النحو

الأحرف المشبهة بالفعل: عملها ومعانيها ورتبتها وخبرها

في عالم اللغة العربية الواسع والعريق، تتميز الحروف المشبهة بالفعل بدورها البارز والمهم في التركيب اللغوي. هذه الحروف ليست مجرد أدوات نحوية بل هي كجواهر تزين الجملة الاسمية، مانحةً إياها طابعاً خاصاً من التأكيد والتشبيه والتمني. من “إنّ” التي تؤكد وتعمق المعنى، إلى “ليت” التي تعبر عن أعمق أماني الإنسان، تتجلى هذه الحروف بأبعادها المختلفة في كل نص وفي كل تعبير. سنأخذكم في رحلة نكتشف من خلالها أسرار هذه الحروف، معانيها وأدواتها، ونرتشف من بحر اللغة العربية جماليات لا تنتهي. دعونا نبدأ مغامرتنا اللغوية لنفتح أبواب الفكر والإبداع في علم النحو والصرف.

عمل الأحرف المشبهة بالفعل

(إنَّ، أنَّ، وكأنَّ، ولكنَّ، وليت، ولعلَّ)

هذه الأحرف مختصة بالدخول على الجملة الاسمية، ولذلك فهي عاملة، تنصب المبتدأ، ويسمى اسماً لها، وترفع الخبر، ويسمى خبراً لها، تقول: المناضلون مصممون على النصر ـ إنّ المناضلين مصممون على النصر، فالمبتدأ (المناضلون) المرفوع بالابتداء أصبح منصوباً بالحرف المشبه بالفعل (إنّ)، والخبر (مصممون) المرفوعُ بالابتداءِ والمبتدأِ أصبح مرفوعاً بالحرف المشبه بالفعل؛ لأنّ للحرف المشبه بالفعل عملين، هما: النصب والرفع.

لماذا سميت الأحرف بالفعل بهذا الاسم

وعملت هذه الأحرف عملين؛ لأنها تشبه الأفعال في عدد من الأمور، ولذلك سُمِّيت أحرفاً مشبهة بالفعل، وأوجه الشبه هي:

أ -معانيها هي معاني الأفعال: فـ (إنَّ وأنَّ): أؤكد، و(كأنّ): أشبِّه، و(لكنّ): أستدرك، و(ليت): أتمنى، و(لعلّ) أرجو.

ب -ألفاظها مقاربة لألفاظ الأفعال: فأصول هذه الأحرف مؤلفة من ثلاثة أحرف أو أكثر، وهي مبنية على الفتح، والفعل الماضي مبني على الفتح، ومؤلف من ثلاثة أحرف أو أكثر.

ج -دخول نون الوقاية: إذا اتصلت بياء المتكلم دخلت نون الوقاية فاصلة بينها وبين ياء المتكلم ليسلم بناؤها على الفتح، ولتتحمل هذه النون حركة الكسر التي تناسب الياء، ونون الوقاية تدخل على الفعال إذا اتصلت بياء المتكلم للسبب نفسه، تقول:

(إنَّني، وأنّني، وكأنّني، وليتني، ولعلني).

ويكثر أن تحذف النون الثانية في (إنّ وأنّ وكأنّ ولكنّ) إذا دخلت نون الوقاية فاصلة بينها وبين ياء المتكلم كيلا لا تتوالى ثلاث نونات (إنّني: إنّي، وأنّني: أنّي، وكأنّني: كأنّي، ولكنّني: لكنّي).

أما (لعلّ) فإن حذف نون الوقاية قبل ياء المتكلم غالب فيها، قال الشاعر:

وإنِّي لمُهْدٍ نظرةً قِبَلَ الَّتي * لعلِّي وإن شَطَّتْ نواها أزورُها

ويكثر في (لعلَّ) حذف اللام الأولى: (لعلَّ: علَّ). تقول: عَلَّ الظلمةَ تنقشعُ، وعلَّ المسافرَ يعودُ.

معاني الأحرف المشبهة بالفعل

إنَّ وأنَّ: التوكيد. فـ (إنّ) تؤكد مضمون الجملة الاسمية التي تليها. تقول: إنَّ الله غفور رحيم، فهذه الجملة تتضمن توكيداً للمعنى الذي تتضمنه جملة (الله غفور رحيم).

أما (أنّ) فإنها تحول الجملة الاسمية التي بعدها إلى مصدر مؤول له محل من الإعراب، فهو في محل رفع أو نصب أو جر، ودخول (أنّ) يؤكد مضمون الجملة، أو يؤكد اتصاف المسند بالمسند إليه. تقول: علمْتُ أنَّ الشهداءَ أكرمُ بني البشرِ، فهذه الجملة أوكد من قولك: علمت الشهداءَ أكرمَ بني البشر. وتقول: يسرني أنك ناجح، فهذه الجملة أوكد من قولك: يسرني نجاحك.

كأنّ: التشبيه والتوكيد، فالنحويون يعتقدون أنها مركبة من كاف التشبيه و(أنّ) الدالة على التوكيد، فإذا قلت: كأنّ وجه حبيبي البدر. فالأصل إنّ وجه حبيبي كالبدر، ثم قدموا (الكاف) حرف التشبيه للاهتمام به، فأصبح مع (إنّ) حرفاً واحداً هو (كأنّ) وهو للتشبيه والتوكيد.

لكنَّ: الاستدراك، وهو إبعاد معنىً فرعيٍّ يمكن أن ينشأ من مفهوم الجملة السابقة. تقول: ذهبتُ إلى الجامعة لكنني لم أحضر المحاضرة، فلولا قولك: (لكنني لم أحضر المحاضرة) لفهم السامع أنك حضرت المحاضرة؛ لأن مجيئك على الجامعة يستلزم حضور المحاضرة، فهو من لوازم تلك الجملة.

وهذا يدل على أنَّ (لكنَّ) لا تأتي في أول الكلام، بل هي في حاجة إلى كلام يسبقها، وتأتي هي وما بعدها لتدفع عن ذلك الكلام السابق ما يمكن أن ينشأ من مفاهيم يريد المتكلم إبعادها.

وتدل على التوكيد إذا كان ما بعدها مفهوماً من الجملة السابقة؛ يقول الطالب للمدرس: لم أفهم ما قلت، فيجيب المدرس: لو أصغيت لفهمتَ، لكنَّكَ لم تُصغِ، فالأداة (لكنَّ) معناها هنا التوكيد، فهي تؤكد عدم الإصغاء، وهو مفهوم من الجملة السابقة (لو أصغيت لفهمت).

ليت: التمنِّي: وهو الرغبة في تحقيق شيء محبوب، سواء أكان ممكن التحقيق أم غير ممكن. تقول: ليتني أنجح في دراستي، فالنجاح أمر ممكن، وهو رغبة يمكن تحقيقها بالجد والعمل، ومثل ذلك قولك ليتني أسافر للاستجمام، وليتني أتفرَّغ للقراءة هذا اليوم… الخ.

وتقول: ليتني أبقى شاباً، فبقاء الشباب أمر غير ممكن، وهو رغبة لن تتحقق، ومثل ذلك قول الشاعر:

ألا ليتَ الشَّبابَ يعودُ يوماً * فأخبرهُ بما فعل المشيبُ

فعودة الشباب أمر لا يمكن تحقيقه.

لعلَّ: التوقّع: وهو قسمان: الترجي والإشفاق. أما الترجي فهو انتظار حصول أمر مرغوب فيه، وممكن التحقّق، تقول: (لعلّي أحقِّقُ أهدافي، ولعلَّ العدوَّ يندحر، ولعَّل المريض يشفى، ولعلَّ الحق ينتصر).

وأما الإشفاق فهو انتظار حصول أمرٍ مكروه، ومخوف منه، تقول: لعلَّ المريض هالكٌ اليوم أو غداً، ولعلَّ أخي مهاجر.

وقد تأتي للتعليل. قال تعالى: {فقولا له قولاً ليِّناً لعلَّه يتذكر أو يخشى}، والمعنى لكي يتذكر أو يخشى.

رتبة الأحرف المشبهة بالفعل

الرتبة: هذه الأدوات لها الصدارة على الجملة الاسمية التي تدخل عليها، وهي رتبة محفوظة، فلا يتقدم جزء من أجزاء الجملة على هذه الأدوات، ولا تدخل هذه الأدوات على ما له الصدارة.

ولا يتقدم خبرها إذا كان مفرداً أو جملة على اسمها أبداً، ولا يتقدم معمول الخبر على الاسم

أما إذا كان الخبر شبه جملة (جاراً ومجروراً، أو ظرفاً) فإنه يجوز أن يتقدم على الاسم، وكذلك يجوز أن يتقدم معمول الخبر إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً. تقول: (إنَّ في النضال انتصاراً، وإنَّ في قول الحق شجاعة، وإن في البيان سحراً، وإن في الانتصار للحق مكرُمةً، وليت عند أخيك بطولةً، ولعلَّ في ذهابك خيراً، وكأنَّ بينكم خلافاً، وإنّ بين المخلوقات عجائب مدهشةً).

وقال تعالى: {فإنَّ مع العسر يسراً، إنَّ مع العسر يسراً}. وقال تعالى: {إنَّ فيها قوماً جبَّارين}

فشبه الجملة (الظرف أو الجار والمجرور) في كل ما تقدم متعلق بالخبر المقدم المحذوف. وقال الشاعر:

فليت لي بهمُ قوماً إذا ركبوا * شنُّوا الإغارة فرساناً وركبانا

فالجار والمجرور (لي) متعلقان بالخبر المقدم.

ويجوز أن يتقدم معمول الخبر إذا كان شبه جملة على الاسم، تقول: (إنّ بيننا الودَّ راسخٌ، وإن في المهد الطفلَ نائمٌ، وإن في المدرسة الطلابَ يتعلمون)، فشبه الجملة معمول للخبر، وقد تقدم على الاسم.

قال الشاعر:

فلا تلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها * أخاك مصابُ القلب جمٌ بلابِلُه

(بحبها) جار ومجرور متعلقان بالخبر (مصاب) تقدم على اسم (إنَّ).

وكذلك يجوز أن يتوسط معمول الخبر بين الاسم والخبر، فيتأخر عن الاسم ويتقدم على الخبر. تقول: إنك في العلم راغبٌ، وإن أخاك كتابَ الأدبِ قارئٌ، وإن أخاك هديةً لأخيه مقدِّمٌ…الخ.

ويجب أن يتقدم الخبر على الاسم إذا كان شبه جملة في حالتين:

١ -أن يكون الاسم مشتملاً على ضمير يعود على شبه جملة، تقول: (إنَّ في الدار صاحبَها، وإنّ في الجامعة طلابَها، وإن في السفينة ركابَها).

فالاسم في الأمثلة السابقة مضاف إلى ضمير يعود إلى شبه الجملة، ولذلك وجب تقديم الخبر.

٢ -أن يقترن الاسم بلام التوكيد (اللام المزحلقة)، تقول: إن في قول الحق لشجاعةً، وإن معنا لأصدقاءَ مخلصين، وقال تعالى: {إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار} وقال تعالى: {وإنَّ لنا للآخرة والأولى}.

وقال الشاعر:

إنّ بالشَّعبِ الَّذي دون سَلْع * لقَتِيلاً دمُه مَا يُطَل

فقد وجب تأخير الاسم وتقديم الخبر؛ لأن الاسم اقترن باللام المزحلقة.

اتصال (ما) الزائدة بالأحرف المشبهة بالفعل

إذا اتصلت (ما) الزائدة بهذه الأحرف كفّتها عن العمل إلا (ليت)، فأصبحت مهملة غير مختصّة، تدخل على الجملتين الاسمية والفعلية، والمبتدأ والخبر بعدها مرفوعان.

تقول: (إنما المناضلون إخوةٌ، وإنما الطلاب أمل الأمة، وكأنما العلم نور) وقال تعالى: {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحَى إليَّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحد}. فقد دخلت (إنما) على الجملة الاسمية فارتفع المبتدأ والخبر؛ لأن الحرف كفّته (ما) عن العمل. وقال تعالى: {إنَّما يخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ} وقال تعالى: {كأنما يُسَاقون إلى الموتِ وهم ينظرون} فقد دخلت (إنَّما وكأنَّما) على الجملة الفعلية لأن (ما) تزيل اختصاص هذه الحرف بالجملة الاسمية. وقال الشاعر:

ولكنَّما أسعَى لمَجدٍ مُؤَثَّلٍ * وقَد يُدرِكُ المجدَ الموثَّلَ أمثالي

وقال الشاعر:

أعِدْ نظَراً يا عَبْدَ قَيْسٍ لَعَلَّما * أضاءَتْ لَكَ النارُ الحمارَ المُقَيَّدا

أما (ليتَ) التي اتصلت بها (ما) فيجوز إهمالها وإعمالها، فإذا علمت كانت (ما) زائدة غير كافة، وإن أهملت وكُفّت عن العمل كانت (ما) زائدة كافّة، وعلى الوجهين أنشدوا بيت النابغة:

قالتْ: ألا ليتَما هذا الحمامُ لنا * إلى حمامتنا أو نصفَهُ فقَدِ

بنصب (الحمام) ورفعه، وكذلك (نصفه) ورفعه معطوفاً على الحمام.

فالنصب على أن (ليتما) عاملة، و(ما) زائدة غير كافة، و (ذا) اسم إشارة في محل نصب اسمها، و(الحمامَ) بدل منه. والرفع على أن (ما) كافة كفّت (ليت) عن العمل، و(ذا) اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، و (الحمام) بدلاً منه.

خبر الأحرف المشبهة بالفعل

أنواع خبر هذه الحرف كأنواع خبر المبتدأ، ولا تختلف أحكام الخبر هنا عن أحكام خبر المبتدأ، فقد يكون مفرداً وجملة، وشبه جملة، ومصدر مؤولاً.

تقول: (إن العلم نافعٌ، وإن الوحدة العربية هدف، وإن الإيمان بالهدف يؤدي إلى تحقيقه، وإن من يدافع عن حقه سينتصر، وإن الطلاب في القاعة، وإن الحق معنا، وإن الشجاعة أن تقول الحق).

وقال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهدُ إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسولُهُ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}.

فقد جاء خبر (إن) في الآية السابقة جملة فعلية.

ولا بدَّ أن نشير إلى تركيب خاص بالأداة (ليت)، وهو قولهم (ليت شِعري…).

فالخبر في هذا التركيب محذوف وجوباً، وتقديره (حاصل)، و(شعري) اسم ليت، ومعناها هو (علمي) والمعنى (ليتني أعلم)، وهذا المصدر يعمل عمل فعله، فهو ينصب مفعولاً به، والجملة التي بعد المصدر مسبوقة بأداة استفهام، وهي في محل نصب، مفعول به للمصدر (شعري).

قال مالك بن الريب:

ألا ليت شعري ها أبيتَنَّ ليلةً * بجنب الغضا أُزجي القلاصَ النواجيا

وقال آخر:

ألا ليت شِعْري كيف جادَتْ بِوَصْلِها * وكيفَ تراعي وُصْلةَ المتغيِّبِ

ويحذف الخبر جوازاً إذا أورد في جملة الاستفهام، أو إذا دلَّ عليه المعنى، تقول مجيباً من سأل: هل تسافر معنا؟: إن أو لعلِّي.

وقال الأعشى: 

إنَّ مَحَلّاً وإنَّ مُرْتَحلاً * وإنَّ في السَّفر إذ مضوا مَهَلا

فالخبر محذوف تقديره: إن لنا محلاً وإنَّ لنا مرتحلاً، وقد دلَّ المعنى على الخبر المحذوف، وقال الشاعر:

أَتَوني فقالوا: يا جميلُ تبدَّلتْ * بُثينةُ أَبْدالاً، فَقُلتُ: لَعَلها

والتقدير لعلها فعلت ذلك.

العطف على أسماء الأحرف المشبهة بالفعل

أسماء هذه الأدوات منصوبة، والاسم المعطوف عليها منصوب أيضاً، هذا هو الأصل الذي لا يجوز غيره في العطف على اسم (كأنَّ أو ليت أو لعلَّ). نقول: (ليت أباك وأخاك حاضران، وليت أباك حاضر واخاك، وكأن الحاضرين والغائبين سواء في المعرفة…).

أما العطف على اسم (إنَّ أو أنَّ أو لكنَّ) ففيه تفصيل؛ فقد يكون العطف قبل مجيء الخبر، وقد يكون بعد مجيء الخبر.

١ -العطف قبل مجيء الخبر

ينتصب الاسم المعطوف على اسم (إنّ أو أنَّ أو لكنّ)، تقول: إنَّ أخاك وأباك في الدار، وإنَّ الوحدة أهداف أمتنا العربية، وإن إسرائيل والرجعية العربية تسيران في خط واحد، وإنَّ الخونة والمتخاذلين يرفضهم الشعب، وحضر المدعوون لكن أباك وأخاك غائبان.

ولا يُجِيز النحويون رفع الاسم المعطوف إذا كان الخبر مطابقاً، فإذا كان الخبر يدل على الجمع، وكذلك ما عطف على الاسم، أو إذا لم يكن الخبر مطابقاً جاز الرفع على تقدير إن (الواو) حرف اعتراض، وليت حرف عطف، والاسم المرفوع مبتدأ، وخبره مقدر، دل عليه خبر الحرف المشبه بالفعل، ولا بد حينئذ من غرض معنوي. قال الشاعر:

فمن يكُ أمسى بالمدينةِ رحلُهُ * فإنِّي وقيَّارٌ بها لغريب

فـ (قيار) اسم حصان الشاعر أو جمله، وقد رفع الشاعر كلمة (قيَّار)؛ لأنه أراد غرضاً معنوياً هو أن حصانه أو جَمَله قد شعر بالغربة في هذه المدينة وهو حيوان، فمن باب أولى أن يشعر صاحبه بالغربة، فالواو حرف اعتراض، و(قيار) مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر (إنَّ) عليه، والجملة معترضة اعترضت بين اسم (إنَّ) وخبرها.

وقال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

فـ (الصابئون) قوم لا كتاب سماوياً لهم، وقد جاء في الآية مرفوعاً؛ لأن الآية هدفت إلى غرض معنوي وهو أن هؤلاء القوم الذين لا كتاب سماوياً لهم إذا آمنوا وعملوا صالحاً فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، فمن باب أولى أن يكون المؤمنون واليهود والنصارى ـ وهم أصحاب كتب سماوية ـ كذلك. فالواو حرف اعتراض، وكلمة (الصابئون) مبتدأ، وخبره محذوف، دل عليه خبر (إنّ)، والجملة معترضة، اعترضت بين اسم إنّ وما عطف عليه.

٢ -العطف بعد مجيء الخبر

يجوز الرفع والنصب في الاسم المعطوف على اسم (إنَّ وأنَّ ولكنَّ) فإذا انتصب الاسم فالأحسن تقدير أداة محذوفة، تقول: إن الوفاءَ محمودٌ والصِّدقَ، والتقدير وإنَّ الصِّدقَ محمودٌ وإن ارتفع فهو مبتدأ لخبر محذوف دلّ عليه الخبر السابق، تقول: (إن نضالَكَ مقدَّسٌ وكفاحَكَ). والتقدير: وكفاحَكَ مقدَّسٌ.

فإن كان ثمة فاصل بين خبر الأحرف السابقة والاسم المعطوف المرفوع، وكان الخبر مشتقاً جاز أن يكون العطف على الضمير المستتر في الخبر، وهذا الضمير في محل رفع، تقول: إنَّ الأقمار دائرات في الفضاء والشموسُ، فكلمة (الشموس) يجوز أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في الخبر (دائرات)، وقد فصل الجار والمجرور (في الفضاء) بين الخبر والاسم المعطوف، وقال تعالى: {وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن اللهَ بريء من المشركين ورسولُهُ}، فكلمة ( ورسوله) سُبقت بحرف عطف؛ فإما أن تكون مبتدأ حذف خبره، والتقدير: ورسولُهُ بريءٌ، وإما أن تُعطف على الضمير المستتر في الخبر (بريء) ، وهو في محل رفع؛ لأنه فصل بين الخبر والمعطوف على الاسم فاصل هو الجار والمجرور (من المشركين). وقال الشاعر:

إنَّ الخلافة والنُّبوَّة فيهمُ * والمَكرُماتُ وسادةٌ أطهارُ

فقد عطف (النبوة) على اسم (إن) فجاء الاسم المعطوف منصوباً؛ لأن العطف قبل مجيء الخبر، وعطف (المكرمات) على اسم (إنّ) أيضاً، الاسم المعطوف مرفوعاً، وهذا جائز، وقال الشاعر:

فمن يكُ لم يَنْجُبْ أبوه وأمُّه * فإنَّ لنا الأمَّ النَّجيبةَ والأبُ

فقد عطف (الأب) على اسم (إنَّ)، وجاء الاسم المعطوف مرفوعاً وهذا جائز، وهو مبتدأ مرفوع، والخبر محذوف دل عليه خبر (إن).

والجملة المؤلفة من المبتدأ (الأب) والخبر المحذوف، معطوفة على جملة (إن لنا الأمَّ النجيبة).

خاتمة

في رحلتنا مع الأحرف المشبهة بالفعل، اكتشفنا كيف تلعب هذه الأدوات اللغوية دوراً حاسماً في بناء الجمل وتشكيل المعاني. من التأكيد الذي تمنحه “إنَّ” و”أنَّ”، إلى التشبيه الذي تضفيه “كأنَّ”، والاستدراك الذي توفره “لكنَّ”، والتمني الذي تعبر عنه “ليت”، والتوقع الذي تشير إليه “لعلَّ”؛ كل حرف منها يضفي بعداً جديداً على الجملة العربية، مما يزيدها قوةً وجمالاً وتعبيراً.

وعبر هذا الاستعراض، ندرك مدى ثراء اللغة العربية وتعقيداتها التي تفتح آفاقاً واسعة من الإبداع والتعبير. إنها لغة قادرة على احتواء أعمق الأفكار والمشاعر الإنسانية، وتجعلنا نقدر جمالية النحو ودقته، وتحثنا على مواصلة اكتشاف أسرارها واستلهام جمالياتها في كل ما نكتب ونقرأ.

الأسئلة الشائعة

  • ما هي الأسباب التي تجعل الأحرف المشبهة بالفعل تمتلك وظائف النصب والرفع في الجملة الاسمية؟

الأحرف المشبهة بالفعل تمتلك وظائف النصب والرفع لأنها تشبه الأفعال في معانيها وألفاظها. تعمل هذه الأحرف على نصب المبتدأ ورفع الخبر في الجملة الاسمية. على سبيل المثال، الحرف “إنّ” يقوم بتأكيد المبتدأ ويعمل على نصبه، بينما يقوم برفع الخبر لتأكيده.

  • كيف يمكن تفسير تأثير نون الوقاية عندما تتصل الأحرف المشبهة بالفعل بياء المتكلم؟

نون الوقاية تدخل عندما تتصل الأحرف المشبهة بالفعل بياء المتكلم لفصلها عن الحرف وبنائها. تدخل نون الوقاية لتحمل حركة الكسر التي تناسب ياء المتكلم، وتمنع التوالد النوني غير المرغوب فيه. على سبيل المثال: (إنَّني، أنَّني، كأنَّني).

  • ما هو الفرق بين استخدام “إنَّ” و”أنَّ” في التأكيد وتحويل الجملة الاسمية إلى مصدر مؤول؟

“إنَّ” تستخدم لتوكيد مضمون الجملة الاسمية بشكل مباشر، بينما “أنَّ” تحول الجملة الاسمية التي بعدها إلى مصدر مؤول له محل من الإعراب. “إنَّ” تؤكد الجملة بينما “أنَّ” تجعل الجملة الاسمية مصدرًا يمكن أن يكون في محل رفع أو نصب أو جر.

  • كيف تحدد “كأنَّ” مفهوم التشبيه والتوكيد في الجملة العربية؟

“كأنَّ” تجمع بين التشبيه والتوكيد. فهي مركبة من كاف التشبيه و”أنّ” للتوكيد. عند استخدامها، تقدم حرف التشبيه (الكاف) للاهتمام بالتشبيه، وبالتالي فإنها تشبه وتؤكد مضمون الجملة في آن واحد. على سبيل المثال: كأنَّ وجه حبيبي البدر (تشبيه وجه الحبيب بالبدر مع تأكيد ذلك).

  • في أي حالات يتم تقديم خبر الأحرف المشبهة بالفعل على اسمها، وما هي الضوابط النحوية لذلك؟

يجب أن يتقدم الخبر على الاسم إذا كان شبه جملة في حالتين:

  • إذا كان الاسم مشتملاً على ضمير يعود على شبه جملة، مثل: إنَّ في الدار صاحبَها.
  • إذا اقترن الاسم بلام التوكيد (اللام المزحلقة)، مثل: إنَّ في قول الحق لشجاعةً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى