المدح عند الأعشى: أساليب التأثير وفن التكسب بالشعر

يُصنف ابن سلام الشاعر الأعشى ضمن شعراء الطبقة الأولى، مُعللاً هذا التقديم بقوله إن أصحاب الأعشى قد أجمعوا على أنه كان أكثر الشعراء تنويعًا في الأوزان الشعرية (العروض)، وأوسعهم خوضًا في فنون الشعر المختلفة، وأغزرهم إنتاجًا في أغراض المدح والهجاء والفخر والوصف. ويُظهر هذا الرأي أن التنوع في الأغراض الشعرية، والذي يأتي على رأسه فن المدح عند الأعشى، كان من العوامل الأساسية في تبوئه هذه المكانة الرفيعة. فما هي أبرز هذه الأغراض التي شكلت ملامح تجربته؟
المدح
يُعد غرض المديح من الأغراض الشعرية الأصيلة في العصر الجاهلي، إلا أنه شهد تطورًا ملحوظًا؛ فبعد أن كان تعبيرًا عن الشكر مقابل عطاء، تحول إلى أداة استباقية لطلب النوال، ثم إلى وسيلة للتزلف والتكسب، وهو التحول الذي وصل إلى ذروته في تجربة المدح عند الأعشى. ويشرح ابن رشيق هذا التحول بقوله: “وكانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة أو مكافأة عن يد، لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها.. حتى نشأ النابغة الذبياني، فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر فسقطت منزلته، وتكسب مالاً جسيماً”. فلما جاء الأعشى، أرسى قواعد جديدة، حيث أصبح الشعر، وخاصة المدح عند الأعشى، بمثابة متجر يُتنقل به بين البلدان، حتى إنه قصد به ملك العجم، فنال منه إثابة وعطاءً جزيلاً، مما يؤكد الطبيعة الاحترافية التي اتسم بها المدح عند الأعشى.
ولم يكن الأعشى يرى في هذا السعي ما يعيبه، بل اعتبره مفخرةً تؤكد قيمة المدح عند الأعشى كوسيلة للارتقاء، وهو ما صرح به في شعره، حيث يقول:
وَقَد طُفْتُ لِلْمَالِ آفَاقَهُ *** عُمانَ، فَحِمْصَ، فَأُورِشليِمْ
أتيتُ النَّجَاشِي فِي أَرْضِهِ *** وَأَرْضَ النَّبِيطِ، وَأَرْضَ العَجَمُ
فنجرانَ، فالسرو من حمير *** فأيّ مرامٍ له لم أرُمْ
وفي خضم هذا التطواف الواسع، كان المدح عند الأعشى هو الأداة التي فتحت له أبواب الملوك والأمراء والسادة والقادة. فقد شمل المدح عند الأعشى شخصيات بارزة من أمراء الحيرة مثل النعمان بن المنذر والأسود بن المنذر اللخمي، ومن أمراء حضرموت قيس بن معد يكرب الكندي. كما وصل المدح عند الأعشى إلى آل جفنة الغساسنة، بالإضافة إلى أشراف وشيوخ قبائل منهم هوذة بن علي الحنفي، وإياس بن قبيصة الطائي، وشريح بن حصن، ورهط عبد المدان بن الديان، وغيرهم كثيرون.
لقد اتبع الأعشى منهجًا عامًا يمكن تلمسه بوضوح، حيث يمثل هذا المنهج الإطار الفني الذي تميز به المدح عند الأعشى. يتجلى منهج المدح عند الأعشى العام في قصائده من خلال اتباع هيكل تقليدي منظم، يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
- يبدأ القصيدة بذكر المرأة والخمر، وغالبًا ما يظهر في هذا الجزء رغبة في التخلص من قيود الهوى التي تعيق الشاعر عن لقاء العظماء.
- ينتقل بعد ذلك إلى وصف الرحلة الشاقة التي قطعها، معبراً عن شكره للناقة التي كانت وسيلته لبلوغ الممدوح.
- يختتم القصيدة بالوصول إلى باب الممدوح والشروع في مدحه، حيث يركز على إبراز مناقبه وصفاته.
وكان الأعشى إذا استهل قصيدته بذكر المرأة في سياق قصائد المدح، فإنه يذكرها كشخص راغب عنها، متملص من شراكها، لأن الانشغال بها يلهي الشعراء عن السعي للقاء العظماء. ومن منظور الأعشى، يُعد من السفه أن يرهن الشاعر قلبه لمحبوبة متقلبة الأهواء، وهذا الموقف يخدم غاية المدح عند الأعشى في إظهار جدية الشاعر وتوجهه نحو غايته الأسمى. ويعبر عن ذلك بقوله:
أرى سَفَها بالمرء تعليق لبّه *** بِغَانِيَةٍ خَوْدٍ، مَتَى تَدْنُ تَبعد
ويفضل الشاعر على هذه المرأة ناقة قوية متمرسة بالأسفار، قادرة على اجتياز الفلوات، سالكةً دروبًا معروفة حينًا ومنحرفة عنها حينًا آخر، حتى تبلغه غايته المتمثلة في النعمان بن المنذر، سليل الشرف والكرم. وتعكس هذه الأبيات فلسفة المدح عند الأعشى التي تعلي من شأن السعي والعزيمة:
شَدَدْتُ عَلَيْها كُورَها فَتَشَدَّدَتْ *** تجُورُ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَتَهْتَدِي
إلَيْكَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ كَانَ كَلَاما *** إلى الماجدِ الفَرْعِ الْجَوَادِ الْمُحَمد
لقد برع الأعشى في مدح الملوك والأمراء، وأتقن فنه إتقان الخبير المتمرس، حتى أصبحت صناعة المديح بين يديه ذات أصول وقواعد راسخة، مما جعل المدح عند الأعشى نموذجًا فنيًا متكاملًا. وقد تمكن من التغلغل في نفوس الأمراء، وأدرك المعاني التي ترضيهم، فصاغها في شعر سائغ سهل التناول والتداول، وهذا ما عزز من مكانة المدح عند الأعشى.
ومن أبرز المعاني التي ألح عليها في سياق المدح عند الأعشى عند مخاطبته للملوك، هي صفات الملك اليقظ المسؤول عن رعيته. فقد ركز على تصوير سهر الملك وتفكيره الدائم في تدبير شؤون الحكم، وحمله للسلاح، ويقظته المستمرة، وبراعته في فنون القتال. وهذه الخصال الملكية كلها اجتمعت في شخصية النعمان بن المنذر، وهو ما يفسر لماذا خصه الشاعر بقصده، وكيف أصبح المدح عند الأعشى الموجه إليه نموذجًا يحتذى به في إظهار صفات الحاكم المثالي. وتعكس الأبيات التالية كيف جسّد المدح عند الأعشى هذه الصفات:
إلى ملك لا يَقْطَعُ اللَّيل همه *** خروج تروك للفِرَاشِ الْمَهْلِم
طويل نجادِ السَيْفِ يَبْعَثُ همه *** نيامَ القطا بالليلِ فِي كُلِّ مَهْجَدِ
ويحرص في أسلوب المدح عند الأعشى على إشباع غرور الأمراء، فيصورهم كالأهلة التي يتطلع إليها الناس في صمت وخشوع، يخشون عقابهم الزاجر من جهة، ويرجون ثوابهم الغامر من جهة أخرى. وهذا التصوير يعمق من هيبة الأمير، وهو هدف أساسي سعى إليه المدح عند الأعشى. ومن هؤلاء الأمراء الأسود بن المنذر اللخمي، الذي يبلغ المدح عند الأعشى ذروته في إضفاء الهيبة عليه:
أَرْيحِي صَلتَ يَظُلُّ لَهُ القَو *** م رُكُوداً قِيَامَهُمْ لِلْهِلَال
إِن يُعاقِبْ يَكُنْ غَرَاماً وَإِنْ يُعْـ *** ط جَزِيلاً، فإنّه لا يُبَالِي
ويواصل الشاعر الإلحاح على فكرة الهيبة، مما يجعلها ركيزة أساسية في فلسفة المدح عند الأعشى. ولهذا السبب، لم يتردد في تصوير الأمير الغساني بصورة ترضي الذوق الجاهلي، حتى وإن لم ترق لذوقنا الحديث، مما يدل على أن المدح عند الأعشى كان ابن بيئته وزمانه. إذ يجعله في صورة حيّةٍ سامة، ويخلع عليه درعًا سابغة، لكن هذه الدرع، على متانتها، لا تطيق قوة الأمير وعزمته، فتنشق عن منكبيه وصدره إذا ما لوح بسيفه. وهذا التشبيه، على غرابته، يخدم غاية المدح عند الأعشى في تعظيم قوة الممدوح:
يراك الأَعادِي عَلَى رَغْمِهِمْ *** تَحُلّ عَلَيْهِمْ عَلا عويصا
كحيّة سلع مِنَ القاتِلاتِ *** تقدُّ الصرامَةُ عَنْكَ القميصا
وإذا كان الشعراء يحرصون في مدائحهم على تصوير دروع الأمراء السابغة، فإن المدح عند الأعشى يتخذ مسارًا مغايرًا وأكثر إبداعًا. فبدلاً من التركيز على الدرع، فإن المدح عند الأعشى يفضل تجريد الممدوح منه، بل ويخلع تلك الدروع على أعداء الأمير، ليترك قيس بن معد يكرب، أمير حضرموت، خفيف الحركة، رشيق الذراعين. وهو ما يتجلى في أسلوب المدح عند الأعشى حين يصف قيسًا وهو لا يتخذ من السلاح إلا سيفًا رهيفًا، ينطلق به نحو الكتيبة المثقلة بالحديد والأسلحة، فيوجه ضربات شديدة تترك أثرها في دروع الفرسان وأجسادهم، مستمدًا قوته من إيمانه بالله والقدر. إن هذه الصورة تبرز جانبًا مهمًا من جوانب المدح عند الأعشى، وهو ربط الشجاعة بالإيمان الإلهي:
وإذا تجيء كَتِيبَةُ مَلْمُومَةً *** خرساءُ تُغْشِي مَنْ يَلُوذُ نهالا
كُنتَ المُقَدَّمَ غَيْرَ لَابِس جُنَّةٍ *** بالسيْفِ تَضْرِبُ مُعْلماً أَبْطَالها
وَعَلِمْتَ أَن النَّفْسَ تَلْقَى حَتْفَهَا *** مَا كَانَ خَالِقُها المليك قَضَى لَها
يتمتع الأعشى ببراعة فريدة في الوصول إلى قلوب الأمراء وخزائنهم، وتعد هذه البراعة من أهم أسرار نجاح المدح عند الأعشى. فهو بعد أن يرضي غرور الممدوح ويبرز بطولته وهيبته وسلطانه، ينتقل بذكاء إلى ما يعنيه مباشرةً، وهو ثراء الممدوح وسخاؤه، وهنا يتجلى الهدف العملي من المدح عند الأعشى. فيمزج الحزم بالكرم، ويقدم في سياق المدح عند الأعشى صورة لقيس بن معد يكرب يستمد خطوطها الأولى من الجراءة، ثم يلونها بالجود، فيصوره كسيل متدفق تتلاطم أمواجه كأمواج الفرات، وتضرب جوانب سفينة ضخمة، فيلتجئ ملاحها الخائف إلى مؤخرتها اتقاءً للغرق. وما هذا السيل العرم إلا تجسيد لكرم الأمير الذي يعم الناس في زمن القحط، وهي صورة بلاغية تظهر قوة المدح عند الأعشى في التعبير عن الجود:
وَمَا مَزيدُ مِنْ خَليج الفرا *** ت جَوْنَ غَوَارِبُه تَلْتَطِيمُ
يكب الخلية ذات القلا *** ع قَدْ كَادَ جُؤْجُؤُهَا يَنْحَطِمَ
تكأكأ مَلاحها وسطها *** مِنَ الخَوْفِ كَوْثَلَها يَلْتَزِمُ
بِأجْوَدَ مِنْهُ بماعونه *** إذا مَا سَماؤُهُمْ لَمْ تَغمُ
وتكمن إحدى أبرز مهارات المدح عند الأعشى في قدرته على نعت كل أمير بأبرز خصاله المميزة. فإن كان الأمير بطلاً، فإن المدح عند الأعشى يشق عنه الدرع ويطلقه نسرًا في ساحة المعركة. وإن كان حليمًا مثل إياس بن قبيصة الذي تولى إمارة الحيرة بعد النعمان بن المنذر، فإن المدح عند الأعشى ينوه بحلمه وعفوه عن السفهاء وتجاوزه عن رعونتهم. ولم ينس الشاعر الإشارة إلى سخائه، وكأن المدح عند الأعشى هنا يجمع بين الثناء والتذكير بحق الشاعر في العطاء:
فعاش بذلك ماضرة *** صُبَاةُ الحُلُومِ وَأَقْوَالها
يَنولُ العَشيرة ما عِنْدَهُ *** وَيَغْفِرُ ما قال جُهَّاها
إن الحلم الذي يعظمه المدح عند الأعشى في شخصية الممدوح هو حلم نابع من القوة لا الضعف؛ إنه حلم القادر على الانتقام ولكنه يصفح، لا حلم الخائف من الخصومة لأنه سيُغلب فيها. وحين امتدح الشاعر سلامة ذا فائش بن يزيد الحميري، أحد ملوك اليمن، أبرز فضيلة الحلم فيه على هذا النحو، وهو ما يوضح النضج الفكري الذي وصل إليه المدح عند الأعشى. وقدم نصيحة لخصومه بمصالحته، مبيناً لهم أن قدرته على قهر الأقوياء لا تقل عن رغبته في مسالمة الضعفاء:
فإن حمير أَصْلَحَتْ أَمْرَهَا *** ومَلْتُ تَسَاقِيَ أَوْلَادِها
وجدتَ إِذا اصْطَلَحُوا خَيْرَهُمْ *** وَزَنَّدُكَ أَنْقَبُ أَزْنَادِها
وفي مثل هذا الموقف، يظهر المدح عند الأعشى بمظهر الحكمة والوقار، داعيًا إلى السلام كما فعل زهير في حرب داحس والغبراء، ساعيًا لنزع الضغائن من النفوس. ولهذا السبب، فُتحت أمامه أبواب الأمراء المتناحرين، وهو موقف حرج لم يتمكن النابغة الذبياني من التعامل معه بنفس البراعة. وإذا أدركنا أن الأعشى وأمثاله كانوا يتنقلون بين ملوك متنافسين، أدركنا كيف أن المدح عند الأعشى كان أداة دبلوماسية ذكية، حيث استطاع بدهائه وفهمه لطبيعة العلاقات بين الدول أن يتجنب الإساءة لأحد الأطراف، فسار شعره، ونال القبول، وأجزل له الأمراء الجوائز.
ولم يقتصر تأثير المدح عند الأعشى على الملوك، بل نافست السوقة الملوك في تكريمه طمعًا في شعره. ويُروى في هذا السياق أنه عندما قدم الأعشى مكة قاصدًا سوق عكاظ، سارع إليه المحلق، وكان رجلاً فقيراً له بنات عوانس، فدعاه إلى بيته وأكرمه وبالغ في إكرامه. فلما أصبح الأعشى، انطلق إلى عكاظ وأنشد قصيدة طويلة خلدت كرم المحلق، وأظهرت كيف يمكن لفن المدح عند الأعشى أن يرفع من شأن رجل فقير، إذ صور الناس وهم يتوافدون على نار المحلق التي يوقدها على رأس جبل ليهتدي بها الضيوف، ومن قصدها وجد الكرم والمحلق توأمين:
لعَمْرِي لَقَدْ لَاحَتْ عُيُونُ كَثيرة *** إلى ضوء نارٍ في بقاع المحرق
تُشب القرُورَيْن يَصْطلِيانها *** وباتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى والمحلق
رَضِيعَيَّ لِبَانِ تَدْيَ أَمْ تَخَالَفَا *** بأسْحَمَ دَاجٍ مَوْضُ لا تَتَفَرَّقُ
وهكذا سارت القصيدة من عكاظ إلى دار المحلّق، وسار خلفها الخطاب يطلبون بناته العوانس، فلم تمسِ منهن واحدة إلا وقد تزوجت من رجل ثري شريف، وهذا يثبت الأثر الاجتماعي العميق الذي كان لقصائد المدح عند الأعشى.
وحين أدركت قريش خطر الأعشى، وسيرورة شعره في الناس، وقوة تأثير المدح عند الأعشى، حاولت رده عن الإسلام لمنعه من مدح النبي عليه السلام. ويبدو أن أبا سفيان قد أفلح في صرف الشاعر عن لقاء النبي، لكنه لم يفلح في صرفه عن مدحه. فقد تناقل الرواة دالية تُنسب إليه، تُمثل نموذجًا فريدًا من المدح عند الأعشى موجهًا للنبي عليه السلام، مطلعها:
ألَم تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ أرْمَدَا *** وَعَادَكَ مَاعَادَ السليم المُسَهَّدَا
وفي هذه القصيدة، يمني الشاعر نفسه بلقاء الرسول ونيل عطاياه، ثم يشهد له بالذكر الطيب الذي انتشر في أودية بلاد العرب وجبالها، فيخاطب ناقته قائلاً:
متى ما تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْن هاشم *** تريجي، وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ يَدَا
نبِي يَرَى مَالَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ *** أَغَارَ لعَمْرِي في البلاد وأنْجَدا
هذه الأبيات، إن صحت نسبتها، تفتح نافذة على إمكانية تحول المدح عند الأعشى ليواكب الدعوة الجديدة. وقد شكك بعض الدارسين المحدثين في صحة نسبة هذه القصيدة، بحجة ضعفها وتأثرها بمعاني القرآن الكريم. إلا أن محقق ديوان الأعشى قد رد على هذا التشكيك بقوله: «إن ضعف الشعر الإسلامي ظاهرة عامة في الشعراء المخضرمين، يمكن ردها إلى ما يجدونه من صعوبة في معالجة أغراض ومعان جديدة على الشعر لا تلائم ما مارسوه، ومارسه أسلافهم من أساليب الصناعة وقوالبها».
وفي تقييمه لخصائص هذا الفن، لم يجد الدكتور شوقي ضيف ما يميز المدح عند الأعشى عن مدح غيره من شعراء الجاهلية سوى الإسراف والإفراط في المبالغة، حيث قال: «ومن أهم ما يميز مديحه بالقياس إلى الجاهليين كثرة إسرافه فيه، ولا نقصد الإسراف في الوصف من حيث هي، وإنما نقصد الغلو فيها والإفراط، بحيث يعد مقدمة المبالغات العباسيين في مدائحهم. وقد يكون ذلك من أثر رغبته الشديدة في العطاء، وقد يكون من أثر الحضارات التي ألم بها في طوافه».
سؤال وجواب
١. كيف ساهم الأعشى في تحويل غرض المديح في الشعر الجاهلي؟
ساهم الأعشى في تحويل غرض المديح بشكل جذري، حيث نقله من كونه تعبيراً عن الشكر العفوي أو المكافأة الرمزية، كما كان سائداً عند العرب قديماً، إلى احتراف منظم ومصدر للتكسب المادي. فبينما كان النابغة الذبياني قد بدأ بمدح الملوك وقبول العطايا، جاء الأعشى ليجعل من الشعر، وتحديداً فن المدح عند الأعشى، متجراً يتنقل به بين الأمصار والبلدان، قاصداً الملوك والأمراء في الحيرة وحضرموت والشام وحتى بلاد العجم. لم يكن الأعشى يخفي هذا التوجه، بل كان يفتخر به في شعره ويعتبره دليلاً على علو مكانته وقيمة فنه، مما رسخ صورة الشاعر المحترف الذي يقدم خدمة فنية مقابل أجر مادي، وهو ما أحدث نقلة نوعية في مفهوم الشعر ووظيفة الشاعر في العصر الجاهلي.
٢. ما هي البنية المنهجية التي اتبعها الأعشى في قصائده المدحية؟
اتبع الأعشى في قصائده المدحية بنية منهجية واضحة المعالم، أصبحت بمثابة بصمة مميزة لفن المدح عند الأعشى. تبدأ هذه البنية عادةً بمقدمة غزلية أو خمرية، لا تهدف إلى التعبير عن الهوى بقدر ما تهدف إلى إظهار ترفع الشاعر عن الملذات التي تشغله عن السعي نحو الممدوحين العظماء. يلي ذلك وصف دقيق للرحلة الشاقة التي يقطعها الشاعر على ناقته القوية المتمرسة، حيث يشيد بصبرها وقدرتها على تجاوز الصحاري، وهو ما يرمز إلى جدية مسعاه وعظمة هدفه. وأخيراً، يصل الشاعر إلى الجزء الرئيسي من القصيدة، وهو المديح المباشر للممدوح، حيث ينيخ راحلته على بابه ويبدأ في تعداد مناقبه وإبراز صفاته التي استحق من أجلها عناء هذه الرحلة.
٣. ما هي أبرز الصفات التي ركز عليها المدح عند الأعشى في شخصية الملوك والأمراء؟
ركز المدح عند الأعشى على مجموعة من الصفات التي كانت تمثل النموذج المثالي للحاكم في العقلية الجاهلية، وقد برع في إبرازها بشكل يلبي طموح الممدوحين. من أبرز هذه الصفات:
- اليقظة والمسؤولية: حيث يصور الملك ساهراً على شؤون رعيته، لا يغمض له جفن هماً بتدبير أمور الحكم.
- القوة العسكرية والهيبة: يصف الأعشى الممدوح فارساً باسلاً، طويل نجاد السيف، يخلع عليه هالة من الرهبة تجعل الأعداء والناس يهابونه كما يُهاب الهلال في السماء.
- الكرم والسخاء: يربط المدح عند الأعشى بين قوة الممدوح وجوده، فيصوره كالسيل الجارف الذي يعم خيره الجميع، خاصة في أوقات الشدة والقحط.
- الحلم المقترن بالقدرة: يمجد الأعشى حلم الحاكم القادر على العقاب ولكنه يختار العفو، مما يضفي على قوته بعداً إنسانياً وأخلاقياً رفيعاً.
٤. كيف وظف الأعشى الصور الفنية المستمدة من الطبيعة والحرب لخدمة غرض المديح؟
وظف الأعشى الصور الفنية ببراعة فائقة لتعميق أثر المدح عند الأعشى، حيث استمدها من بيئته الصحراوية ومن ساحات الحرب. ففي تصوير الكرم، لم يكتف بالوصف المباشر، بل شبه عطاء الممدوح بالسيل المتدفق من نهر الفرات الذي يكاد يحطم السفن بقوته. وفي وصف الهيبة، صور الممدوح كأنه “حيّة سلع” قاتلة، أو كالهلال الذي يقف له الناس ركوداً وخشوعاً. أما في مجال الحرب، فقد ابتكر صورة فريدة حين جرد ممدوحه قيس بن معد يكرب من درعه، ليظهره بطلاً يقتحم المعارك بسيفه فقط، معتمداً على شجاعته وإيمانه بالقدر، بينما يترك الدروع لأعدائه الذين لا تغني عنهم شيئاً. هذه الصور جعلت المدح عند الأعشى أكثر حيوية وتأثيراً في النفس.
٥. ما الذي يميز تجربة المدح عند الأعشى عن معاصريه مثل النابغة الذبياني؟
تتميز تجربة المدح عند الأعشى عن معاصريه، ومنهم النابغة الذبياني، بعدة جوانب رئيسية. أولاً، الاحترافية المطلقة؛ فالأعشى جعل من الشعر تجارة منظمة لا تبور، بينما كان التكسب عند النابغة خطوة أولى أثارت بعض التحفظات في عصره. ثانياً، الدهاء الدبلوماسي؛ فقد نجح الأعشى في التنقل بين الملوك المتنافسين، كالمناذرة والغساسنة، ومدح كلاً منهم دون أن يثير حفيظة الآخر، وهو أمر أخفق فيه النابغة أحياناً. ثالثاً، التنوع الجغرافي الواسع؛ حيث امتدت رحلات الأعشى لتشمل أقاليم بعيدة مثل عُمان وفارس واليمن، مما أكسب المدح عند الأعشى طابعاً عالمياً بمقاييس ذلك الزمان. وأخيراً، التأثير الاجتماعي المباشر لشعره، كما يتضح في قصة المحلق التي تظهر كيف كان المدح عند الأعشى قادراً على تغيير مصير الأفراد العاديين.
٦. هل يمكن اعتبار المدح عند الأعشى شكلاً من أشكال الدبلوماسية في عصره؟
نعم، يمكن اعتبار المدح عند الأعشى شكلاً من أشكال الدبلوماسية الذكية والحكيمة. فالشاعر، بتنقله بين بلاطات الحكام المتنافسين، كان أشبه بسفير ثقافي يحمل رسائل المديح التي تعزز من مكانة الحاكم وتظهر قوته وكرمه. وقد تطلب منه هذا الدور فهماً عميقاً لطبيعة العلاقات السياسية بين تلك الممالك، وقدرة فائقة على الموازنة في قصائده، بحيث لا يتضمن مدحه لأحدهم تعريضاً بالآخر. كما يظهر الجانب الدبلوماسي في شعره حين يدعو إلى السلام ونبذ الضغائن، كما فعل في مدحه لسلامة ذي فائش، حيث بدا حكيماً يسعى إلى إصلاح ذات البين، مما جعله مقبولاً لدى جميع الأطراف وفتح له أبوابهم رغم خصوماتهم.
٧. ما هو الأثر الاجتماعي والاقتصادي الذي أحدثه شعر الأعشى؟
كان لشعر الأعشى، وخاصة المدح، أثر اجتماعي واقتصادي بالغ الأهمية. اقتصادياً، حول الأعشى الشعر إلى مصدر ثروة هائلة، حيث كان يتلقى العطايا الجزيلة من الملوك والأشراف، مما أرسى نموذج “الشاعر المحترف” الذي يعيش من فنه. أما اجتماعياً، فقد كان المدح عند الأعشى أداة فعالة قادرة على رفع مكانة الأفراد وتغيير مصائرهم. وأوضح مثال على ذلك هو قصة “المحلق”، الرجل الفقير الذي أصبح حديث الناس وتزوجت بناته من أشراف القوم وأثريائهم بعد أن خلده الأعشى في قصيدة مدح شهيرة في سوق عكاظ، مما يبرهن على أن شعر الأعشى كان بمثابة وسيلة إعلامية ذات تأثير مجتمعي واسع النطاق.
٨. ما هو الجدل الأكاديمي الدائر حول قصيدة الأعشى الدالية في مدح الرسول؟
يدور جدل أكاديمي حول صحة نسبة القصيدة الدالية، التي مطلعها “ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا”، إلى الأعشى. يرى فريق من الدارسين المحدثين أن القصيدة منحولة، مستندين في ذلك إلى وجود ضعف فني في بعض أبياتها وتأثر واضح بمعاني وألفاظ القرآن الكريم، وهو ما لا يتناسب مع أسلوب شاعر جاهلي كبير مثل الأعشى. في المقابل، يرى فريق آخر، ومنهم محقق ديوانه، أن نسبة القصيدة صحيحة، ويفسرون الضعف الملحوظ بأنه “ظاهرة عامة” عند الشعراء المخضرمين الذين واجهوا صعوبة في التكيف مع المعاني والأغراض الإسلامية الجديدة باستخدام قوالب وأساليب الصناعة الشعرية الجاهلية القديمة، مما يجعل المدح عند الأعشى في هذه القصيدة تجربة انتقالية.
٩. كيف كان الأعشى يكيف أسلوبه المدحي ليتناسب مع شخصية كل ممدوح؟
تتجلى براعة المدح عند الأعشى في قدرته الفائقة على تكييف أسلوبه ليتناسب مع أبرز خصال كل ممدوح على حدة، مما يجعل مديحه شخصياً ومؤثراً. فعندما يمدح بطلاً مقداماً مثل قيس بن معد يكرب، فإنه يركز على شجاعته الخارقة ويجرده من درعه ليظهر بأسه الفطري. وعندما يمدح حاكماً معروفاً بالحلم مثل إياس بن قبيصة، فإنه يبرز صفة العفو والتسامح لديه وقدرته على احتواء جهل السفهاء. وإن كان الممدوح ذا هيبة وسلطان كالأسود بن المنذر، صوره كالهلال الذي يخشاه الناس ويرجونه. هذا التخصيص في المدح يدل على فهم عميق لنفسية كل ممدوح وما يرضي غروره، وهو سر نجاح المدح عند الأعشى في الوصول إلى قلوبهم وخزائنهم.
١٠. ما هي أبرز الانتقادات التي وجهها النقاد المحدثون لأسلوب المدح عند الأعشى؟
وجه النقاد المحدثون، ومنهم الدكتور شوقي ضيف، انتقادات لأسلوب المدح عند الأعشى، تركزت بشكل أساسي على سمة الإسراف والمبالغة الشديدة. ويرى ضيف أن ما يميز مدح الأعشى عن غيره من الجاهليين هو “الغلو والإفراط” في وصف المناقب، لدرجة أنه يعتبره مقدمة للمبالغات التي ستظهر لاحقاً وبشكل واسع في الشعر العباسي. وقد أرجع هذا الإسراف إلى سببين محتملين: الأول هو رغبة الشاعر الشديدة في نيل العطاء الوفير، مما يدفعه إلى تضخيم صفات الممدوح، والثاني هو تأثره المحتمل بمظاهر البذخ والفخامة في الحضارات التي احتك بها خلال رحلاته الواسعة، مما انعكس على أسلوبه في المدح.




