لغويات

لغتنا العربية بين مطرقة الضياع وسندان الفقدان

بقلم: أبو بكر وسام عابد

في زمانٍ اكتظَّ بمتعلِّمِي اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ، وأصبحَتْ فيهِ اللُّغةُ الإنجليزيَّةُ مصباحَ كلِّ بيتٍ وقلمَ كلِّ متعلِّمٍ، ها نحنُ نعيشُ علاقةً معقَّدةً معَ لغتِنَا العربيَّةِ. أهملْنَاهَا مِنْ كلِّ الجوانبِ؛ فلا أصبحَتْ محكيَّةً أو مقروءةً أو مسموعةً أو حتَّى مكتوبةً، بلْ أضحَتْ مهروسةً بينَ تداخلاتِ الإنجليزيَّةِ المتعجرفةِ. فتارةً تجدُ شخصًا متخصِّصًا في اللُّغةِ العربيَّةِ يتحرَّجُ مِنَ التَّحدُّثِ بِهَا مُدَّعيًا تخلُّفَهَا في العصرِ الحاضرِ، وآخرَ يُدْرِجُ كلماتٍ تكادُ أنْ تسمعَهَا أوَّلَ مرَّةٍ في حياتِكَ مثلُ (الماتيريال والينوفيرسيتي) وإلخ، وغيرَهُمُ الكثيرَ الَّذينَ يجدونَ صعوبةً في نطقِ كلماتِهَا، فلا يعرفونَ نطقَ كلمةِ (صراحةً)، وينطقونَهَا بالسِّينَ خلالَ حديثِهِمْ، وآخرونَ يتمرَّدونَ على الفصحى قائلينَ إنَّ السيستم (أيِ النِّظامَ) لا يعملُ.

أذكرُ إحدى المرَّاتِ عندَمَا أبدى أحدُ نحْويِّي اللُّغةِ العربيَّةِ تضايقَهُ مِمَّنْ يعتذرونَ بلفظةِ (سوري) أو (إكس كيوز مي)،
(Sorry/ Excuse me) بعدَ صدمِهِمْ لشخصٍ ما بالخطأِ أوِ الخطأِ في حقِّهِمْ معلِّلًا ذلِكَ بقولِهِ: “في حياتِي كلِّهَا لمْ أسمعْ هذهِ العباراتِ إلَّا عندَمَا ظهرَتِ التِّكنولوجيا وأمسَتِ اللُّغةُ الإنجليزيَّةُ مِيْزَةً يتفاخرُ بِهَا النَّاسَ إلى حدِّ الجنونِ”. وأضافَ أيضًا: “إنَّ التَّكلُّمَ بهذهِ اللُّغاتِ لمْ يكنْ أبدًا نوعًا مِنَ التَّحضُّرِ بلْ هوَ تقليدٌ أعمَى يدلُّ على بلاهةِ الشَّخصِ وفراغِ عقلِهِ”. لكنَّهُ عَذَرَ العربَ الَّذينَ يعيشونَ في دولِ الغربِ ويتحدَّثونَ معَ عربٍ أمثالِهِمْ؛ بسببِ كونِ اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ لغةَ البلدِ نفسِهِ.

أمَّا إنْ تحدَّثْنَا عنِ المترجمينَ؛ فهُمْ يقعونَ اليومَ في خطأٍ كبيرٍ، وهوَ أنَّهُمْ يُهملونَ اللُّغةَ العربيَّةَ وقواعدَهَا وصرفَهَا وتراكيبَهَا ودلالاتِهَا… إلخ، وهذا يؤدِّي إلى ضعفِ جودةِ عملِهِمْ. يعني هذا أنَّ مِنَ الواجبِ أنْ يُلِمَّ المترجمُ مِنْ أو إلى اللُّغةِ العربيَّةِ؛ اللُّغةِ عينِهَا؛ حتَّى يتميَّزَ بينَ أقرانِهِ، فهوَ بهذا يجمعُ بينَ مِيْزَتَينِ رائعتينَ وهُمَا التَّرجمةُ والتَّدقيقُ. لا بدَّ أنْ يتساءلَ أحدُهُمْ عنْ أهميَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ أو أنْ يصفَ هذهِ الأهميَّةَ بالقليلةِ. نجيبُ عليهِ ببعضِ الأخطاءِ الواردةِ الَّتي يقعُ بِهَا المترجمونَ، ومنْهَا التَّالي:
أوَّلًا: ترجمةُ كلمةِ (alone) لوحدِي، فالصَّحيحُ عدمُ اقترانِهَا باللَّامِ.
ثانيًا: ترجمةُ كلمةِ (must) يتوجَّبُ، فالصَّحيحُ يجبُ.
ثالثًا: ترجمةُ كلمةِ (important) هامٌّ، فالصَّحيحُ مهمٌّ.
رابعًا: ترجمةُ تعبيرِ (I am all ears) كلِّي آذانٌ صاغيةٌ، فالصَّحيحُ: كلِّي آذانٌ مصغيةٌ.
خامسًا: ترجمةُ كلمةِ (years) سنينَ، وهيَ سنونَ وسنينَ حسبَ الرَّفعِ والنَّصبِ والجرِّ.

وهنا يقفُ المترجمُ ساكنًا ومدركًا قيمةَ اللُّغةِ العربيَّةِ، فإمَّا أنْ يدرسَهَا مِنَ الكتبِ أو يتَّبعَ أصحابَ اللُّغةِ الماهرينَ ويتعلَّمَ منهُمْ شيئًا فشيئًا، أو ربَّمَا يسألُ المترجمينَ الَّذينَ سبقوهُ في هذا المسيرِ.

ويقفُ السُّؤالُ هنا: “ماذا لو كانَ مترجمًا فوريًّا؟” حينَهَا سيصبحُ لزامًا عليهِ أنْ يكونَ مُفوَّهًا وأهلًا للُّغةِ؛ فلا يرفعَ منصوبًا ولا ينصبَ مرفوعًا ولا يجرَّ منصوبًا وينتبهَ على أدقِّ التَّفاصيلِ، فيأخذَ حِذْرَهُ مِنَ الممنوعِ مِنَ الصَّرفِ، ويشدِّدَ على كلِّ ما استحقَّ التَّشديدَ، ويَفْصِلَ بينَ الجملِ بحكمةٍ وذكاءٍ، فيكونَ هكذا ذا قوَّةٍ وطلاقةٍ وتَمَكُّنٍ مِنْ لغتِهِ.

ما أذهلنِي مِنَ المواقفِ الَّتي حدثَتْ معي أنَّهُ ذاتَ مرَّةٍ كنْتُ في لقاءٍ معَ طالبٍ فلسطينيٍّ لَهُ أكثرُ مِنْ عشرِ سنينَ في الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّةِ، وطلبَ منِّي حينَهَا عدمَ التَّكلُّمِ بالإنجليزيَّةَ؛ لأنَّهُ قدْ ملَّهَا تمامًا ويحنُّ إلى العربيَّةِ. فأجبْتُهُ: “ولمَ لا؟ فلنتحدَّثِ العربيَّةَ”.

وماذا عنْ معلِّمِ لغةٍ عربيَّةٍ وبَّخَ طالبَهَ لتحدُّثِهِ وتفاخرِهِ بلغتِهِ الإنجليزيَّةِ أمامَ زملائِهِ؟ يا لَهُ مِنْ معلِّمٍ غيورٍ على لغتِهِ!

وفي نهايةِ الأمرِ، مصادرُ تعلُّمِ اللُّغةِ العربيَّةِ مليئةٌ في الشَّبكةِ العنكبوتيَّةِ، وأهلُ اللُّغةِ العربيَّةِ موجودونَ في كلِّ مكانٍ. فلا عذرَ أبدًا لمَنْ يجهلُ لغتَهُ لحدِّ هذهِ اللَّحظةِ، وعليهِ أنْ يعيَ هذهِ المصيبةَ في حقِّ نفسِهِ، أقلُّ القليلِ أنْ يكونَ عالمًا بأساسيَّاتِ لغتِهِ؛ فلا يرفعَ مفعولًا ولا ينوِّنَ ممنوعًا مِنَ الصَّرفِ. وإنْ وصلَ بِهِ المطافُ إلى أنْ يخوضَ حوارًا بالفصحى، فليبادرْ ويتكلَّمْ كقائدِ جيشٍ كبيرٍ. حريٌّ بِنَا أنْ نصادقَ لغتَنَا ونكونَ لَهَا عونًا لا ضدًّا، وأنْ نفخرَ بِهَا في كلِّ مكانٍ وزمانٍ. فمِنَ العارِ حقًّا أنْ نجدَ أجنبيًّا يتكلَّمُ العربيَّةَ أفضلَ مِنَّا، ومِنَ المؤسفِ أنْ يكونَ كلامُنَا بلغةٍ غيرِ العربيَّةِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ. لا تنسَوا أنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ لغةُ القرآنِ وأعظمُ لغةٍ على وجهِ كوكبِنَا، فَمَا أجملَهُمْ ماهري القرآنِ ذوي الألسنةِ الذَّهبيَّةِ! حَفِظَهُمُ اللَّهُ مِنْ كلِّ شرٍّ وسوءٍ، وجعلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ، ونسألُ اللَّهَ التَّوفيقَ في الدُّنيا والآخرةِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى