً فقد عني بكتابة القرآن أشد العناية. ولم يكتف بحفظه هو للقرآن وحفظ أصحابه في الصدور. وقد جند النبي الكريم كل الطاقات المتوفرة لكتابة القرآن، فحصر جهد الكتاب في كتابة القرآن ومنع من كتابة غير القرآن، إلا في أحوال خاصة، أو لبعض أناس مخصوصين.

تدوين القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

كما في الحديث الصحيح: «لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه». وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه نجم من القرآن دعا كتاب الوحي فأملاه عليهم، فيكتبونه على ما يجدونه، مثل الرِّقاع، واللِّخاف، الأكتاف والعسب. ومن هنا كان لا بد أن تكتب من القرآن نسخ كثيرة عند عدد من الصحابة، وممن كان عنده نسخة من المصحف: «أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، فغير شك جمعوا القرآن، والدلائل عليه متظاهرة».

اقرأ أيضاً:  آيات القرآن الكريم وسوره: دراسة في التقسيم والترتيب التوقيفي

وتؤكد ذلك نصوص كثيرة صحيحة تدل على كثرة كتابة القرآن، مثل حديث (نهى أن يسافر القرآن إلى أرض العدو). متفق عليه. وقد تظاهرت الأخبار أن سبب إسلام عمر هو سماعه للقرآن يقرأ في المصحف من سورة طه. والقصة معروفة مشهورة. وغير ذلك كثير يثبت وجود القرآن عندهم مكتوباً في نسخ عديدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

جمع القرآن تدويناً على عهد أبي بكر

في عهد أبي بكر خاض المسلمون حروب الردة، وكانت المعارك شديدة في حربهم ضد مسيلمة الكذاب في اليمامة، فوقع في صفوف الصحابة قتل كثير، وكان من الشهداء كثير من القراء، فلاحت في الأفق إشارات تحذر من المستقبل، الذي سيواجه فيه المسلمون الدولتين الأعظم في الأرض آنذاك: فارس والروم، مما أوجب التدبر في الأمر، كما أوضحت لنا ذلك بجلاء الروايات الثابتة الصحيحة. وهذا نص رواية الإمام البخاري نسوقه هنا أخرج البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:

أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتَّهِمُك، وقد كنت تكتُبُ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن.

قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتُّم…، حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه». انتهى.

دلالات جمع القرآن في عهد أبي بكر

وهذا النص يفيد تخوف الصحابة وحسابهم للمستقبل الذي يوجب الحذر والاستعداد لما يطرأ للقراء في مجتمع فرض عليه الجهاد وأحدقت به الأعداء. ويذكر الحديث ما اقتضاه العمل من الجهد في قول زيد: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال». إن هذا يعني في ضوء المعلومات الثابتة التي قدمناها معنى جليلاً هو أنه طلب القرآن متفرقاً ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن، ليشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكو في أنه جمع عن ملأ منهم.

وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدق توثق ومحافظة، وأودعت لدى الخليفة لتكون إماماً تواجه به الأمة ما قد يحدث في المستقبل ولم يبق الأمر موكولاً إلى النسخ التي بين أيدي كتاب الوحي أو إلى حفظ الحفاظ وحدهم. ويعجبنا في هذا ما قاله الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب «فهم السنن»: كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقاً في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمثابة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء.

فضل أبي بكر في جمع القرآن

وما كان أقواه وأمتنه خيطاً ذاك الذي جمع به الصحابة رضي الله عنهم كتاب الله تعالى. وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة عظيمة من مناقبه وفضائله الجمة رضي الله عنه، أثنوا عليها وأشادوا بها لكونه أول من جمع القرآن في هذا الجمع العظيم الموثق، وحسبنا في ذلك ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله».

جمع القرآن بنسخ المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه

إن ما يميز الخلافة الراشدية نظرها الثاقب الذي يتدبر الأمور بل الذي يسبق الحوادث قبل وقوعها، كما سجله المؤرخون قديماً وحديثاً، وهكذا كان عمل أبي بكر والصحابة في جمع المصحف عدة ماضية أنتجت أعظم النتائج في مواجهة ما تطويه الأيام من تغيرات ومفاجآت، فقد استجد في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يوجب نشر هذا المصحف وتعميمه على الآفاق، ليحقق الغاية التي جمع من أجلها واستغرق تلك الجهود والأوقات، ولم يقم الصحابة في نسخ هذا المصحف ونشره بمجرد النقل، بل اتبعوا كذلك غاية ما يمكن من التحقق والتثبت كما توافينا به الأخبار الصحيحة الثابتة.

أخرج البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق».

الحكمة من نسخ المصاحف في عهد عثمان

فقد أفادت هذه الرواية فوائد لها أهميتها في فهم العمل الذي قام به عثمان بن عفان رضي الله عنه عني العلماء ببحثها ودراستها. وأول ذلك السبب الدافع للعمل الذي قام به عثمان وهو اختلاف الناس في وجوه قراءة القرآن حتى قرؤوه بلغاتهم – كما قال ابن التين – على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض تخشى من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخت تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش…». أي بموافقة الرسم لها تحقيقاً، ولغيرها احتمالاً.

وهذا يوضح لنا فرقاً جوهرياً بين عمل أبي بكر وعمل عثمان، وهو أن عمل أبي بكر هو جمع القرآن كله في نسخة معتمدة يشترك فيها الجميع لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في نسخة واحدة موثقة ذلك التوثيق، بل كان ما وجد من نسخ المصحف عند كتاب الوحي على مسؤوليتهم الخاصة. وأما نوع الاختلاف الذي حدث بين الناس في القراءة فيلخصه لنا الإمام أبو بكر الباقلاني في الانتصار بأن عثمان (إنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد».

أسباب الاختلاف الذي استدعى نسخ المصاحف

وهذا يوضح أموراً أولها القراءة على اللهجات على توسيعها كما سبق ذكره ثم التقديم والتأخير، وهذا إنما وقع بالنسبة لبعض السور كتقديم سورة النساء على سورة آل عمران في مصحف أبي أو اعتبار سورتين سورة واحدة مثلاً، وكذا عدم كتابة بعض السور في المصحف، وذلك واضح بالنسبة لمصحف كتبه صاحبه لنفسه، فربما لا يكتب فيه سورة ما، لكونه لا يرى حاجة لإثباتها لغاية ظهور أمرها واشتهارها، نحو عدم كتابة المعوذتين في مصحف عبد الله بن مسعود، وهما أشهر من أن يعرف بهما وأخيراً ولعله الأهم ما كان يقرأ من القراءات التفسيرية بسبب غلط الأخذ من المصحف أو من العالم المقرئ.

اقرأ أيضاً:  أسباب النزول: أهميتها في تفسير القرآن الكريم وكشف إعجازه

فقد كان أصحاب المصاحف قد يكتب أحدهم كلمة وهو واثق من نفسه فيظنها الناظر في الصحيفة قراءة، كما قد يقع من العالم ذكر معنى كلمة في أثناء قراءة آية في مجلس العلم فيظنها بعض السامعين قراءة. وذلك ولا شك نذير خطر عظيم باختلاف كلمة الأمة، وتمزق وحدتها بل تزايد هذا التمزق مع الزمن لما هو معلوم من سنن المجتمعات أن يتضخم الشيء اليسير بالتناقل فيها، مما يؤدي إلى تزايد الاختلافات إذا لم يستدرك الشيء بضابط يضبط القراءة ويلزم الجميع بالأخذ من المرجع الذي اعتمدته الأمة واجتمعت عليه.

الحكمة من نسخ المصاحف وتوحيدها

فكان نسخ القرآن في المصاحف عن مصحف أبي بكر صمام الأمان وحفاظ الكلمة يزيل كل قراءة لا أصل لها، ويثبت المسلمين فيما سوى ذلك من القراءات فيعلمون أنها حق ثابت، فلا يختلفون ولا يتمارون. وأما كيفية العمل في نسخ المصاحف من مصحف أبي بكر فقد أفادنا الحديث الذي رويناه أنه كان بواسطة لجنة رباعية، منها ثلاثة من قريش، وواحد من الأنصار هو زيد بن ثابت. وهؤلاء القرشيون معروفون بالورع والتقى وإتقان حفظ القرآن وإتقان الكتابة.

ووجود زيد بن ثابت معهم أمر بدهي، كيف وهو الذي كان في الجمع الأول وقد رضيه الصحابة جميعهم أيضاً، إلا ما كان من عبد الله بن مسعود في بادئ الأمر من الاعتراض على استبعاده عن اللجنة، حتى روي أنه عرض بزيد بن ثابت كيف يشترك في كتابة المصاحف، ولا يشترك هو فيها، مع تقدمه في الإسلام حيث كان زيد في صلب أبيه الكافر لم يولد حين دخل ابن مسعود في الإسلام، وهو قول ناشئ عن تأثر عارض، أنكره عليه الصحابة ولم يلبث ابن مسعود نفسه أن رجع عنه، وأوضح الحافظ ابن حجر أنه من العسير إشراكه في هذا العمل وقد كان هو في الكوفة.

فضائل زيد بن ثابت

وقد كان زيد بن ثابت قد تقررت له الفضائل، وشهد له بالتقدم، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يقرأ القرآن غضاً فليقرأه بقراءة زيد»، وقد بلغ في الذكاء مبلغاً عظيماً، تميز به على أهل عصره، وقد سئل الإمام التابعي الجليل سليمان بن يسار عن القراءة التي يقرأ بها أهل المدينة فقال: اجتمع عليها ابن عمر، وعثمان، وأبي، وزيد، وكان زيد أقرأهم عندنا». وقال الشعبي: «علت رتبة زيد في الفرائض والقرآن».

ويؤيد ذلك قول الإمام المقرئ التابعي أبي عبد الرحمن السلمي: «كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه. وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر الصديق في جمعه وولّاه عثمان كتبة المصحف». وغير ذلك كثير من الأخبار في فضله وعلو قدمه في القرآن الكريم متواترة المعنى كما بينه أهل التحقيق.

توسيع اللجنة المكلفة بنسخ المصاحف

على أنا نجد ما يدل على أن العمل في نسخ المصاحف ساهم فيه غير هؤلاء الأربعة المذكورين هنا، وقد ورد عند ابن أبي داود عن طريق محمد بن سيرين قال – جمع عثمان اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، منهم أبي بن كعب». وتوافينا روايات تفصيلية بأسماء صحابة آخرين سوى أعضاء اللجنة الرباعية ساهموا في نسخ المصاحف، حتى اجتمع من التتبع أسماء تسعة نفر منهم مما يقوي رواية الاثني عشر، ويشير إلى أن اللجنة الرباعية كانت هي الرئيسة ورفدها في العمل خبراء، عملوا معها لكتابة المصاحف التي تكفي لحاجة المسلمين.

وعند الانتهاء من العمل أعاد عثمان الصحف إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأرسل إلى كل مصر من الأمصار الإسلامية بصحف من المصاحف التي نسخت، وكان عدد هذه المصاحف على المشهور خمسة مصاحف، واحتفظ عنده بمصحف سمي «المصحف الإمام». وبه يكون مجموع المصاحف ستة، وأرسل إلى كل بلد قارئاً يرافق المصحف ويقرأ بالقراءة الموافقة لرسم المصحف، كما يلي:

زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ المصحف الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ المصحف البصري.

موقف الصحابة من نسخ المصاحف

وأمر عثمان بما سوى ذلك من المصاحف أن يحرق، فاستجاب له الصحابة كلهم، وحمدوا صنيعه، حتى عبد الله بن مسعود، فإنه امتنع قليلاً في أول الأمر، لكنه وافق بعد ذلك طواعية كما ثبت ذلك بالأدلة القاطعة. وكان ذلك تصرفاً حكيماً من عثمان رضى الله عنه، فقد أزال بذلك جذور الخلاف ومنابته، وجمع كلمة المسلمين على مدى الأزمنة والدهور. وقد أجمعت الفرق الإسلامية جميعها على تلقي مصحف عثمان وعمله بالقبول، من سنة وخوارج، وشيعة وخصوصاً الإمامية منهم أجمعوا على الاعتقاد في جملة القرآن جميعه الذي أوحى الله تعالى به إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو كل ما تحتويه دفتا المصحف.

المتداول بين المسلمين، وهذه المصاحف في مختلف البلاد الإسلامية ولدى مختلف الفرق المسلمة لا تختلف في شيء عن مصاحف أهل السنة، حتى في طريقة تقسيم السور وترتيبها، الأمر الذي أثبت بالأدلة القاطعة لكل العقلاء المنصفين على اختلاف أديانهم ونحلهم: «إن المصحف الذي نسخه عثمان قد تواتر إلينا بدون أي تحريف على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي من الجميع للنص المقبول نفسه حتى اليوم يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا».

فضل عثمان بن عفان في جمع القرآن

وقد حمد المسلمون سلفاً فخلفاً لعثمان بن عفان رضي الله عنه صنيعه، ولقبوه جامع القرآن، لما وفق له من هذا الأمر العظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة. وقد ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: «يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلو في عثمان، وقولكم حراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا». وقال علي أيضاً: «لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل».

وقد عنيت الأمة الإسلامية بهذه المصاحف العثمانية أكبر عناية، واتخذت هذه المصاحف أصولاً يؤخذ عنها، ويعتمد عليها في تلقي القرآن، واستنساخ المصاحف والتزمت الرسم الذي كتبت به، وصارت كيفية هذا الرسم وأصوله علماً من علوم القرآن.

رسم القرآن الكريم

والمراد برسم القرآن كيفية كتابة الحروف والكلمات في المصحف على الطريقة التي كتبت بها في المصاحف العثمانية، ويطلق عليه (رسم المصحف)، و(مرسوم الخط). وقد عني العلماء بضبط رسم القرآن عناية شاملة تشمل كل كلمة وحرف من القرآن، فضبطوا ما ينضبط بقواعد عامة، وبينوا ما جاء مستثنى في بعض المواضع، حتى لا نرى كلمة منه إلا وقد علم كيف كتابتها بواسطة هذا العلم، الذي حاز على اهتمام كبير من العلماء حتى ألف فيه كتباً خاصة به «خلائق من المتقدمين والمتأخرين» كما قال السيوطي.

وقد ظن بعض الكاتبين المعاصرين أن منشأ الرسم هو تأثر المسلمين العاطفي بإجلال الخليفة الشهيد عثمان بن عفان، لأنه قتل وهو يتلو كتاب الله تعالى في المصحف الإمام. وجاء برأيه هذا متأثراً بآراء استشراقية في ذلك. وهذا ظن وهمي لا دليل عليه ولا مستند له، إنما يرجع رسم المصحف في الأصل إلى كتابة القرآن بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم على كتاب الوحي، وإشرافه وإطلاعه عليه. ومن هنا قرر العلماء منع كتابة المصحف بما استحدث الناس من قواعد الإملاء وذلك للمحافظة على نقل المصحف بالكتابة على الرسم نفسه الذي كتبه الصحابة.

التزام الأمة برسم المصحف العثماني

وهذا أمر قديم، فقد سئل الإمام مالك: هل تكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: (لا، إلا على الكتبة الأولى). قال الإمام أبو عمرو الداني: (ولا مخالف له من علماء الأمة). وهكذا اتخذت الأمة الإسلامية الرسم العثماني سنة متبعة إلى يومنا هذا. وذلك للمبالغة في الحفاظ والاحتياط على نص القرآن حتى في مسألة شكلية هي كيفية رسمه التي كتبت عليها المصاحف العثمانية، والتي أجمعت الأمة على اعتبارها أصولاً يؤخذ منها القرآن.

ويحدثنا الرحالة المسلمون العلماء والأئمة الكبار عن نسخ من بعض هذه المصاحف أو قطع منها شاهدوها في بلاد الإسلام، ولا تزال أجزاء هامة من بعض هذه المصاحف حتى عصرنا هذا تحتفظ بها بعض دور الآثار الضخمة وتزهو بها على العالم. ويحدثنا الإمام ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة (٧٧٤ هـ) عن المصحف الشامي فيقول: «أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديماً بمدينة طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة ٥١٨، وقد رأيته كتاباً عزيزاً جليلاً عظيماً، ضخماً بخط حسن مبين، قوي، بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل».

المصاحف العثمانية عبر التاريخ

وقد ظل هذا المصحف مفخرة تزهو بها دمشق، ويحتضنها جامعها الأموي الكبير، حتى كان الحريق الكبير الذي أصاب المسجد الأموي سنة ١٣١٠ هـ، واحترق فيه هذا المصحف الجليل. وهكذا سجلت الأمة الإسلامية بصنيع عثمان بن عفان والصحابة في نسخ المصاحف مزية ليست لأمة غيرها، هي اعتماد المسلمين على نسخ من كتاب ربهم، منقولة على غاية الدقة والتحري عن الأصل المكتوب عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع مقابلة ذلك كله بحفظه في صدور المسلمين كلهم، ثم نقله كذلك عبر أجيالهم، ليعترف لهم التاريخ على لسان الموالي لهم والمخالف بأنه أدق وأكمل ما يتوقعه أو يمكن أن يفعله أي إنسان، تحقيقاً لقول الله تعالى: «وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد».

اقرأ أيضاً:  الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي: دراسة تفصيلية شاملة

الخاتمة

لقد تبين لنا من خلال هذه الدراسة المتأنية أن جمع القرآن الكريم حفظاً في الصدور وتدويناً في السطور يمثل معجزة إلهية وجهداً بشرياً استثنائياً في آن واحد، حيث توفرت للقرآن وسيلتان متكاملتان للحفظ لم تتوفرا لأي كتاب آخر. فقد حفظه الله في صدور المؤمنين بفضل عوامل متعددة منها إعجازه البلاغي وقوة التلهف النفسي إليه وحض الشارع على تلاوته وحفظه، كما حفظه في السطور من خلال جهود متواصلة بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما.

إن جمع القرآن الكريم في مراحله المختلفة يعكس حكمة الصحابة ونظرهم الثاقب وحرصهم البالغ على حفظ كتاب الله من أي تحريف أو ضياع. فقد كان جمع أبي بكر استجابة لخطر ذهاب حفاظ القرآن في المعارك، بينما جاء نسخ عثمان للمصاحف ليوحد الأمة على قراءة واحدة ويزيل أسباب الخلاف. وبهذا العمل العظيم، سجلت الأمة الإسلامية سبقاً تاريخياً في حفظ كتابها المقدس بأدق وأوثق الطرق، مما جعل القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي بقي محفوظاً كما أنزل دون تبديل أو تحريف عبر أربعة عشر قرناً من الزمان، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تصديقاً لوعده تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».

سؤال وجواب

١. ما المقصود بجمع القرآن الكريم؟

يقصد بجمع القرآن الكريم حفظه بوسيلتين أساسيتين هما الحفظ في الصدور عن ظهر قلب والكتابة في السطور، وقد أطلق العلماء مصطلح جمع القرآن على كل من هذين النوعين من الحفظ. وقد ورد هذا المصطلح أول مرة في القرآن الكريم نفسه بمعنى الحفظ في الصدر في قوله تعالى: إن علينا جمعه وقرآنه. وتميز القرآن بهذه الخصوصية المزدوجة التي لم تتوفر لكتاب سماوي آخر، حيث بلغت كلتا الوسيلتين درجة القطع واليقين الجازم بحقيقة نقل القرآن أدق نقل وأصحه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

٢. ما هي العوامل التي ساعدت الصحابة على حفظ القرآن الكريم؟

تضافرت عوامل عديدة ساعدت الصحابة على حفظ القرآن الكريم، أهمها تمهل الرسول في إلقائه عليهم ونزول القرآن منجماً مفصلاً آيات وسوراً، وقوة التلهف النفسي للقرآن بعد أن كانوا في جهالة جهلاء فسطع نور الإيمان في قلوبهم، وإعجاز القرآن البلاغي الذي ملك أفئدتهم وجعلهم يقبلون على حفظه بغاية الحرص والشغف. كذلك وجوب العمل بالقرآن كونه ينبوع عقيدتهم وعبادتهم ودستور معاملاتهم، وتعاهد النبي أصحابه بتعليم القرآن وتكريم حفظته، وحض الله ورسوله المؤمنين على قراءته وتعلمه وتعليمه.

٣. من هم أشهر حفاظ القرآن من الصحابة؟

من أشهر حفاظ القرآن من الصحابة الذين ورد ذكرهم في الأحاديث الصحيحة عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: خذوا القرآن من أربعة. كما ذكر أنس بن مالك أربعة آخرين جمعوا القرآن على عهد الرسول وهم أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وجميعهم من الأنصار. وقد كثر حفاظ القرآن بين الصحابة حتى بلغوا رتبة التواتر وزيادة، فقد قتل في حرب اليمامة وحدها سبعون من القراء، وأرسل النبي في وفادة واحدة سبعين من القراء لتعليم بعض القبائل.

٤. لماذا اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن رغم أميته وأمية معظم العرب؟

اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن أشد العناية رغم أميته وأمية معظم العرب لإدراكه أهمية حفظ القرآن بوسيلة دائمة لا تذهب بذهاب الإنسان. فقد جند كل الطاقات المتوفرة لكتابة القرآن وحصر جهد الكتاب في كتابته ومنع من كتابة غيره إلا في أحوال خاصة، كما ورد في الحديث الصحيح: لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه. وكان النبي كلما نزل عليه نجم من القرآن دعا كتاب الوحي فأملاه عليهم فيكتبونه على ما يجدونه من الرقاع واللخاف والأكتاف والعسب، مما أدى إلى وجود نسخ كثيرة من القرآن عند عدد من الصحابة.

٥. ما الفرق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان؟

الفرق الجوهري بين الجمعين هو أن جمع أبي بكر كان جمع القرآن كله في نسخة واحدة معتمدة يشترك في علمها الجميع لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته في المعارك، خاصة بعد استحرار القتل بالقراء في حرب اليمامة. أما عمل عثمان فكان نسخ المصاحف من مصحف أبي بكر وتوزيعها على الأمصار لتوحيد الأمة على قراءة واحدة وإزالة الاختلاف الذي ظهر بين المسلمين في وجوه القراءة، وإلغاء القراءات غير الثابتة والقراءات التفسيرية التي قد تسبب الفتنة. فكان جمع أبي بكر لحفظ القرآن من الضياع، بينما كان نسخ عثمان لحفظ الأمة من الاختلاف.

٦. لماذا اختار أبو بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن؟

اختار أبو بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن لعدة أسباب ذكرها في قوله: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان زيد من كتاب الوحي في عهد النبي، كما تميز بالورع والتقى وإتقان حفظ القرآن وإتقان الكتابة. وقد شهد زيد العرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي القرآن على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يقرئ الناس بالقراءة العامة حتى مات. كذلك كانت قراءته موافقة لقراءة أبي بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار، وقد بلغ في الذكاء والفطنة مبلغاً عظيماً تميز به على أهل عصره.

٧. ما المقصود برسم المصحف العثماني؟

المقصود برسم المصحف العثماني هو كيفية كتابة الحروف والكلمات في القرآن على الطريقة التي كتبت بها في المصاحف العثمانية، ويطلق عليه أيضاً رسم المصحف ومرسوم الخط. وقد عني العلماء بضبط رسم القرآن عناية شاملة تشمل كل كلمة وحرف، فضبطوا ما ينضبط بقواعد عامة وبينوا ما جاء مستثنى في بعض المواضع، حتى ألفت فيه كتب خاصة من المتقدمين والمتأخرين. ويرجع رسم المصحف في الأصل إلى كتابة القرآن بإملاء النبي على كتاب الوحي وإشرافه وإطلاعه عليه، ولذلك قرر العلماء منع كتابة المصحف بما استحدث الناس من قواعد الإملاء للمحافظة على نقله بالكتابة على الرسم نفسه الذي كتبه الصحابة.

٨. كم عدد المصاحف التي نسخها عثمان بن عفان وإلى أين أرسلها؟

نسخ عثمان بن عفان على المشهور ستة مصاحف، خمسة منها أرسلها إلى الأمصار الإسلامية واحتفظ بواحد عنده سمي المصحف الإمام. وقد أرسل المصحف المدني مع زيد بن ثابت مقرئاً، والمصحف المكي مع عبد الله بن السائب، والمصحف الشامي مع المغيرة بن شهاب، والمصحف الكوفي مع أبي عبد الرحمن السلمي، والمصحف البصري مع عامر بن عبد القيس. وقد أمر عثمان بحرق ما سوى ذلك من المصاحف، فاستجاب له الصحابة جميعهم وحمدوا صنيعه، وكان ذلك تصرفاً حكيماً أزال به جذور الخلاف ومنابته وجمع كلمة المسلمين على مدى الأزمنة والدهور.

٩. هل اختلفت الفرق الإسلامية في قبول المصحف العثماني؟

لم تختلف الفرق الإسلامية في قبول المصحف العثماني، بل أجمعت جميعها على تلقي مصحف عثمان وعمله بالقبول من سنة وخوارج وشيعة. وقد أجمعت الفرق الإسلامية وخصوصاً الإمامية من الشيعة على الاعتقاد في أن جملة القرآن الذي أوحى الله به إلى نبيه محمد هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداول بين المسلمين. والمصاحف في مختلف البلاد الإسلامية ولدى مختلف الفرق المسلمة لا تختلف في شيء عن مصاحف أهل السنة حتى في طريقة تقسيم السور وترتيبها، مما يثبت أن المصحف العثماني قد تواتر بدون أي تحريف على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها المتداولة في البلاد الإسلامية.

١٠. ما موقف علي بن أبي طالب من جمع القرآن في عهدي أبي بكر وعثمان؟

كان موقف علي بن أبي طالب من جمع القرآن في عهدي أبي بكر وعثمان موقفاً مؤيداً ومادحاً، فقد قال عن جمع أبي بكر: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. وقال عن عمل عثمان: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا. وقال أيضاً: لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل. وهذا يدل على أن عمل الخليفتين في جمع القرآن ونسخ المصاحف كان بإجماع الصحابة وموافقتهم جميعاً بما فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى