الرافعي عند محمود شاكر
بقلم: عبد الحميد الرحمون.
بسم الله وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين…. وبعد:
فهذه بضع كليمات جمعتها من مقالات محمود شاكر، رحمه الله، التي تحدث فيها عن الرافعي، ورتبتها في فقرات وعنونتها بما يناسب مضمونها، والحمد لله رب العالمين.
قسمت المقال إلى ست فقرات رئيسة، وهي:
١ -الرافعي الصديق.
٢ -الرافعي المبدع.
٣ -الرافعي الكاتب.
٤ -الرافعي المحب.
٥ -الرافعي ربيب الشعب.
٦ -خاتمة [رثاء الرافعي].
الرافعي الصَّدِيق
يتحدث محمود شاكر عن صلته بالرافعي وكيف تعرف عليه للمرة الأولى والعلة التي دفعته لذلك، يقول: “الرافعي كاتب حبيب إلى القلب، تتنازعه إليه أسباب كثيرة من أخوة في الله، ومن صداقة في الحب، ومن مذهب متفق في الروح، ومن إعجاب قائم في البيان.
كانت سنة 1341 هـ سنة ١٩٢٣ م فقرأت للرافعي كتابه «المساكين» فنازعتني نفسي إلى مراسلته لأصل ما بيني وبينه، فكتب إليّ كتابًا رقيقًا كنور الفجر، ثم مضت الأيام ولقيت رجلًا كهلًا قد اشتعل الشيب في رأسه، خفيفًا قد أخذت منه الأيام، صامتًا قد أسكته الفكر، فقيل هذا الرافعي. فيوم ذاك عرفتُه، فإذا هذا الكهل شباب مشتعل يتوهج، وإذا هذا الخفيف قوة مستصعبة مستمرة لا تلين، وإذا هذا الصامت لسان عربي مبين. ثم هو بعدُ صديق أنت من صداقته في مثل الروضة تفيء إلى ظلها، وتستنشي شذاها، وتصاحبها وتصاحبك فتمسح عن قلبك الحزن بالرضى والفرح”.
الرافعي المبدع
يتحدث شاكر هنا عن السر الذي يكمن خلف إبداع الرافعي، يقول: “وهنا سر الرافعي كله، سره في فكره، وسره في علمه، وسره في بيانه، وذاك هو سر المؤمن إذا ارتفعت عن قلبه الحجب، وسقطت عن عينه الغشاوة، وارتفع به الإيمان عن أشياء الأرض إلى أسرار السماء، فلا تجد الدنيا منه ما يحده أو يطغيه أو يلفته، فهو بصيرة تنفذ، وقوة تعمل، وإخلاص يجلو، وجمال يحب، وهذا هو سر الأسلوب الذي انفرد به الرافعي؛ فهو يدرك الجمال في الجميل لأنه يعرف أسرار جماله، ويدرك الجمال في القبيح لأنه يعرف أسرار قبحه، فالجمال عنده في السر والجوهر وأصل البناء لا في العرض، وكذلك الخير والشر، والفضيلة والرذيلة وما إلى ذلك. كل ذلك بعض العمل البياني الذي يتدفق من لسان هذا الرجل”.
الرافعي الكاتب
يشير شاكر في حديثه هنا إلى المادة التي يعتمد عليها الرافعي في كتاباته، يقول: “والرافعي كاتب قد استولى على الأمد في مادة الكتابة، فاللغة عنده مادة للتعبير لا مادة للحفظ والاستعمال، فهو قد قرأها قراءة البصير ليرى الفروق الخفية بين اللفظ ومرادفه وليعلم حق اللفظ من العبارة، وحق العبارة من الألفاظ، والمعاني عند الرافعي هي التي لها حق اختيار الألفاظ من لغته. وهو لا يأخذ ألفاظه من المعاجم وإنما يأخذها من سليقته التي صقلتها المعاجم.
واللغة لا تقوم بغير فكرة، والرافعي قد استولى على أصولها، بقوة الإدراك وشموله وتراميه، وبالقدرة على الإبانة عنها باللفظ المتصل الماضي الذي لا ينقطع دونها، وبسمو الخيال وتراحبه واستطالته”.
الرافعي المحب
يصف شاكر هنا حب الرافعي وتساميه، يقول: “فهو رجل وحده سامٍ عن الإسفاف، مشرق كالنجم، صافٍ كأنه مرآة مجلوَّة، ثم فرحٌ كأنه أمل يتحقق، باكٍ كأنه عضو يُقطع، متألم كأنه محارب باسل ينهزم، ثم لا يزال على ذلك _ الرجل الجلد القوي الذي لا ينكسر ولا يتحطم، ولا تتدنّى به القوة الغالبة، قوة اللذة الإنسانية القَرِمة المتشهيّة. لذلك يخلو حب الرافعي من الفجور الفني، وإنما يصف الرافعي المحب فجور الرجل والمرأة ليسمو بالرجل الفاجر ويخرجه من سلطان لذته، ويصف فجور المرأة ليهديها ويطهرها وينزهها وينصفها من ظلم الرجل الفاجر”.
الرافعي ربيب الشعب
يشير محمود شاكر إلى أن الرافعي لم يكن بعيدًا بأدبه عن المجتمع ومشكلاته وآلامه، وإلى قدرته الفائقة في وصف آلام المجتمع، يقول: “فهو الواصف البليغ الذي يستطيع أن يجمع آلام أمة مظلومة في ألفاظ تتألم، ويؤلف آلام المساكين في كلمات تبكي، ويحصر سخط المستعبدين من الفقراء في حروف تبكي وتتألم وتتسخط وتتشفى وتبغض وتسخر من هذا الاجتماع الذي استعبدهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، فهو في هذه ترجمان القلوب المتحطمة”.
خاتمة
عمدت أن أختم هذا المقال برثاء محمود شاكر للرافعي، رحمهما الله؛ ليتضح لنا كم كانت مكانة الرافعي كبيرة وعظيمة في قلب محمود شاكر، يقول شاكر في رثاء الرافعي: “كنت لي أملًا أستمسك به كلما تقطعت آمالي في الحياة، كنتَ راحة قلبي كلما اضطرب قلبي في العناء، كنتَ الينبوع الرويّ كلما ظمئ القلب وأحرقه الصدى، كنتَ نورًا يتبلج نوره في قلبي وتتنفس نسماته، فوجدت قلبي إذ وجدتُ علاقتي بك، لم أفقدكَ أيها الحبيب ولكني فقدت قلبي.
جزعي عليك يمسك لساني أن يقول، ويرسل دمعي ليتكلم، والأحزان تجد الدمع الذي تذوب فيه وتضَّاءل، ولكن أحزاني عليك تجد الدمع الذي تُروى منه لتنمو وتنتشر”.