اللغات المهددة بالانقراض: أسبابها وأهميتها وإستراتيجيات الحفاظ عليها

في كل بضعة أسابيع، يموت آخر متحدث بلغة ما، ومعه يختفي إلى الأبد كنز ثقافي ومعرفي لا يقدر بثمن. هذه هي الوتيرة المأساوية التي نواجهها اليوم مع تزايد أعداد اللغات المهددة بالانقراض في جميع أنحاء العالم.
مقدمة
يمثل التنوع اللغوي أحد أغنى جوانب التراث الإنساني غير المادي، فهو ليس مجرد مجموعة من الأدوات للتواصل، بل هو وعاء يحمل في طياته تاريخ المجتمعات وثقافاتها وأنظمتها المعرفية الفريدة. ومع ذلك، يشهد عالمنا المعاصر تراجعاً مقلقاً في هذا التنوع، حيث تدخل آلاف اللغات في مرحلة الخطر وتصبح جزءاً من قائمة اللغات المهددة بالانقراض. هذه الظاهرة، التي تعرف بـ”موت اللغات” (Language Death)، لا تعني فقدان كلمات وقواعد نحوية فحسب، بل تمثل انطفاءً لرؤية كاملة للعالم، وخسارة فادحة للمعرفة البشرية المتراكمة عبر الأجيال. إن فهم أبعاد هذه الأزمة العالمية، وتحديد أسبابها، وإدراك أهمية كل لغة، هو الخطوة الأولى نحو صياغة إستراتيجيات فعالة لحماية ما تبقى من هذا الإرث الإنساني العظيم، وإنقاذ أكبر عدد ممكن من اللغات المهددة بالانقراض من مصيرها المحتوم.
ما هي اللغات المهددة بالانقراض؟ تعريف شامل ومستويات الخطر
يمكن تعريف اللغات المهددة بالانقراض بأنها تلك اللغات التي تواجه خطراً حقيقياً في التوقف عن استخدامها، حيث يتناقص عدد المتحدثين بها بشكل مستمر، أو يتوقف انتقالها من جيل إلى جيل. عندما يتوقف الأطفال عن تعلم لغة آبائهم وأجدادهم كلغة أم، تبدأ تلك اللغة رحلتها نحو الانقراض. منظمة اليونسكو (UNESCO)، بصفتها الجهة الرئيسة المعنية بالحفاظ على التراث العالمي، وضعت إطاراً لتصنيف درجة الخطر التي تواجهها اللغات بناءً على معايير متعددة، أهمها انتقال اللغة بين الأجيال. إن تصنيف لغة ما ضمن فئة اللغات المهددة بالانقراض يعتمد على تقييم حيويتها اللغوية (Linguistic Vitality).
لا يتعلق الأمر فقط بعدد المتحدثين، فلغة تضم بضعة آلاف من المتحدثين النشطين الذين ينقلونها لأطفالهم قد تكون أكثر حيوية من لغة أخرى يتحدث بها مئة ألف شخص من كبار السن فقط. لذلك، فإن آلية انتقال اللغة هي المؤشر الأكثر دقة على صحتها. عندما تضعف هذه الآلية، تزداد احتمالية انضمام اللغة إلى قائمة اللغات المهددة بالانقراض. وقد قدمت اليونسكو أطلس اللغات المهددة في العالم، الذي يصنف اللغات ضمن مستويات خطر مختلفة لمساعدة الباحثين وصناع السياسات على فهم حجم المشكلة وتوجيه جهود الحماية بفعالية أكبر نحو اللغات المهددة بالانقراض التي تحتاج إلى تدخل عاجل.
تصنف اليونسكو درجة حيوية اللغات المهددة بالانقراض ضمن خمسة مستويات رئيسة:
- معرضة للخطر (Vulnerable): معظم الأطفال يتحدثون اللغة، ولكن استخدامها قد يقتصر على مجالات معينة (مثل المنزل فقط).
- مهددة بالانقراض بالتأكيد (Definitely Endangered): الأطفال لم يعودوا يتعلمون اللغة كلغة أم في المنزل. هذا المستوى يشكل نقطة تحول حرجة في مصير أي من اللغات المهددة بالانقراض.
- مهددة بالانقراض بشدة (Severely Endangered): يتحدث بها جيل الأجداد وكبار السن، بينما يفهمها جيل الآباء ولكنهم لا يتحدثون بها مع أطفالهم أو فيما بينهم.
- مهددة بالانقراض بشكل حرج (Critically Endangered): أصغر المتحدثين بها هم من جيل الأجداد وكبار السن، ويتحدثون بها بشكل جزئي ونادر.
- منقرضة (Extinct): لم يعد هناك أي متحدثين بها على قيد الحياة.
الأسباب الرئيسة وراء اندثار اللغات
تتعدد العوامل التي تدفع لغة ما لتصبح واحدة من اللغات المهددة بالانقراض، وغالباً ما تكون هذه العوامل متداخلة ومعقدة، وتعمل معاً لتسريع عملية التدهور اللغوي. أحد أبرز هذه الأسباب هو هيمنة لغات أخرى أكثر قوة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. في عصر العولمة، أصبحت لغات مثل الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والماندرين لغات التجارة والتعليم والإعلام، مما يخلق ضغطاً هائلاً على المتحدثين باللغات الأقل انتشاراً للتخلي عن لغاتهم الأصلية لصالح اللغة المهيمنة سعياً وراء فرص اقتصادية وتعليمية أفضل. هذا التحول اللغوي (Language Shift) غالباً ما يكون قراراً براغماتياً تتخذه الأجيال الشابة، ولكنه يؤدي بمرور الوقت إلى تآكل قاعدة المتحدثين باللغة الأصلية.
تلعب العوامل السياسية والتاريخية دوراً محورياً أيضاً في خلق بيئة معادية للتنوع اللغوي. فالسياسات الحكومية التي تفرض لغة رسمية واحدة في التعليم والإدارة وتهمش اللغات الأخرى، أو حتى تحظر استخدامها، تساهم بشكل مباشر في إضعافها. الحروب والنزاعات والتهجير القسري للمجتمعات من أراضيها الأصلية تقطع الروابط المكانية والثقافية التي تدعم استمرارية اللغة، وتشتت المتحدثين بها، مما يجعل الحفاظ على لغتهم أمراً شبه مستحيل. التحضر والهجرة من الأرياف إلى المدن بحثاً عن العمل يؤديان أيضاً إلى تفكك المجتمعات اللغوية المتجانسة، حيث يجد الأفراد أنفسهم مضطرين لاستخدام اللغة السائدة في بيئتهم الجديدة، مما يقلل من فرص استخدام لغتهم الأم ويضعف من أهميتها في حياتهم اليومية، وهذا يسرّع من انضمامها إلى قائمة اللغات المهددة بالانقراض.
الأهمية الثقافية والمعرفية للحفاظ على التنوع اللغوي
إن إنقاذ اللغات المهددة بالانقراض ليس مجرد مسألة حنين إلى الماضي أو حفاظ على الفولكلور، بل هو ضرورة ملحة للحفاظ على الثروة المعرفية والثقافية للبشرية جمعاء. كل لغة هي نتاج فريد لتاريخ طويل من التفاعل الإنساني مع بيئة محددة، وهي تحمل في بنيتها ومفرداتها وتعبيراتها رؤية مميزة للعالم. عندما تموت لغة، فإننا لا نفقد الكلمات فقط، بل نفقد معها أنظمة معرفية كاملة تتعلق بالبيئة، والطب التقليدي، والفلك، والزراعة، والفلسفة، والفن. على سبيل المثال، تمتلك العديد من لغات السكان الأصليين في الأمازون مفردات دقيقة وغنية لوصف النباتات والحيوانات وخصائصها الطبية، وهي معرفة لا تقدر بثمن قد تضيع إلى الأبد إذا لم يتم توثيق هذه اللغات المهددة بالانقراض.
تمثل اللغة كذلك الركيزة الأساسية للهوية الثقافية لمجتمع ما. إنها الوسيلة التي يتم من خلالها نقل الأساطير والقصص والشعر والأغاني والقيم الاجتماعية من جيل إلى آخر. فقدان اللغة يعني فقدان جزء كبير من هذه الهوية، مما قد يؤدي إلى شعور الأفراد بالاغتراب والضياع. الحفاظ على لغة مجتمع ما هو حفاظ على كرامته وتاريخه وحقه في التعبير عن نفسه بطريقته الخاصة. من هذا المنطلق، فإن حماية اللغات المهددة بالانقراض هي مسألة تتعلق بحقوق الإنسان الثقافية، وتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب المختلفة. التنوع اللغوي يثري الفكر الإنساني بنفس الطريقة التي يثري بها التنوع البيولوجي النظام البيئي، وخسارة أي جزء منه تجعل العالم مكاناً أفقر فكرياً وثقافياً.
توزيع اللغات المهددة بالانقراض جغرافياً
تتوزع اللغات المهددة بالانقراض في جميع قارات العالم، ولكن هناك مناطق جغرافية محددة تعتبر “نقاطاً ساخنة” (Hotspots) للتنوع اللغوي المهدد بالخطر. هذه المناطق غالباً ما تتميز بوجود عدد كبير من اللغات الأصلية التي يتحدث بها عدد قليل من الناس، وتتعرض لضغوط شديدة من اللغات الوطنية أو العالمية المهيمنة. تعتبر الأمريكتان، من ألاسكا شمالاً إلى باتاغونيا جنوباً، موطناً لمئات اللغات الأصلية التي تواجه خطر الانقراض الحقيقي. في الولايات المتحدة وكندا، أدت السياسات التاريخية القائمة على الاستيعاب القسري إلى تدهور حاد في حيوية لغات السكان الأصليين.
تعد أستراليا نقطة ساخنة أخرى، حيث كانت موطناً لأكثر من ٢٥٠ لغة للسكان الأصليين عند وصول الأوروبيين، واليوم، معظم هذه اللغات إما انقرضت أو تصنف ضمن اللغات المهددة بالانقراض بشكل حرج. مناطق أخرى مثل سيبيريا، والقوقاز، وجنوب شرق آسيا، ومناطق واسعة من أفريقيا جنوب الصحراء، وغينيا الجديدة، تحتوي على تركيز هائل من اللغات ذات النطاق الجغرافي المحدود والتي تواجه ضغوطاً مماثلة. إن فهم هذا التوزيع الجغرافي يساعد المنظمات الدولية والمحلية على تحديد الأولويات وتوجيه الموارد المحدودة نحو المناطق التي تحتاج إلى تدخل عاجل لحماية اللغات المهددة بالانقراض فيها.
دور التكنولوجيا في إنقاذ وإحياء اللغات
في مفارقة مثيرة للاهتمام، يمكن للتكنولوجيا، التي غالباً ما يُنظر إليها كأحد محركات العولمة التي تساهم في تهميش اللغات الصغرى، أن تكون أيضاً أداة قوية في جهود الحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض. لقد أحدثت الثورة الرقمية تحولاً جذرياً في طرق توثيق اللغات وأرشفتها وإتاحتها للجمهور. يمكن للباحثين والناشطين اللغويين الآن استخدام أجهزة تسجيل صوتية ومرئية عالية الجودة لإنشاء سجلات رقمية للمتحدثين الأصليين، وبناء قواميس تفاعلية، وتطوير أدوات لتعليم القواعد النحوية عبر الإنترنت. هذه المواد الرقمية لا تحفظ اللغة للأجيال القادمة فحسب، بل يمكن أيضاً استخدامها كموارد تعليمية لإعادة إحياء اللغة بين الأجيال الشابة.
منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية فتحت آفاقاً جديدة لخلق مجتمعات افتراضية للمتحدثين بلغات متفرقة جغرافياً. يمكن لأفراد مجتمع لغوي معين التواصل وممارسة لغتهم ومشاركة المحتوى الثقافي، مما يعزز الشعور بالانتماء ويحفز على استخدام اللغة في سياقات حديثة. كما ظهرت مبادرات لتطوير لوحات مفاتيح وتطبيقات لتعلم اللغات خصيصى للغات المهددة بالانقراض، مثل تطبيق (Duolingo) الذي أدرج لغات مثل النافاهو والإيرلندية. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات، مثل “الفجوة الرقمية” (Digital Divide)، التي تمنع العديد من المجتمعات الناطقة باللغات المهددة بالانقراض من الوصول إلى هذه التقنيات، مما يتطلب جهوداً إضافية لجعل التكنولوجيا أداة شاملة ومتاحة للجميع في معركة إنقاذ هذا التراث اللغوي.
إستراتيجيات عملية لتوثيق وحماية اللغات المهددة بالانقراض
تتطلب مواجهة أزمة اللغات المهددة بالانقراض نهجاً متعدد الأوجه يجمع بين جهود المجتمعات المحلية، والباحثين الأكاديميين، والحكومات، والمنظمات الدولية. لا توجد إستراتيجية واحدة تناسب الجميع، بل يجب تصميم التدخلات لتلبية الاحتياجات والسياقات المحددة لكل مجتمع لغوي. الإستراتيجية الأكثر فاعلية هي التي تنبع من رغبة المجتمع نفسه في الحفاظ على لغته، حيث يكون أفراده هم القوة الدافعة الرئيسة وراء أي مبادرة.
يمكن تلخيص الإستراتيجيات الرئيسة المتبعة عالمياً في النقاط التالية:
١. التوثيق اللغوي (Linguistic Documentation): هو عملية علمية تهدف إلى إنشاء سجل شامل ودائم للغة. يشمل ذلك تسجيل ساعات طويلة من المحادثات والقصص والأغاني مع المتحدثين الأصليين، وتحليل البنية الصوتية والنحوية للغة، وتجميع القواميس، وكتابة القواعد. هذا العمل لا يقدر بثمن، لأنه حتى لو انقرضت اللغة، فإن السجل الموثق يمكن أن يستخدم في المستقبل لإعادة إحيائها، كما حدث مع اللغة العبرية. التوثيق هو خط الدفاع الأخير للعديد من اللغات المهددة بالانقراض.
٢. التعليم ثنائي اللغة والانغماس اللغوي (Bilingual Education and Language Immersion): يعتبر إنشاء برامج تعليمية تستخدم اللغة المهددة بالانقراض كوسيلة للتدريس من أنجح الإستراتيجيات لضمان انتقال اللغة إلى الأطفال. برامج “أعشاش اللغة” (Language Nests)، حيث يتم رعاية الأطفال الصغار في بيئة يتحدث فيها مقدمو الرعاية باللغة الأصلية فقط، أثبتت فعاليتها في نيوزيلندا مع لغة الماوري وفي هاواي. المدارس ثنائية اللغة التي تدرس المناهج باللغة المحلية واللغة الوطنية تساهم في رفع مكانة اللغة المحلية وتجعلها ذات صلة بحياة الطلاب.
٣. دعم السياسات اللغوية (Language Policy Support): تلعب الحكومات دوراً حاسماً في خلق بيئة داعمة للتنوع اللغوي. يمكن تحقيق ذلك من خلال الاعتراف الرسمي باللغات المهددة بالانقراض، وتخصيص تمويل للبرامج التعليمية والثقافية، ودعم استخدامها في وسائل الإعلام والإدارة المحلية. إن وجود إرادة سياسية لحماية هذه اللغات يرسل رسالة قوية للمجتمعات بأن لغاتهم وتراثهم موضع تقدير واحترام.
٤. إشراك المجتمع وتمكينه (Community Involvement and Empowerment): لا يمكن لأي جهد خارجي أن ينجح دون المشاركة الكاملة والقيادة من قبل المجتمع الناطق باللغة. يجب تمكين أفراد المجتمع من خلال تدريبهم على تقنيات التوثيق اللغوي وأساليب التدريس، ومنحهم السيطرة على المشاريع المتعلقة بلغتهم. إن جهود إنقاذ اللغات المهددة بالانقراض تكون أكثر استدامة عندما تكون متجذرة في المجتمع نفسه.
٥. التنشيط والإحياء اللغوي (Language Revitalization): تهدف هذه الإستراتيجيات إلى زيادة عدد المتحدثين باللغة واستخدامها في مجالات جديدة. يشمل ذلك تنظيم ورش عمل للكبار، وإنشاء محتوى إعلامي حديث (مثل مدونات، وقنوات يوتيوب، وموسيقى) باللغة المستهدفة، وتشجيع استخدامها في الحياة اليومية. الهدف هو جعل اللغة حية ونابضة وذات صلة بالعصر الحديث.
قصص نجاح ملهمة في إحياء اللغات
على الرغم من الصورة القاتمة التي تحيط بموضوع اللغات المهددة بالانقراض، إلا أن هناك قصص نجاح ملهمة تمنح الأمل وتثبت أن إحياء لغة على وشك الموت هو أمر ممكن. تعتبر اللغة العبرية المثال الأكثر شهرة ونجاحاً في تاريخ إحياء اللغات. فبعد أن كانت لغة طقسية وعلمية لم يتم التحدث بها في الحياة اليومية لقرون، تم إحياؤها بنجاح في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لتصبح اللغة الرسمية والحية لدولة إسرائيل اليوم، ويتحدث بها الملايين كلغة أم. هذا النجاح اعتمد على رؤية واضحة، وجهود مكثفة لإنشاء مفردات حديثة، ونظام تعليمي جعلها لغة التدريس الرئيسة.
مثال آخر يأتي من نيوزيلندا، حيث واجهت لغة الماوري تدهوراً حاداً خلال القرن العشرين. ولكن بفضل حركة إحياء قوية قادها شعب الماوري أنفسهم، تم إنشاء نظام “أعشاش اللغة” (Kōhanga Reo) للأطفال، ومدارس الانغماس اللغوي، وقناة تلفزيونية ناطقة بالماوري. هذه الجهود، مدعومة باعتراف ودعم حكومي، أدت إلى زيادة كبيرة في عدد المتحدثين الشباب وساهمت في استعادة اللغة لمكانتها كجزء حيوي من الهوية الوطنية لنيوزيلندا. قصة نجاح أخرى هي لغة الكورنيش في كورنوال بالمملكة المتحدة، التي أُعلن عن انقراضها في القرن الثامن عشر، ولكن تم إحياؤها في القرن العشرين بفضل جهود المتحمسين، وهي الآن معترف بها كلغة أقلية وتحظى بحماية رسمية. هذه الأمثلة تبرهن على أن مزيجاً من الإرادة المجتمعية القوية، والإستراتيجيات التعليمية المبتكرة، والدعم السياسي يمكن أن يغير مصير أي من اللغات المهددة بالانقراض.
التحديات التي تواجه جهود الإحياء اللغوي
رغم وجود قصص النجاح، فإن الطريق نحو إنقاذ اللغات المهددة بالانقراض محفوف بالتحديات والعقبات الكبيرة. أحد أكبر هذه التحديات هو نقص الموارد المالية. فبرامج التوثيق والتعليم وتطوير المواد تتطلب تمويلاً مستداماً غالباً ما يكون من الصعب تأمينه، خاصة للمجتمعات الصغيرة أو المهمشة اقتصادياً. بدون دعم مالي كافٍ، تظل العديد من المبادرات الواعدة مجرد أفكار على الورق.
يمثل نقص الموارد البشرية تحدياً آخر. غالباً ما يكون عدد المتحدثين الأصليين المتبقين، خاصة أولئك الذين يتقنون اللغة بطلاقة، قليلاً جداً وهم من كبار السن. تدريب جيل جديد من المعلمين والباحثين اللغويين من داخل المجتمع نفسه يستغرق وقتاً وجهداً، وقد يكون من الصعب إيجاد أفراد لديهم الرغبة والقدرة على تولي هذه المهمة. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالتحدث بلغة أقلية تشكل عائقاً نفسياً كبيراً في بعض المجتمعات، حيث قد يرى الشباب أن التحدث بلغتهم الأصلية هو علامة على التخلف أو أنه يعيق تقدمهم الاجتماعي والاقتصادي. التغلب على هذه المواقف السلبية يتطلب جهوداً طويلة الأمد لرفع مكانة اللغة وتعزيز الفخر الثقافي، وهي مهمة ليست بالسهلة في عالم تهيمن عليه ثقافة ولغة واحدة.
مسؤولية الفرد والمجتمع الدولي
إن قضية اللغات المهددة بالانقراض ليست مسؤولية المجتمعات الناطقة بها وحدها، بل هي مسؤولية جماعية تقع على عاتق البشرية بأكملها. كل لغة تموت هي فصل يُغلق من كتاب التاريخ الإنساني. لذلك، يجب على المجتمع الدولي والأفراد على حد سواء أن يلعبوا دوراً فاعلاً في هذه القضية المصيرية. إن فهم أهمية هذه الأزمة هو خطوة أولى، ولكنها يجب أن تتبعها إجراءات عملية وملموسة.
هناك العديد من الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها الجهات المختلفة:
- على مستوى الأفراد:
- رفع الوعي: يمكن للأفراد المساهمة من خلال التحدث عن قضية اللغات المهددة بالانقراض مع أصدقائهم وعائلاتهم وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
- دعم المنظمات: التبرع أو التطوع في المنظمات التي تعمل على توثيق وإحياء اللغات.
- التعلم: إذا كانت هناك لغة مهددة بالانقراض في منطقتك، فإن محاولة تعلم بعض العبارات الأساسية منها يظهر احتراماً ودعماً للمجتمع الناطق بها.
- على مستوى الحكومات الوطنية:
- التشريع: سن قوانين تحمي وتعزز حقوق الأقليات اللغوية.
- التمويل: تخصيص ميزانيات كافية لدعم برامج إحياء اللغة في المدارس ووسائل الإعلام.
- الاعتراف: منح الاعتراف الرسمي للغات الأصلية والمحلية، مما يعزز من مكانتها وهيبتها.
- على مستوى المنظمات الدولية (مثل اليونسكو):
- التنسيق الدولي: تسهيل التعاون بين الباحثين والمجتمعات والحكومات في جميع أنحاء العالم.
- توفير الخبرة والموارد: تقديم الدعم التقني والمنهجي لمشاريع الحفاظ على اللغات.
- إعلان عقود دولية: مثل “العقد الدولي للغات الشعوب الأصلية (٢٠٢٢-٢٠٣٢)”، الذي يهدف إلى حشد الاهتمام العالمي بقضية اللغات المهددة بالانقراض.
خاتمة
في نهاية المطاف، تمثل أزمة اللغات المهددة بالانقراض تحدياً حضارياً عميقاً. إنها اختبار لمدى تقديرنا للتنوع كقيمة إنسانية جوهرية. كل لغة هي نسيج فريد يجمع خيوط التاريخ والثقافة والفكر، وخسارتها تجعل النسيج البشري الكلي أكثر فقراً وبُهتاناً. إن الجهود المبذولة اليوم لتوثيق وإحياء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اللغات المهددة بالانقراض ليست مجرد محاولة للحفاظ على الماضي، بل هي استثمار حاسم في مستقبل أكثر ثراءً وتنوعاً للأجيال القادمة. إن الصمت الذي يتركه موت لغة ما هو صمت يصم الآذان، ومسؤوليتنا الجماعية هي أن نضمن أن تبقى أصوات البشرية المتنوعة مسموعة وقوية وحية.
سؤال وجواب
أسئلة شائعة وإجاباتها
١. ما هو التعريف الدقيق للغات المهددة بالانقراض؟
اللغات المهددة بالانقراض هي تلك التي تواجه خطراً حقيقياً في التوقف عن استخدامها، والعامل الحاسم في تعريفها هو انقطاع انتقالها بين الأجيال، أي عندما يتوقف الأطفال عن تعلمها كلغة أم من آبائهم.
٢. كم عدد اللغات المهددة بالانقراض في العالم حالياً؟
تشير تقديرات منظمة اليونسكو إلى أن حوالي ٤٠% من لغات العالم، والتي يقدر عددها بنحو ٧٠٠٠ لغة، معرضة لخطر الانقراض بدرجات متفاوتة. هذا يعني أن آلاف اللغات تواجه مستقبلاً غامضاً.
٣. ما هو العامل الأكثر خطورة الذي يؤدي إلى اندثار اللغات؟
العامل الأكثر خطورة هو “التحول اللغوي” (Language Shift)، حيث يتخلى مجتمع لغوي تدريجياً عن لغته الأم لصالح لغة أخرى مهيمنة اقتصادياً أو اجتماعياً، مما يؤدي إلى توقف استخدام اللغة الأصلية وانتقالها للأجيال الجديدة.
٤. لماذا يجب أن نهتم بالحفاظ على لغة يتحدث بها عدد قليل من الناس؟
كل لغة تمثل نظاماً معرفياً فريداً ورؤية مميزة للعالم، وتحمل في طياتها معارف متراكمة عبر الأجيال في مجالات البيئة والطب والفلك. فقدانها هو خسارة دائمة لجزء من التراث الفكري والثقافي للبشرية جمعاء.
٥. هل يمكن حقاً إحياء لغة بعد انقراضها تماماً؟
نعم، يمكن ذلك إذا توفر توثيق علمي كافٍ للغة قبل انقراضها، بالإضافة إلى إرادة سياسية ومجتمعية قوية. المثال الأبرز على ذلك هو إحياء اللغة العبرية التي كانت لغة طقسية لقرون قبل أن تصبح لغة حية اليوم.
٦. كيف تساهم العولمة في تفاقم هذه الأزمة؟
تساهم العولمة في تعزيز هيمنة عدد قليل من اللغات العالمية في مجالات الإعلام والإنترنت والتجارة الدولية، مما يخلق ضغطاً اقتصادياً واجتماعياً على المتحدثين باللغات الأقل انتشاراً لتبني اللغات المهيمنة على حساب لغاتهم الأصلية.
٧. ما هي المناطق التي تضم أكبر عدد من اللغات المهددة بالانقراض؟
تعتبر الأمريكتان، وأستراليا، وسيبيريا، وجنوب شرق آسيا، ومناطق من أفريقيا من “النقاط الساخنة” التي تضم تركيزاً عالياً من التنوع اللغوي المهدد بالخطر الشديد بسبب وجود عدد كبير من لغات السكان الأصليين.
٨. ما هو الدور الذي تلعبه منظمة اليونسكو في هذا المجال؟
تلعب اليونسكو دوراً محورياً في رفع الوعي العالمي، حيث تصدر “أطلس لغات العالم المهددة بالانقراض” لتوثيق حالتها، كما تنسق الجهود الدولية مثل “العقد الدولي للغات الشعوب الأصلية (٢٠٢٢-٢٠٣٢)” لحمايتها.
٩. كيف يمكن للأفراد العاديين المساهمة في حماية اللغات المهددة بالانقراض؟
يمكن للأفراد المساهمة من خلال رفع الوعي بالقضية، ودعم المنظمات العاملة في مجال توثيق اللغات، وإظهار الاحترام والتقدير للغات الأقليات في مجتمعاتهم، وتشجيع تعلمها واستخدامها.
١٠. ما الفرق بين لغة مهددة بالانقراض ولهجة آخذة في التلاشي؟
اللغة هي نظام تواصل مستقل، بينما اللهجة هي شكل من أشكال هذه اللغة مرتبط بمنطقة جغرافية أو فئة اجتماعية معينة. كلاهما يمثل جزءاً من التراث الثقافي، وفقدان أي منهما يعتبر خسارة للتنوع اللغوي.