الأعشى: حياته، وديوانه، ومنزلته الشعرية، وخصائصه الفنية

حين يُطلق لقب “صناجة العرب”، لا يتردد الصدى إلا باسم شاعر واحد استطاع أن يحوّل الكلمات إلى إيقاع يطرب له الملوك وتخشاه القبائل، وتتغنى به مجالس اللهو والصحاري على حد سواء. هو الأعشى ميمون بن قيس، الشخصية الجدلية التي جمعت بين حياة الترحال واللهو، وبين بلاغة القصور وقوة التأثير التي كادت أن تغير مجرى التاريخ. لم يكن الأعشى مجرد شاعر يتقن فن المديح والهجاء، بل كان ظاهرة ثقافية واجتماعية، وصوتاً فريداً عكس تحولات عصره المضطرب، ووقف على مفترق طرق بين الوثنية والإسلام. في هذا المقال الأكاديمي، نغوص في أعماق حياة الأعشى، ونحلل ديوانه ومعلقته الشهيرة، ونستعرض منزلته بين نقاد الأمس واليوم، ونكشف عن الخصائص الفنية التي جعلت من شعره لحناً خالداً في ذاكرة الأدب العربي.
حياة الأعشى
يُعرَّف الأعشى في اللغة بأنه الشخص الذي لا يبصر في الليل ويبصر في النهار. والملقبون بهذا اللقب كُثر، حيث بلغت عدتهم – كما أحصاهم الآمدي – سبعة عشر شاعراً قديماً بين جاهلي وإسلامي. ويميز الناس كل شاعر ملقب بـالأعشى من غيره من الأعشين بنسبته إلى قبيلته. إن أشهر من عرف بهذا اللقب هو الشاعر الكبير الأعشى قيس، واسمه ميمون بن قيس بن جندل، وكنيته أبو بصير، ولقبه «صناجة العرب». وكان يقال لأبيه قيس بن جندل “قتيل الجوع”، وقد سُمّي بذلك لأنه دخل غاراً يستظل فيه من الحرّ، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل فسدت فم الغار فمات فيه جوعاً. وأمه هي أخت المسيب بن علس من بني جماعة، ثم من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وعن المسيب أخذ الأعشى فن الشعر.
ينتمي الأعشى إلى بني قيس بن ثعلبة، وهم بطن من بطون بكر، كانوا يعيشون في وادٍ من أودية اليمامة يسمى وادي العرض. وفي هذا الوادي كثير من العيون، والغدران والنخيل والقرى. وفي قرية من هذه القرى اسمها (منفوحة) عاشت أسرة الأعشى عيشاً ينأى عن البداوة، ويقرب من الاستقرار.
غير أن الأعشى – وهو الشاعر البعيد المطامح – لم يكن يلزم قريته، بل كان كثير الترحل والتنقل بين أطراف الجزيرة العربية، وكان يختار النابهين من أشرافها وسادتها ويخصهم بمدائحه، ويصيب منهم الجوائز. ولما كانت الحيرة في ذلك العصر حاضرة من حواضر العرب، فيها دولة مستقرة، فقد يمّم الأعشى شطرها، وأقام فيها زمناً يمدح أمراءها وأشرافها كالأسود بن المنذر، وأخيه النعمان، وإياس بن قبيصة الطائي. وقصد نجران ومدح سادتها، ومنهم بنو عبد المدان بن الديان وهوذة بن علي سيد بني حنيفة. وتردّد على سوق عكاظ، ومدح من كان يلقى في هذه السوق من شيوخ العرب.
ويذكر الرواة أنه رحل إلى حضرموت وكندة واليمن، بل يذكرون أنه رحل إلى مدن الشام كحمص وبيت المقدس، ويسرفون في مزاعمهم إذ يزعمون أنه سافر إلى بلاد الفرس والأحباش. ويروون عنه أخباراً وأشعاراً لم يقطع الدكتور شوقي ضيف بصحتها، فقال: «وأكبر الظن أنه لم يصنع شيئاً من ذلك، وأنه إنما اقتصر في أسفاره ورحلاته على أطراف اليمن ونجد والحيرة».
وقد أفاد الشاعر الأعشى من أسفاره مالاً وتجارب وثقافة، لأنّ هذه الأسفار أبلغته أبواب الأمراء، فمدح وتكسب، ووصلته بمراكز الحضارة فرقّ شعره ولان، وأطلعته على أحداث زمانه، وأغنت ثقافته بأخبار الأولين. وظهرت آثار ثقافة الأعشى تلك في شعره، إذ ذكر في مواضع كثيرة من قصائده أخبار الفرس والروم وطسم وجديس وعاد وثمود. وهيأت له أسباب الاتصال بالحانات والأديرة فاطلع على النصرانية وأغنى شعر الأعشى بطائفة من أفكارها ورسومها.
ويبدو من أخبار الأعشى أنه لم يطب له العيش في أسرة يلزمها، ومع امرأة يتزوجها ويسكن إليها. فقد روي أنه تزوج امرأة، فلم يرضَ عشرتها فطلقها، أو أنه أجبر على طلاقها، فقال:
ياجارتي بيني، فَإِنَّكِ طالقة *** كذاك أمورُ النَّاسِ عَادٍ وَطارِقَة
وبعد انطلاقه من شرك الزواج أطلق لشهواته العنان ومضى يتنقل من قينة إلى قينة، ومن حانة إلى حانة يمدح الأمراء والأشراف ثم ينفق ما يصيبه منهم على لذاته. وربما كان لهذه الحياة العابثة الماجنة أثرها الكبير في تخوّفه من الانضواء تحت راية الإسلام الذي يحرم الزنا والميسر والخمر، ويعدّها من الكبائر.
جاء في الأغاني أن الأعشى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مدحه بقصيدته التي أولها:
ألم تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ أَرْمَدا *** وعادَكَ مَاعادَ المُسْلِيمَ المَسَهْدا
فبلغ خبره قريشاً، فرصدوه على طريقه وقالوا هذا صناجة العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال، ويحرمها عليك، وكلّها بك رافق ولك موافق. قال: وماهنّ؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وما تركته. ثم ماذا؟ قال: القمار. قال: لعلّي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار. ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال: أوّه أرجع إلى صُبابة قد بقيت لي في المهراس، فأشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا. فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفاً، وإن ظهر أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش هذا الأعشى، والله لئن أتى محمداً، واتبعه ليضرمنَّ عليكم نيران العرب بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل ففعلوا. فأخذها وانطلق إلى بلده. فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله.
من هذا الخبر عن الأعشى نستطيع أن نستنتج أموراً:
أولها: أن الأعشى كان ماجناً كلفاً بالخمر والقمار لا صبر له على تركهما، وأنه حين ظهر الإسلام كان راغباً فيه، لم يصرفه عنه إلا تعلّقه بشهواته، أو ما أبقى له الدهر من هذه الشهوات.
والثاني: أنه كان ذا منزلة وشهرة، وصاحب شعر سيّار في القبائل، إن مدح رفع، وإن هجا وضع، وإن أثار ثار الناس، ولذلك اشترى أبو سفيان سكوته بمائة ناقة.
والثالث: أنه كان وثنياً راضياً بوثنيته لا لما تنطوي عليه من قيم ومثل، بل لأنها تخلي بينه وبين لذائذه، ولا تلزمه فريضة تشقُ عليه.
وحينما ناقش الدكتور شوقي ضيف دين الأعشى قال: «وقد زعم لويس شيخو أنه كان نصرانياً، وشاركه هذا الزعم بعض المستشرقين مستدلين على ذلك بأنه كان يمدح أساقفة نجران ويتصل بالبيئات المسيحية في الحيرة». وبعد أن أنكر شوقي ضيف مسيحية الأعشى، قال: «كان الأعشى وثنياً غالياً في وثنيته، كما تدل على ذلك خلاله التي وصفناها في شعره. وأيضاً أقسامه الوثنية التي رواها نفس هذا الراوي المسيحي – يعني يونس بن متى راوية شعر الأعشى – إذ نراه يقسم بالكواكب والنجوم كما يقسم بالكعبة التي يحج إليها العرب، وبما يهدون إليها من القرابين في مثل قوله:
إنِّي لَعَمْرُ الذي خَطَّتْ مَنَاسِمُها *** تخدي وسِيقَ إِلَيْهِ البَاقِرُ الغُيُلُ
والحق أنه لم يكن نصرانياً، وإنما كان وثنياً على دين آبائه، وقد احتفظ بوثنيته بكل ما فيها من إثم وفجور.
ونحن – على أخذنا برأي شوقي ضيف – لا نقطع بأن الأعشى كان غالياً في وثنيته شديد التعصب لها. ودليلنا على ما نذهب إليه أنه لم يُعادِ الإسلام، ولم يكره النبي عليه السلام، بل لان قلبه له، وأوشك أن يسلم، لكن رؤوس الوثنية صرفوه، فاشترى الضلالة بالهدى وآثر الدنيا على الآخرة، ولم يصرفه عن الدين الجديد زهده فيه، بل طمعه في غيره، ولا تعلقه بمبادئ سامية كان يؤمن بها، بل خوفه من ألا يطيق المبادئ التي تنزع منه ما تعلق به وتقمع تماديه في الباطل الذي لزمه في حياته. وبعد وفاته ذكر صاحب الأغاني خبراً عن محمد بن إدريس قال: قبر الأعشى بمنفوحة وأنا رأيته، فإذا أراد الفتيان أن يشربوا خرجوا إلى قبره فشربوا عنده وصبوا عنده فضلات الأقداح. وكأني بأبي العلاء المعري قد أدرك حقيقة الأعشى، ولذلك أدخله الجنة في رسالة الغفران، وقال على لسانه: فأُدْخِلْتُ الجنة على ألا أشرب فيها خمراً، فقرت عيناي بذلك. وإن لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة لم يُسْقَها في الآخرة». ولم يكن أبو العلاء ـ وهو أعدى أعداء الخمر – ليدخل الأعشى الجنة لولم يجد في معتقده ميلاً إلى الإسلام، وإيماناً بالله، أو ببعض ما يدعو الله إلى الإيمان به على نحو ما. قال على لسان الأعشى: «وقد كنت أومن بالله وبالحساب، وأصدق البعث وأنا في الجاهلية الجهلاء».
آثار الأعشى: ديوانه ومعلقته
للشاعر الأعشى ديوان رواه يحيى بن متى، وشرحه نحويّ الكوفة ثعلب، ثم حظي في العصر الحديث بعناية الدارسين من عرب وأجانب. نشره المستشرق رودلف غاير سنة ١٩٢٧ – ١٩٢٨م بعد أن حققه بعنوان “الصبح المنير في شعر أبي بصير”، وضمّ إليه مجموعتين: الأولى (مجموعة باقيات أشعار الأعشين غير الشاعر الأعشى ميمون بن قيس) والثانية (مجموعة ما أنشد للمسيب بن علس)، وأتبعه بشروح وتعليقات وتصحيحات ومقابلات باللغة الألمانية.
ثم طبعه سنة ١٩٥٠م الدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربي بجامعة الاسكندرية طبعة جيدة، شرح فيها الأبيات، وقدّم للقصائد، وعرف الأعلام، وألحق بالديوان تسعة فهارس تعين القارئ على الانتفاع به وسماه (ديوان الأعشى الكبير). وعلى هذه الطبعة اعتمدنا في دراسة الشاعر.
القسم الأعظم من شعر الأعشى يقع في المدح والغزل والخمر، وأشهره المعلقة. وإذا كان طول القصيدة أهم خصائص المعلقات ففي ديوان الأعشى معلقات كثيرة لا معلقة واحدة. فيه تسع طوال يزيد عدد أبيات كلّ منها على ستين بيتاً، وأربع وعشرون يزيد عدد أبيات كلّ منها على أربعين. وبهذه الظاهرة تفرد الأعشى من شعراء العصر الجاهلي. قال ابن سلام: «وقال أصحاب الأعشى: هو أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة».
ومعلقة الأعشى ليست أطول قصائد الديوان، وإنما هي أوفاها حظاً من الجودة وأحفلها بالغزل والفخر، وأوثقها صلة بحياة الشاعر، ومطلعها:
وَدَعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ *** وَهَل تُطِيقُ وداعاً أَيُّها الرَّجُلُ
عدة أبيات القصيدة ستة وستون بيتاً، ثلاثة أخماسها في الغزل والخمر، وخمساها في الهجاء والفخر، وليس للأطلال منها كثير ولا قليل. بدأ الأعشى قصيدته بالغزل فتحدث عن تعلقه بصاحبته هريرة، فوصف مفاتنها، ومشيتها وزينتها ودلالها وترفها وغرقها في الطيب، وتعلقها بغيره، وتعلق غيرها به، ويقع هذا القسم في أكثر من عشرين بيتاً (١-٢١). ثم وصف في تسعة أبيات (٢٢-٣٠) السحاب والبرق والمطر واندفاع السيل، وعرض لذكر الناقة والفلاة في أربعة أبيات (٣١-٣٤)، أتبعها عشرة أبيات (٣٥-٤٤) في اللهو والمجون وصفة القيان والندمان. وفي القسم الأخير (٤٥-٦٦) مضى الأعشى يهدد يزيد بن مسهر الشيباني، ويفخر بقومه وبنفسه. وخاتمة القصيدة قوله:
قالوا : الرُّكُوبَ، فَقُلْنَا تِلْكَ عَادتنا *** أَوْ تَنزلُونَ، فَإِنَّا مَعْشَرَ نُزُلُ
منزلة الأعشى وخصائصه الفنية
اختلف القدماء في الأعشى، فمنهم من قدّمه واحتج لتقديمه، ومنهم من وقف على ما في شعره من هنات وندّد بها. ومن الذين قدموا الأعشى ابن سلام، إذ جعله واحداً من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، وأبو عبيدة الذي قال: «من قدّم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرفه في المديح والهجاء، وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره». ومنهم الشعبي الذي أعطاه قصب السبق في الغزل والتخنث والحماسة فقال: «الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت». فأما أغزل بيت فقوله:
غراء فرعاءُ مَصْقُول عَوارِضها *** تمشي الهوينى كما يَمْشِي الوجي الوَحِلُ
وأما أخنث بيت فقوله:
قَالَتْ هُرَيْرَةُ لما جِئْتُ زائِرَها *** وَيْلِي عَلَيْكَ، وَوَيْلِي مِنْكَ يَارَجُلُ
وأما أشجع بيت فقوله:
قالوا الطراد فَقُلْنَا تِلْكَ عادتنا *** أو تنزلون فإِنَّا مَعْشَر نُزُلُ
ومن الذين وقفوا على هناته ونقدوه الأصمعي الذي أنكر عليه الفحولة، وأحمد ابن طباطبا العلوي الذي نسب إليه الغثاثة، فقال: «من الأشعار الغثة الألفاظ الباردة المعاني المتكلفة النسج، القلقة القوافي المضادة للأشعار المختارة قول الأعشى:
بانت سعاد وأمسى حبلها انْقَطَعا *** واحتلت العمر فالحدين فالفرعا
لا تسلم منها خمسة أبيات».
ولم يغفل المعجبون بـالأعشى عن جوانب النقص في شعره، ومنهم محمد بن سلام الذي ساءه خلوّ شعره من النفائس، فقال: «لم يكن لـلأعشى بيت نادر على أفواه الناس مع كثرة شعره كأبيات أصحابه».
هذه الأقوال تلخص أهم آراء القدماء في شعر الأعشى، لكنها لمحات خاطفات لا تحلل ولا تعلل، ولا تقف الدارس على خصائصه الفنية. فما أهم هذه الخصائص؟
١ – السرد القصصي: من أهم الخصائص في شعر الأعشى السرد القصصي الذي ينتظم أفكاره وأغراضه، وهو نوعان: سرد قصصي حماسي يَردُ في مطولاته، وينطوي على أكثر ما شهد الشاعر في عصره من أحداث، وما وعت ذاكرته من أخبار الأولين، ويكثر فيه ذكر الملوك والقادة من عرب وأعاجم. وسرد غزلي حواري: يعرض فيه الأعشى ما دار بينه وبين صويحباته من أحاديث وأحداث، فيذكر كيف كان يدس الرسول الداهية إلى المتمنّعة، فيظلُّ يجادلها ويخاتلها حتى تسقط في شركه، وكيف كان يجوز إلى الحصان المحروسة أعين الرقباء من مسالك خفية مأمونة، وينقل إلينا ما يجري في خبائها من حوار فاجر. وربما كان هذا السرد – على قصره – منطلق عمر بن أبي ربيعة إلى قصصه المفصلة المطوّلة.
٢ – الاستعانة بالتشبيه والاستعارة: لهذه الظاهرة شيوع في الشعر الجاهلي كله، والقدر الأكبر من صور الأعشى خلو من الجدة والابتكار كتشبيه الهودج بالسفينة، والكريم بالسيل المتدفق، ووحشة الصحراء بعزيف الجنّ، وتشبيه الناقة ببنيان ضخم، وعين الناقة بالمرآة الصافية. غير أن طائفة من صوره لا تخلو من مسحة الإبداع كجعل الناقة التي تجوز الفلوات وتطوي الأكام حوتاً ضخماً يتجرع الأمواج:
وإذا حطت على العلاتِ تَجْتَرعُ الإكاما *** ماءَ الآجنِ من حَوْضِ الأَسْوَدِ ذي الثَّنَائِنِ
وتشبيه عنق الناقة المسرعة في الليل بسيف حاد يشق الأديم:
تَشقُ اللَّيْلَ والسَّبَراتِ عنها *** بِأَتْلَعَ سَاطِع يُشْرِي الزَّمَامَا
٣ – المسحة الحضرية والمبالغة: ذكر شوقي ضيف أن شعر الأعشى يفصح عن ذوق متحضر سواء في خطاب الأمراء والأشراف والخضوع لهم، أو في خطاب النساء والتذلل لهن، أو في اللعب بمهجويه والاستهزاء بهم والاستخفاف، أو في تصوير الخمر ومجالسها ودنانها وكؤوسها. وجعل المبالغة مظهراً من مظاهر المسحة الحضرية، وتمهيداً لمبالغات الشعراء في العصر العباسي فقال: «ولعلنا بعد ذلك لا نعجب إذا رأيناه يشبه العباسيين في مبالغاتهم»، كقوله:
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إِلَى نَحْرِها *** عاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إلى قَابِرِ
ونحن – على إقرارنا برأي شوقي ضيف – نعتقد أن المبالغات في شعر الأعشى قليلة، وليست ظاهرة عامة فيه، وإنما هي خروج على ظاهرة عامة، هي الصدق أو الواقعية التي أشرنا إليها في حديثنا عن وصف الخمر.
٤ – تفاوت الأسلوب: لا يسلك الأعشى مسلكاً واحداً في النظم، فهو في المدح والفخر ووصف البداوة يميل إلى الجزالة، وفي الغزل ووصف الخمر يؤثر الأسلوب اللين واللفظ الرقيق، ولا يأنف في الخمريات بخاصة من استخدام كثير من الألفاظ الأعاجم.
٥ – الأوزان والموسيقا: يعد الأعشى من أكثر الشعراء تنويعاً في استخدام الأوزان، فديوانه يشتمل على اثنتين وثمانين قصيدة موزعة على عشرة بحور. وقد أكثر من البحور القصيرة ولاسيما التي تظهر فيها الموسيقا الراقصة ظهوراً واضحاً كالمتقارب والوافر. وعلة ذلك أن الحضارة أرهفت حسّه، وصقلت ذوقه، ومالت به إلى الإيقاع الراقص، والنغمة اللعوب. وقد أدرك أرباب الغناء في عصر الأعشى هذه الخاصة في شعره، فغنوا كثيراً من مقطعاته، حتى لقب بـ «صناجة العرب».
السؤالات الشائعة
١ – لماذا لُقّب الشاعر بـ “الأعشى” وما هو اسمه الحقيقي؟
الإجابة: لُقّب الشاعر بـ “الأعشى” لأن هذه الكلمة في اللغة تصف الشخص الذي يضعف بصره ليلاً بينما يبصر نهاراً، وهو لقب حمله العديد من الشعراء القدماء. أما اسمه الحقيقي فهو ميمون بن قيس بن جندل، من بني قيس بن ثعلبة، وكنيته “أبو بصير”، ويُعد أشهر من عُرف بهذا اللقب على الإطلاق حتى كاد اللقب يقتصر عليه في الأذهان، ولذلك يُنسب إلى قبيلته فيقال “أعشى قيس” تمييزاً له عن غيره من الأعشين.
٢ – كيف أثرت رحلات الأعشى الواسعة على شعره وثقافته؟
الإجابة: كانت رحلات الأعشى الكثيرة مصدراً أساسياً لإثراء تجربته الشعرية وثقافته بشكل عميق. فمن خلال تنقله بين حواضر العرب مثل الحيرة ونجران، والتردد على الأسواق الأدبية كسوق عكاظ، تمكن من الاتصال بالملوك والأمراء والأشراف، مما وفر له مصدراً للدخل ومادة للمدح. هذا الاحتكاك بالمراكز الحضارية صقل شعره وجعله أكثر رقة وليناً. علاوة على ذلك، أتاحت له أسفاره الاطلاع على أحداث عصره، وأغنت ثقافته بمعارف وأخبار الأمم السابقة كالفرس والروم، وكذلك الحضارات البائدة كطسم وجديس، وظهر أثر ذلك جلياً في قصائده. كما أن اتصاله بالبيئات المسيحية في الحانات والأديرة أضاف إلى شعره أبعاداً فكرية وصوراً جديدة.
٣ – ما هي القصة الحقيقية وراء محاولة الأعشى إعلان إسلامه، ولماذا لم يتم ذلك؟
الإجابة: تشير الروايات، كما وردت في كتاب الأغاني، إلى أن الأعشى قد عزم على القدوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، وكان قد أعد قصيدة في مدحه. ولكن عندما علمت قريش بقدومه، اعترضوا طريقه مدركين خطورة تأثير شعره البالغ، فهو “صناجة العرب” الذي يرفع من يمدحه. وحاولوا إثناءه عن عزمه بتذكيره بالمحرمات في الإسلام التي كان متعلقاً بها كالخمر والقمار والزنا. وعندما لم يفلحوا في صرفه تماماً، لجأ أبو سفيان بن حرب إلى إغرائه بمائة من الإبل مقابل أن يرجع إلى دياره تلك السنة وينتظر مآل الأمور. قَبِل الأعشى العرض المادي، وفي طريق عودته إلى بلده، سقط عن بعيره فمات قبل أن تسنح له فرصة أخرى لاعتناق الإسلام.
٤ – هل كان الأعشى نصرانياً أم وثنياً؟ وما هو الدليل على معتقده؟
الإجابة: ثار جدل أكاديمي حول ديانة الأعشى؛ فقد ذهب بعض الباحثين والمستشرقين، مثل لويس شيخو، إلى أنه كان نصرانياً، مستدلين على ذلك بمدحه لأساقفة نجران واتصاله بالبيئات المسيحية في الحيرة. لكن الرأي الراجح، الذي تبناه الدكتور شوقي ضيف، يؤكد أن الأعشى كان وثنياً على دين قومه. ويستند هذا الرأي إلى أدلة قوية من شعره، مثل أقسامه المتكررة بالآلهة الوثنية والكواكب والنجوم، وتعظيمه للكعبة وما يُهدى إليها من قرابين. كما أن نمط حياته الماجن الذي يصفه في شعره يتوافق مع التحلل الأخلاقي للوثنية أكثر من التزامات المسيحية. ومع ذلك، لم يكن وثنياً متعصباً، بدليل ميله للإسلام ورغبته في اعتناقه، مما يشير إلى أنه كان يحمل في نفسه شيئاً من الإيمان بالله والبعث.
٥ – بماذا يتميز ديوان الأعشى عن دواوين شعراء الجاهلية الآخرين؟
الإجابة: يتميز ديوان الأعشى بظاهرة فريدة لم تكن شائعة بنفس القدر لدى شعراء عصره، وهي كثرة القصائد الطوال (المطولات). فبينما اشتهر كل شاعر من فحول الجاهلية بقصيدة أو قصيدتين طويلتين، احتوى ديوان الأعشى على تسع قصائد يزيد عدد أبيات كل منها على ستين بيتاً، وأربع وعشرين قصيدة يزيد عدد أبيات كل منها على أربعين بيتاً. هذه القدرة على تطويل النفس الشعري مع الحفاظ على الجودة جعلت النقاد القدماء، مثل ابن سلام، يصفونه بأنه “أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة”، مما منحه تفوقاً كمياً ونوعياً في هذا الجانب.
٦ – ما هي الموضوعات الرئيسية التي تتناولها معلقة الأعشى الشهيرة؟
الإجابة: تُعد معلقة الأعشى التي مطلعها “وَدَعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ” لوحة فنية متكاملة تعكس جوانب متعددة من حياته وشعره، وتتميز بعدم بدئها بالوقوف على الأطلال. تنقسم موضوعاتها الرئيسية إلى أربعة أقسام:
١. الغزل: وهو القسم الأكبر، حيث يصف فيه محبوبته “هريرة” وصفاً حسياً دقيقاً لمفاتنها ودلالها وترفها.
٢. وصف الطبيعة والرحلة: ينتقل فيه لوصف السحاب والبرق والمطر، ثم يصف ناقته التي تقطع به الصحاري.
٣. اللهو والمجون: يخصص قسماً لوصف مجالس الخمر والقيان والندمان، عاكساً حياة الترف واللذة التي عاشها.
٤. الهجاء والفخر: يختتم القصيدة بتهديد خصمه يزيد بن مسهر الشيباني، ثم يفخر بنفسه وبقومه وشجاعتهم وكرمهم.
٧ – كيف تباينت آراء النقاد القدماء حول منزلة الأعشى الشعرية؟
الإجابة: كانت منزلة الأعشى الشعرية موضع اختلاف بين النقاد القدماء. فمنهم من وضعه في الطبقة الأولى من فحول الشعراء، مثل ابن سلام الجمحي، وأبو عبيدة الذي احتج لتقديمه بكثرة قصائده الطوال الجيدة وتنوع أغراضه الشعرية. ومنهم الشعبي الذي اعتبره الأشعر في ثلاثة أبيات تمثل قمة الغزل والتخنث والشجاعة. في المقابل، كان هناك من انتقد شعره، كالأصمعي الذي أنكر عليه الفحولة المطلقة، وأحمد بن طباطبا العلوي الذي وصف بعض شعره بـ”الغثاثة” وبرودة المعاني. حتى المعجبون به، كمحمد بن سلام، لاحظوا أن شعره يفتقر إلى “البيت النادر” أو الشارد الذي يجري على كل لسان، مقارنة بأقرانه من الفحول.
٨ – ما هي أبرز الخصائص الفنية التي يمكن ملاحظتها في شعر الأعشى؟
الإجابة: يتميز شعر الأعشى بعدة خصائص فنية بارزة:
١. السرد القصصي: وهو أبرز سماته، حيث يوظف القصص في شعره، سواء كانت حماسية تروي أخبار الملوك والحروب، أو غزلية حوارية تصف مغامراته مع النساء، مما أعطى شعره حيوية وتتابعاً درامياً.
٢. المسحة الحضرية: يعكس شعره ذوقاً متحضراً في خطابه للملوك والنساء، وفي وصفه لمجالس اللهو والخمر، كما استخدم المبالغة التي كانت تمهيداً لأساليب الشعراء في العصور اللاحقة.
٣. تفاوت الأسلوب: كان الأعشى قادراً على التنويع في أسلوبه؛ فيكون جزلاً قوياً في الفخر والمدح، وليناً رقيقاً في الغزل ووصف الخمر، مع استخدامه بعض الألفاظ الأعجمية.
٤. الموسيقى والإيقاع: برع في استخدام الأوزان الشعرية المتنوعة، وأكثر من البحور القصيرة ذات الإيقاع الراقص كالمتقارب والوافر، مما جعل شعره صالحاً للغناء وأكسبه لقب “صناجة العرب”.
٩ – يُعرف الأعشى بلقب “صناجة العرب”، فما هو سبب هذه التسمية؟
الإجابة: لقب “صناجة العرب” هو أشهر ألقاب الأعشى، ويعود السبب في ذلك إلى الطبيعة الموسيقية البارزة في شعره. “الصنّاجة” هي آلة موسيقية (الصنوج أو الجلجل)، واللقب يشير إلى أن شعره كان بمثابة الموسيقى التي تطرب لها العرب. وقد نتجت هذه الموسيقية العالية من براعته في اختيار الأوزان الشعرية، خاصة البحور القصيرة ذات الإيقاع السريع والراقص، والتي كانت مناسبة جداً للغناء. وقد أدرك المغنون في عصره هذه الميزة، فغنوا الكثير من قصائده ومقطوعاته، مما رسّخ هذا اللقب وجعله مرادفاً لاسمه.
١٠ – هل يمكن اعتبار السرد القصصي عنصراً أساسياً في شعر الأعشى؟ وكيف تجلى ذلك؟
الإجابة: نعم، يُعد السرد القصصي عنصراً أساسياً وواحداً من أهم مميزات شعر الأعشى الفنية. وقد تجلى ذلك في نوعين رئيسيين: أولاً، السرد الحماسي التاريخي، حيث كان يستعرض في قصائده الطويلة أخبار الملوك والأمم السابقة وأيام العرب وحروبهم، مما يمنح قصيدته بعداً ملحمياً. ثانياً، السرد الغزلي الحواري، وفيه كان الأعشى يروي مغامراته العاطفية بأسلوب قصصي شيق، يصف فيه الحوار الذي يدور بينه وبين محبوباته، وكيفية وصوله إليهن متخطياً الصعاب والرقباء، وهو أسلوب يُعتقد أنه كان ملهماً لشعراء الغزل الحضري لاحقاً مثل عمر بن أبي ربيعة.
خاتمة
ختاماً، يتجلى لنا أن الأعشى لم يكن مجرد شاعر فحل من شعراء الجاهلية، بل كان شخصية مركبة ونموذجاً فريداً للشاعر المحترف الذي أدرك قوة الكلمة وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. لقد عبرت حياته وشعره عن مرحلة انتقالية في تاريخ العرب، فتنقل بين البداوة والحضارة، والوثنية والإيمان، وجسّد في قصائده ترف الملوك، ولذة الحياة، وقوة الفخر القبلي. ومن خلال ديوانه الزاخر ومعلقته البديعة، وخصائصه الفنية التي جمعت بين السرد القصصي والإيقاع الموسيقي، ترك الأعشى بصمة لا تُمحى في مسيرة الشعر العربي. يبقى الأعشى “صناجة العرب” شاهداً على أن الشعر كان ديوان العرب حقاً، لا يسجل أخبارهم فحسب، بل يصنعها ويخلدها، ويقدم لنا درساً في عبقرية الشاعر الذي كاد أن يغير مسار الأحداث بكلماته.