البلاغة

ما الفرق بين الاستعارة والكناية: كيف نميز بينهما في البلاغة العربية؟

هل كل تعبير مجازي استعارة؟ وما الذي يجعل الكناية فريدة في أسلوبها؟

تزخر اللغة العربية بأساليب بلاغية تمنح الكلام عمقاً وجمالاً فريداً. ومن أبرز هذه الأساليب الاستعارة والكناية، اللتان يخلط بينهما الكثيرون على الرغم من الاختلاف الجوهري بينهما.

ما هو جوهر الفرق بين الاستعارة والكناية؟

يقع كثير من الطلاب والمبتدئين في دراسة البلاغة في حيرة عند محاولة التمييز بين فنين من أروع فنون علم البيان، وهما الاستعارة والكناية. إن جوهر الفرق بين الاستعارة والكناية يكمن في طبيعة العلاقة بين المعنى المذكور والمعنى المراد، وفي إمكانية إرادة المعنى الحقيقي للفظ؛ إذ إن فهم هذه النقطة المحورية يفتح الباب واسعاً لاستيعاب كل أسلوب على حدة وتقدير جماله الخاص.

فقد بُنيت الاستعارة على علاقة المشابهة، فهي في أصلها تشبيه حُذف أحد طرفيه، ولا يمكن أبداً أن يكون المعنى الحرفي للكلمة مقصوداً. بالمقابل، تقوم الكناية على علاقة اللزوم أو الارتباط بين المعنيين، مع جواز إرادة المعنى الحقيقي، وهذا ما يمنحها عمقاً وإيحاءً مميزاً. وعليه فإن توضيح الفرق بين الاستعارة والكناية ليس مجرد مسألة أكاديمية، بل هو مفتاح لفهم أسرار البيان العربي.

ما هي الاستعارة وكيف تعمل في اللغة؟

الاستعارة (Metaphor) هي استخدام اللفظ في غير معناه الأصلي لوجود علاقة مشابهة بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد، وهي تُعَدُّ مجازاً لغوياً. بعبارة أبسط، هي تشبيه بليغ حُذف أحد ركنيه الأساسيين (المشبه أو المشبه به)، والقرينة أو السياق هو ما يمنع إرادة المعنى الحقيقي. فهل سمعت بقول المتنبي وهو يصف دخول رسول الروم على سيف الدولة الحمداني: “وأقبل يمشي في البساط فما درى… إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي”؟

في هذا البيت الشعري البديع، لم يكن المتنبي يقصد أن سيف الدولة هو بحر حقيقي أو بدر مكتمل، فهذا غير ممكن عقلاً. لقد استعار لفظي “البحر” و”البدر” ليصف كرم سيف الدولة وعلو منزلته، والعلاقة هنا هي المشابهة؛ فالقائد يشبه البحر في عطائه والبدر في رفعته. إذاً، المعنى الحرفي مستحيل، والمقصود هو المعنى المجازي القائم على التشبيه، وهذا هو لب عمل الاستعارة.

ما هي أبرز أنواع الاستعارة؟

لفهم أعمق لآلية عمل الاستعارة، من المهم الإشارة إلى نوعيها الرئيسين، واللذين يوضحان كيف يتم حذف أحد طرفي التشبيه:

  • الاستعارة التصريحية: وهي التي يُصرّح فيها بلفظ المشبه به، ويُحذف المشبه. ومثالها قولنا “رأيت أسداً يحارب في المعركة”، إذ صرّحنا بالمشبه به (أسداً) وحذفنا المشبه (الجندي الشجاع)، والقرينة هي “يحارب في المعركة”.
  • الاستعارة المكنية: وهي التي يُحذف فيها المشبه به، ويُرمز له بشيء من لوازمه أو صفاته. ومثالها قوله تعالى: “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ”، فقد شُبّه الذل بطائر له جناح، ثم حُذف المشبه به (الطائر) وأُبقي على شيء من لوازمه وهو (الجناح).

ما هي الكناية وكيف تختلف علاقتها بالمعنى؟

الكناية (Metonymy) هي لفظ يُطلق ويُراد به لازم معناه، مع جواز إرادة المعنى الأصلي. هذا يعني أن العلاقة هنا ليست المشابهة كما في الاستعارة، بل هي علاقة تلازم وارتباط. على النقيض من ذلك، فإن السامع في الكناية يمكنه أن يفهم المعنى الحرفي ويكون صحيحاً، لكن المتكلم يهدف إلى معنى أبعد مرتبط به. فما هو المثال الذي يوضح ذلك؟ انظر إلى قول الخنساء في وصف أخيها صخر: “طويلُ النِّجادِ”.

النجاد هو حزام السيف، والمعنى الحرفي للجملة هو أن حزام سيفه طويل، وهذا معنى ممكن وغير مستحيل. ولكن، ما الذي أرادت الخنساء أن تصل إليه؟ إنها تهدف إلى لازم هذا المعنى، فطول حزام السيف يستلزم طول قامة صاحبه، إذاً هي تصفه بأنه طويل القامة وشجاع. هذا الانتقال من المعنى المذكور إلى المعنى الملازم له هو جوهر الكناية، وهذا ما يوضح جانباً مهماً من الفرق بين الاستعارة والكناية.

كيف يمكن تلخيص الفروق الجوهرية بينهما؟

بعد استعراض كل مفهوم على حدة، يمكننا الآن بلورة الفرق بين الاستعارة والكناية في نقاط محددة تسهل عملية التمييز النهائية لكل مهتم بالبلاغة العربية:

  • طبيعة العلاقة: في الاستعارة تكون العلاقة هي المشابهة حصراً، بينما في الكناية تكون العلاقة هي التلازم والارتباط.
  • إمكانية المعنى الحقيقي: في الاستعارة، يُعَدُّ المعنى الحقيقي غير مقصود ومستحيل في سياقه، والقرينة تمنع من إرادته. في الكناية، المعنى الحقيقي ممكن ومحتمل، والقرينة لا تمنع من إرادته.
  • القرينة (السياق): القرينة في الاستعارة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. بالمقابل، القرينة في الكناية غير مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
اقرأ أيضاً:  البلاغة العربية: فنونها وأسرارها

في الختام، يتضح أن فهم الفرق بين الاستعارة والكناية ليس مجرد تفصيل دقيق، بل هو أساس لتقدير الإبداع اللغوي في أبهى صوره، سواء في القرآن الكريم، أو الشعر العربي، أو حتى في كلامنا اليومي. فبينما تأخذنا الاستعارة في رحلة خيالية قائمة على المشابهة، تومئ لنا الكناية بمعنى عميق وملازم للمعنى الظاهر، وكلاهما شاهد على عبقرية اللغة العربية وقدرتها الفائقة على التعبير.

والآن، بعد أن اتضحت لك الرؤية، هل يمكنك تحديد أمثلة أخرى من الشعر أو حتى من حديثك اليومي تجسد الفرق بين الاستعارة والكناية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى