وصف الخمر عند الأعشى: تفرده وخصائصه الفنية

يُعَدُّ وصف الخمر عند الأعشى ميداناً شعرياً أبرز فيه تفرده عن سائر شعراء عصره. يستعرض هذا المقال الأبعاد الفنية والخصائص التي جعلت من خمرياته نموذجاً متكاملاً في الشعر الجاهلي.
مقدمة
يُعد وصف الخمر عند الأعشى علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي، إذ لم تكن الخمر في شعره مجرد لذة عابرة، بل تحولت إلى تجربة وجودية متكاملة لها طقوسها وأبعادها النفسية والاجتماعية. يستكشف هذا المقال بعمق كيف ارتقى الأعشى بهذا الغرض الشعري من مجرد ذكر عابر إلى فن متكامل الأركان، مؤسساً لمدرسة فنية تركت بصماتها على أجيال من الشعراء اللاحقين.
تفرد الأعشى في وصف الخمر مقارنة بشعراء عصره
لا يجد الباحث في أغراض المدح والفخر والهجاء عند الأعشى ما يميزه بشكل قاطع عن غيره من الشعراء، فقد كانت هذه الأغراض الشعرية بمعانيها وصورها الفنية شائعة ومتداولة بين شعراء العصر الجاهلي كافة. لكن الغرض الذي تفرد به الأعشى وتفوق فيه على سواه هو وصف الخمر.
لا يعني هذا أن الشعراء الجاهليين لم يتناولوا موضوع الخمر في أشعارهم، لكنهم لم يمنحوها إلا قدراً يسيراً من اهتمامهم، إذ كانوا يتحدثون عنها في سياق مفاخرتهم بصفات الكرم والفتك والفتوة. يظهر ذلك جلياً في فعل طرفة بن العبد حين جعلها إحدى لذاته الثلاث الأساسية، وهي: شربة كميت، وامرأة غضة، وكرةً على العدو. كما كانوا يمزجون الغزل بصور الخمر، فيشبهون الرضاب بالشراب، وحالة الذهول التي تعتريهم عند فراق أحبتهم بالخمار الذي يذهب بعقل الشارب. ومن أشهر الشعراء الذين أشاروا إلى الخمر أو وصفوها في أشعارهم:
- حسان بن ثابت
- عدي بن زيد
- طرفة بن العبد
- علقمة بن عبدة
بيد أن هؤلاء الشعراء جميعاً لم يجعلوا الخمر لذتهم الأولى في الحياة، ولم يخلصوا لها الإخلاص الذي أظهره الأعشى، مما يطرح تساؤلاً جوهرياً: كيف تجلى وصف الخمر عند الأعشى؟ وما الذي يميز شعره عن شعر غيره في هذا الغرض تحديداً؟
رؤية النقاد القدماء لخصائص وصف الخمر عند الأعشى
أدرك النقاد القدماء تفوق الأعشى في هذا المجال فقالوا: “إنه أشعرهم إذا طرب”. والطرب الذي يقصدونه هنا ليس مجرد اهتزاز لصوت قينة تغني، أو ارتياحاً للحن يُعزف على آلة، ولا هو شهوة تثيرها جارية تتثنى بين الثياب الشفافة. إنما هو حالة شعورية مركبة، تتشكل من مجموعة مشاعر تحيكها هذه المغريات حول الشاعر، وتُفعّلها في أعصابه وعروقه أقداح الراح، فيشعر بنشوة غامرة، وتتفجر في كيانه أنباض عنيفة من نشاط محموم، يتجلى في حركاته وضحكاته وأفكاره وصوره. إنها لذة مستمدة مما يصاحب المعاقرة من مسامرة، ومما ينتشر في مجلس الشراب من رياحين نضرة، ومزاج ماجن، وضحك خليع، وغزل فاجر، ومداعبة وملاعبة، ولهو ولغو. يجري كل ذلك في حانات يديرها قوم صاغوا لعبادة الخمر طقوساً خاصة، لها قيمها التي تخالف الأعراف السائدة، وتهدف إلى إتاحة النشوة والشهوة لمن ينفق المال بغير حساب.
وإذا كانت نشوة السكر تمثل لذة عارضة تعتري الشاعر الجاهلي لساعة ثم يفيق فتنقضي، فهي عند الأعشى لذة دائمة لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد. إن عكوفه الطويل على معاقرتها قد حوّل الصبوة المتقلبة إلى إدمان دائم، وغدت الصلة التي بدأت بخيوط واهية شبكةً اعتقلت الشاعر اعتقالاً تاماً، لم يتمكن من الإفلات منه طوال حياته التي امتدت مائة عام، وهذا العمق النفسي هو ما يمنح وصف الخمر عند الأعشى أبعاده الفريدة.
طقوس الإعداد لجلسة الشراب في شعر الأعشى
يبدأ وصف الخمر عند الأعشى بالتهيؤ لها مع من يختار من خلصائه وأصفيائه، وأحبهم إليه هو الشاب الوسيم القسيم الذي يدير ظهره لتبعات الحياة، ويصم أذنيه عن العتاب، وينفق ماله في سبيل الخمر، ولا يستتر من لذة. بل يأتيه في الليل ويضرب له موعداً للخروج معاً عند انصراف الظلام وبزوغ الفجر.
وَمُسْتَدير بالذِي عِنْدَهُ *** على العَاذِلات وإرشادها
وَابْيَضَ مختلطٍ بالكِرا *** م لا يَتَغَطَّى لإنْفَادِها
أتاني يُؤامِرُني في الشُّمو *** لِ ليلاً فَقُلْتُ لَهُ غَادِها
ثم ينتقي من الأمكنة والأزمنة ما يراه أكثر ملاءمة للشراب. فأفضل الأماكن التي يصلح فيها الشراب هي الريف الوارف الظلال، البعيد عن أعين اللائمين، والذي يصلح للإقامة الطويلة. يتجلى هذا الاختيار في وصف الخمر عند الأعشى بقوله:
وَاشْرَبُ بالريف حَتَّى يُقا *** ل قد طال بالريف ماقد دجن
وأجمل بقاع الريف هي شواطئ نهر الفرات، المحاطة بالرياض والغياض، حيث يكتمل المشهد الذي يرسمه وصف الخمر عند الأعشى:
وَرَدْتُ عَلَيْها الريف حتى شربتها *** بماء الفراتِ حَوْلَنا قَصَبَاتُها
أما أفضل الأزمنة فهو وقت السحر، بين آخر الليل وأول النهار. فقبل أن يؤذن الديك، ينهض الأعشى ويمضي إلى الخمار الضنين بدنانه.
فَقُمْنَا وَلَا يَصِحُ دِيكُنا *** إلى جَوْنَةٍ عِنْدَ حَدَّادها
وليست ساعات النهار متساوية عند شارب الخمر؛ ففيها البهيج الأثير، وفيها المزعج البغيض. ولذلك، كانت نفس الأعشى تتقلب بين الانبساط والانقباض، فهو عند المساء منشرح الصدر، فياض البشر، طافح بالنشوة، كريم مسرف، لا يحبس ماله عن شراء الخمر. وهو عند الصباح منقبض ومكتئب، تعتريه هموم لا تفارقه. هذا البعد النفسي يعزز من واقعية وصف الخمر عند الأعشى.
لَنَا مِنْ ضُحَاهَا خبثُ نَفْسٍ وَكَأبَةً *** وذكرى هُمُوم مَا تَغِبُ أَذَاتُها
وعِندَ العَشِي طيب نفس ولذّة *** وَمَالٌ كَثيرٌ عُدْوَةً نَشَوَاتُها
المساومة في الحانوت وشراء الخمر
وإذا بلغ الأعشى الحانوت، وأرسل بصره في الزقاق، يبدأ بمماكسة الخمار، ثم يدفع إليه ناقة بيضاء ثمناً للخمر. لكن العلج – وقد أدرك شدة تعلق الشاعر بالخمر – يغالي في الثمن، ويطلب من الأعشى زيادة تسعة دراهم من الدراهم الجياد. ثم يأمر الخمار المشغول بفحص الدراهم وعدها بأن يعجل له بالراح والأقداح. هذا المشهد الحواري هو من أبرز تقنيات وصف الخمر عند الأعشى.
فقلنا له هذه هاتها *** بأدمَاءَ فِي حَبْلِ مُقْتَادِها
فقال: تَزيدُونَنِي تِسْعَةً *** وليسَتْ بِعَدَّلَ لِأَنْدَادِها
دراهمنا كلها جيِّد *** فلا تحبسنَّا بِتَنْقَادِها
التصوير الحسي في وصف الخمر عند الأعشى
متى وُضع الخوان، وجيء بالبقول والنقول، ودارت الأقداح، سحرت الخمر بحمرتها القانية بصر الشاعر، فأغار عليها بعد أن طال إهمالها في دنها. وكيف يزهد فيها وهي بتلك الصورة الساحرة الباهرة، فأعلاها أحمر قانٍ، وأدناها يميل إلى السواد، وفيها من الحرارة المتوقدة ما يكفي لتمزيق الزق الذي يحتويها. هذا التصوير اللوني الدقيق هو من ركائز وصف الخمر عند الأعشى.
وكأس كماء النَّيِّ باكَرْتُ حَدّها *** بغرتها إذ غابَ عَنِي بُغَاتُها
كُمَيْت عَلَيْها حَرَةً فوقَ كُمْتَةٍ *** يَكادُ يُفرّي المَسْكَ مِنْها حَماتُها
فإن دنت الكأس من فمه ومرّ شميمها في أنفه، تضاعفت لذة الشاعر، وطفق يشربها بجوارحه كلها؛ يشرب حمرتها ولمعانها بالعين، ولذعتها وحرارتها بالفم، ورائحتها العطرة بالأنف، وقرقرتها المتكررة بالأذن. بذلك، يصبح وصف الخمر عند الأعشى تجربة حسية متكاملة تستهدف جميع الحواس.
فَبِتُّ كَأنَيِّ شَارِبٌ بَعْدَ هَجْعَةٍ *** سَخَامِيَّةً حَمراءَ تُحْسَبُ عَنْدَمَا
إذا بُزِلتْ مِنْ دَنِّها فَاحَ رِيحُها *** وَقَدْ أُخْرِجَتْ مِنْ أَسْوَدِ الخَوْفِ أَدْهَمَا
شخصيات مجلس الشراب في خمريات الأعشى
لم يغفل الشاعر في سياق وصف الخمر عند الأعشى عن ذكر الساقي والندمان. وكيف له أن يغفل عمن يحمل إليه شقيقة روحه، أو عمن يشاركونه السمر في مجلس الشراب. فأما الساقي، فهو غلام مخنّث مرعث، قد زين أذنيه باللؤلؤ، ويمضي يرفل بين الشاربين بخطوات رشيقة ولفتات مغناج. وأما الندمان، فهم كوكبة من الظرفاء الذين طهروا قلوبهم من الحقد، وأقروا للأعشى بالزعامة والإمامة في مجلسهم. إن وجود هذه الشخصيات يضفي بعداً مسرحياً على وصف الخمر عند الأعشى.
يطوف بها سَاقٍ عَلَيْنَا مُتَّوم *** خفيف ذَفِيفٌ مَا يَزالُ مُقَدِّما
وفتيانُ صِدْقٍ لاضغائنَ بَيْنَهُمْ *** وَقَدْ جَعَلُونِي فَيسَحَاها مكرَّماً
أجواء مجلس الطرب ومكوناته
لمجلس الشراب موضع بارز في شعر الأعشى، فالشاعر لم ينسَ الرياحين وآلات الطرب، بل قام بتعدادها بأسمائها العربية والأعجمية، مباهياً بها وبالعيد الفارسي الذي يحتفل به مع ندمائه من هواة العزف والقصف. هذا الاهتمام بتفاصيل الأجواء المحيطة هو ما يجعل وصف الخمر عند الأعشى لوحة فنية غنية بالتفاصيل.
لنا جَلْسَانُ عِنْدَهَا وَبَنَفْسَجُ *** وسيسنبر والمرزجوش منمنما
وآسٌ وَخِيرِيٌّ وَمَرْوَ وَسَوْسَنُ *** إذا كانَ هِنزَمَن وَرَحْتُ مخشّما
ومُستُقُ سينينٍ وَوَنٌّ ويربطٌ *** يجاوبهُ صنجٌ إذا ما ترنّما
تحليل أثر الخمر الجسدي والنفسي
بعد أن يفرغ الشاعر من تجرع الخمر، وتنتقل به حالته من الانتشاء إلى الانطفاء، يشرع في تحليل أثر الخمر في جسده ونفسه، وفي أجساد الندمان ونفوسهم. بل إن النشوة لتعتريه حتى قبل أن يذوق الخمر، فبمجرد أن يشم رائحتها، تسري في عروقه قشعريرة تخدر الجسد وتريح العصب، وتحرمه القدرة على الوقوف، إذ تصاب مفاصله بضعف وتخلع، وعظامه بوهن وتضعضع، ورأسه بخشية ودوار. إن هذا التحليل الفسيولوجي الدقيق هو سمة مميزة في وصف الخمر عند الأعشى.
فَطَوْراً تميلُ بنا مُرَّةً *** وطوراً نعالج إمرارها
تكاد تنشّي ولمّا تُذقْ *** وتغشي المفاصل إفتارها
تدبُّ لها فترةٌ في العظام *** وتغشي الذؤابةَ فوّارها
البعد شبه التقديسي في وصف الخمر عند الأعشى
لما كان للخمر هذا التأثير العميق في نفس الشاعر، فقد أحبها أعمق الحب وأكبرها أعظم إكبار، ونظر إليها نظرة العابد إلى معبوده. فمتى فض الخمار ختم الدن، وسال لسان الخمر الأحمر من دنها الأسود، وسطعت رائحتها العطرة، وقف الشاعر إلى جانب الخمار الذي يزهو بكنزه ويحرسه ويباركه أو يتبارك به، ويزمزم حوله كما يزمزم المجوس حول النار المقدسة. فالشاعر والخمار كلاهما مفتون ومزهو بما يصنع. هذه النظرة شبه التقديسية تعمق من تجربة وصف الخمر عند الأعشى.
إذا بُزلَتْ مِنْ دَنِّها فَاحَ رِيحها *** وقد أخْرِجَتْ مِنْ أَسْوَدِ الجَوْفِ أَدْهَمَا
لها حارس ما يبرح الدَّهْرَ بَيْنتها *** إذا ذُبِحَتْ صَلَى عَلَيْهَا، وَزَمْزَمَا
السمات الفنية الأساسية في وصف الخمر عند الأعشى
لعلك تبينت أن تعلق الأعشى بالخمر يعادل تعلقه بالمرأة أو يفوقه، لأنه تعلق بالمرأة لفترة من عمره، بينما تعلق بالخمر العمر كله. كان عشقه للنساء يفتر مع انتقال الشاعر من الشباب إلى الكهولة، بينما ظل عشقه للخمر يشتد ويتحول إلى إدمان لا فكاك منه، بل أصبح العشق الوحيد في شيخوخته. بناءً على ذلك، يمكن تلخيص السمات الجوهرية التي تحدد ملامح وصف الخمر عند الأعشى في النقاط الآتية:
١. الصدق وقوة المشاعر: يتسم وصف الخمر عند الأعشى بصدق التجربة وقوة العاطفة وقدرتها على التأثير وطغيانها على غيرها من العواطف.
٢. الواقعية والاستقصاء: تظهر الواقعية في الاهتمام بكل ما يتصل بالخمر من لون وطعم ورائحة، والآلات المستخدمة كالدنان والأقداح والأباريق، بالإضافة إلى العناية الفائقة بتصوير مجالس الخمر وما يرافقها من أزهار ورياحين ومعازف وصنوج ودفوف، وتسمية هذه الأشياء بأسمائها العربية والأعجمية.
٣. العرض القصصي: يتخذ وصف الخمر عند الأعشى غالباً شكلاً قصصياً يروي أخبار الشاعر في حالات سكره ومجونه.
٤. الحوار الدرامي: يحول الحوار القصة من مجرد خبر من الماضي إلى مسرحية حية، بما تحتويه من مكاس وجدال وسمر ولغو وتخنث ورفث.
وقد توسع الشعراء المتأخرون في خمرياتهم بهذه السمات، حتى غدا شعرهم مطبوعاً بطابع الأعشى، مثل الأخطل وأبي نواس، وكأن الأعشى هو مؤسس مدرسة فنية متكاملة، بدأت به، واكتملت معالمها عند أبي نواس، مما يؤكد على أصالة وأثر وصف الخمر عند الأعشى.
خاتمة
في الختام، يثبت وصف الخمر عند الأعشى أنه لم يكن مجرد غرض شعري، بل كان مرآة عاكسة لتجربة إنسانية فريدة، صاغها الشاعر بصدق فني وواقعية مدهشة. لقد نجح أبو بصير في أن يؤسس مدرسة شعرية متكاملة، محولاً الخمر من رمز عابر إلى بطل قصصي، ومانحاً إياها أبعاداً نفسية واجتماعية وطقوسية، الأمر الذي ضمن لخمرياته الخلود والتأثير، وجعله بحق “أشعر الشعراء إذا طرب”.
الأسئلة الشائعة
١. ما الذي يميز وصف الخمر عند الأعشى عن غيره من شعراء العصر الجاهلي؟
يكمن التميز الأساسي في أن الأعشى جعل من وصف الخمر غرضاً شعرياً مستقلاً وقائماً بذاته، بينما تناوله معظم شعراء العصر الجاهلي بشكل عابر ضمن أغراض أخرى كالفخر بالكرم أو الغزل. لم تكن الخمر بالنسبة إليهم سوى لذة من اللذات، أما عند الأعشى فقد تحولت إلى تجربة مركزية في حياته وشعره، حيث أخلص لها إخلاصاً تاماً وجعلها محوراً تدور حوله تفاصيل حياته اليومية ونفسيته المتقلبة. لقد تجاوز الأعشى الوصف السطحي إلى تحليل عميق لأثرها النفسي والجسدي، ووثّق طقوسها بدءاً من السعي إليها، مروراً بالمساومة في الحانوت، وانتهاءً بأجواء مجلس الشراب وتفاصيله الدقيقة، وهو ما لم يفعله شاعر جاهلي آخر بهذا الشمول والعمق.
٢. كيف أثرت علاقة الأعشى الشخصية بالخمر على صدق تجربته الشعرية؟
تتجلى علاقة الأعشى الشخصية بالخمر في الصدق الفني العميق الذي تتسم به خمرياته. لم تكن علاقته بالخمر مجرد صبوة متقلبة، بل تطورت إلى حالة من الإدمان الدائم الذي سيطر على حياته الطويلة. هذا التعلق الوجودي انعكس في شعره على هيئة تجربة حية ومعاشة، لا مجرد تخيل فني. فالقارئ يلمس صدق مشاعره في وصف حالات الانتشاء والانطفاء، وفي تصوير تقلباته النفسية بين انشراح المساء واكتئاب الصباح. لقد حوّل الأعشى معاناته ولذته الشخصية إلى مادة فنية غنية بالتفاصيل الواقعية، مما منح وصف الخمر عند الأعشى قوة تأثيرية فريدة وقدرة على نقل التجربة الإنسانية بمرارتها وحلاوتها.
٣. ما هي أبرز السمات الفنية التي استخدمها الأعشى في خمرياته؟
اعتمد الأعشى على أربع سمات فنية رئيسية جعلت من خمرياته نموذجاً متفرداً. أولاها، الواقعية والاستقصاء، حيث اهتم بأدق التفاصيل المتعلقة بالخمر من لونها وطعمها ورائحتها، وصولاً إلى أسماء الرياحين والآلات الموسيقية العربية والأعجمية. ثانيتها، العرض القصصي، فقد صاغ تجاربه مع الخمر في قالب حكائي متسلسل، له بداية ووسط ونهاية، مما يشد القارئ ويجعله متابعاً للأحداث. ثالثتها، توظيف الحوار، الذي حول المشاهد من مجرد سرد إلى مسرحية حية تنبض بالحياة، كما في حواره مع الخمار. ورابعتها، الصدق وقوة العاطفة، حيث كانت مشاعره تجاه الخمر نابعة من تجربة ذاتية عميقة، مما أضفى على شعره تأثيراً وجدانياً قوياً.
٤. هل يمكن اعتبار الأعشى مؤسس “شعر الخمريات” في الأدب العربي؟
على الرغم من أن شعراء جاهليين آخرين ذكروا الخمر قبله، إلا أنه يمكن اعتبار الأعشى المؤسس الفعلي لمدرسة الخمريات كغرض شعري فني متكامل له سماته وقواعده. فهو أول من أفرد للخمر قصائد شبه مستقلة، وأول من جعلها محوراً لتجربة شعرية غنية بالتفاصيل النفسية والاجتماعية والقصصية. لقد وضع الأعشى الأسس التي سار عليها شعراء الخمريات من بعده، مثل الأخطل وأبي نواس، الذين طوروا هذا الفن لكنهم ظلوا مدينين له بالريادة. لذا، فإنه ليس مجرد واصف للخمر، بل هو المنظّر الأول لهذا الفن، الذي تحول على يديه من لمحات متناثرة إلى تيار شعري مؤثر.
٥. كيف وظف الأعشى الحواس الخمس في وصف الخمر؟
برع الأعشى في تحويل تجربة شرب الخمر إلى وليمة حسية متكاملة، حيث وظف الحواس الخمس ببراعة فائقة. فمن خلال حاسة البصر، يصف لونها الأحمر القاني ولمعانها في الكأس. ومن خلال حاسة الشم، يصور رائحتها الفواحة التي تسري في الأنوف قبل أن تُذاق. أما حاسة الذوق، فتتجلى في وصف لذعتها وحرارتها في الفم. ولم يغفل حاسة السمع، حيث يصف قرقرة الخمر عند صبها. وأخيراً، حاسة اللمس، التي تظهر في وصف أثرها على الجسد، من قشعريرة تسري في العظام إلى فتور يغشى المفاصل. هذا التوظيف الحسي الشامل يجعل وصف الخمر عند الأعشى تجربة حية وملموسة للقارئ.
٦. ما دلالة إدخال شخصيات مثل الساقي والندمان في شعر الأعشى الخمري؟
إن إدخال شخصيات الساقي والندمان لم يكن مجرد حشو لإكمال الصورة، بل كان له دلالات فنية واجتماعية عميقة. فالساقي “المخنث المرعث” يمثل عنصراً من عناصر الإغواء والفتنة التي تكتمل بها لذة المجلس، وهو يضفي على المشهد بعداً مسرحياً وحركياً. أما الندمان “فتيان الصدق”، فهم يمثلون الجانب الاجتماعي للتجربة، حيث لا تكتمل لذة الشرب إلا بوجود الصحبة المخلصة التي تشارك الشاعر طقوسه وتؤكد زعامته. هذه الشخصيات تحول مجلس الخمر من مجرد فعل فردي إلى حدث اجتماعي له أبطاله وأدواره، مما يثري البنية القصصية التي اعتمدها الأعشى.
٧. لماذا يميل الأعشى إلى استخدام لغة شبه مقدسة في وصف علاقته بالخمر؟
إن استخدام الأعشى للغة ذات طابع شبه مقدس، كما في وصف الخمار الذي “يصلي ويزمزم” حول دن الخمر، يحمل دلالة رمزية عميقة. فهذا التصوير يرفع الخمر من مجرد مشروب مادي إلى مرتبة المعبود الذي تُقام له الطقوس. يعكس هذا التوجه مدى تعلق الشاعر الوجودي بالخمر، فهي ليست مجرد مصدر للذة العابرة، بل هي ملاذه الذي يهرب إليه من هموم الواقع، وقيمه التي تخالف قيم المجتمع السائدة. هذه “العبادة” للخمر هي تمرد على الأعراف، وتأكيد على أن الشاعر قد وجد في عالمه الخاص (عالم الخمر) الخلاص والنشوة التي لم يجدها في العالم الخارجي.
٨. ما هو الأثر الذي تركه وصف الخمر عند الأعشى في الشعراء اللاحقين كأبي نواس؟
يعتبر الأعشى الأب الروحي لشعراء الخمريات في العصور اللاحقة، وعلى رأسهم أبو نواس. لقد ورث أبو نواس عن الأعشى الأسس الفنية الكبرى لهذا الغرض: البناء القصصي، توظيف الحوار، الاهتمام بالواقعية والتفاصيل الدقيقة لمجالس الشراب، والصدق في التعبير عن التجربة الذاتية. يمكن القول إن أبا نواس قد أخذ مدرسة الأعشى الفنية ونقلها إلى بيئة حضرية جديدة في العصر العباسي، فطورها وأضاف إليها أبعاداً فلسفية ومجونية أكثر جرأة، لكنه ظل يسير على الخطى التي رسمها الأعشى، مما يؤكد أن وصف الخمر عند الأعشى كان بمثابة النبع الأول الذي استقى منه اللاحقون.
٩. ما أهمية اختيار الأمكنة والأزمنة في خمريات الأعشى؟
يلعب اختيار المكان والزمان دوراً محورياً في بناء الجو العام لخمريات الأعشى. فاختياره للريف وشواطئ الفرات كمكان مثالي للشرب يهدف إلى الابتعاد عن رقابة المجتمع ولائميه، وإلى خلق بيئة منسجمة مع الطبيعة تتيح له الاستغراق في لذته دون منغصات. أما اختياره لوقت السحر (بين آخر الليل وأول النهار) فهو زمن رمزي، يمثل الانتقال من الظلمة إلى النور، وهو وقت الصفاء والهدوء الذي يسمح بتجربة خالصة. هذه الاختيارات الدقيقة ليست عشوائية، بل هي جزء لا يتجزأ من الطقس الذي يصنعه الشاعر لنفسه، وتساهم في جعل وصف الخمر عند الأعشى تجربة متكاملة الأبعاد.
١٠. هل يعكس شعر الأعشى الخمري حقيقة اجتماعية عن استهلاك الخمر في الجاهلية؟
نعم، يعكس شعر الأعشى الخمري جوانب هامة من الواقع الاجتماعي المتعلق باستهلاك الخمر في العصر الجاهلي، وإن كان من خلال تجربة ذاتية متطرفة. فهو يقدم لنا صورة حية عن وجود الحانات التي يديرها “الأعلاج”، وعن أنواع الخمر المتداولة، وعمليات المقايضة والمساومة لشرائها (ناقة مقابل خمر). كما يصور أجواء مجالس الشراب وما يصاحبها من طرب وموسيقى ورياحين، وهي تفاصيل تقدم لمحات عن ثقافة اللهو والترف لدى فئة من المجتمع آنذاك. رغم أن إدمان الأعشى كان حالة فردية، إلا أن شعره يعد وثيقة تاريخية-أدبية قيمة تصور بعض ملامح الحياة الاجتماعية والثقافية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.