لغويات

اليوم العالمي للغة العربية: لماذا نحتفل به وما دوره في حفظ هويتنا؟

هل تساءلت يوماً عن أهمية تخصيص يوم عالمي للاحتفاء بلغة الضاد؟

تُعَدُّ اللغة العربية إحدى أعرق اللغات الإنسانية وأكثرها ثراءً، فهي لغة حضارة امتدت قروناً وأنتجت علوماً وفنوناً أثرت في مسيرة البشرية جمعاء. لقد شكّل إقرار الاحتفال الرسمي بها على المستوى الدولي نقطة تحول مهمة في مسار حمايتها وتعزيز مكانتها بين لغات العالم.

ما الذي دفع الأمم المتحدة لتخصيص يوم عالمي للغة العربية؟

منذ عقود، واللغة العربية تشهد تحديات متنامية في ظل العولمة والتطورات التكنولوجية المتسارعة؛ إذ بدأت تتراجع في بعض المجالات الحيوية كالتعليم العالي والبحث العلمي. هذا الواقع دفع المؤسسات الدولية والثقافية إلى التفكير جدياً في آليات لحماية هذه اللغة العريقة وتطويرها. فقد أدركت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أهمية تسليط الضوء على اللغة العربية باعتبارها ركيزة أساسية للتنوع الثقافي العالمي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة تواصل لأكثر من ٤٠٠ مليون متحدث حول العالم، بل هي وعاء حضاري يحمل تراثاً إنسانياً غنياً. كما أنها إحدى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، مما يمنحها مكانة دبلوماسية وسياسية مهمة. من هنا جاءت فكرة تخصيص يوم للاحتفاء بها، ليس فقط تكريماً لماضيها، وإنما استثماراً في حاضرها ومستقبلها.

متى بدأ الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية رسمياً؟

في الثامن عشر من ديسمبر عام ١٩٧٣م، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تاريخياً بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في المنظمة الدولية. لقد كان ذلك القرار انتصاراً دبلوماسياً للدول العربية التي ناضلت طويلاً لتحقيق هذا الإنجاز، وكذلك اعترافاً دولياً بأهمية هذه اللغة ودورها في الحضارة الإنسانية.

بعد مرور عقود على ذلك القرار التاريخي، قررت اليونسكو في عام ٢٠١٢م اعتماد هذا التاريخ يوماً عالمياً للاحتفال باللغة العربية. منذ ذلك الحين، أصبح اليوم العالمي للغة العربية مناسبة سنوية تُنظم فيها فعاليات متنوعة في مختلف أرجاء العالم، تشمل ندوات علمية، ومعارض فنية، وأمسيات شعرية، ومسابقات ثقافية. إن هذا الاحتفال السنوي يمثل فرصة لإبراز جمال اللغة العربية وغناها، وللتأكيد على ضرورة الحفاظ عليها وتطويرها.

لماذا اختير الثامن عشر من ديسمبر تحديداً لهذا الاحتفال؟

التاريخ ليس عشوائياً أبداً، بل يحمل دلالة رمزية عميقة. فاختيار الثامن عشر من ديسمبر جاء تخليداً لذكرى صدور القرار الأممي الذي منح اللغة العربية مقعدها في أروقة الأمم المتحدة؛ إذ يمثل هذا اليوم لحظة اعتراف عالمي رسمي بمكانة اللغة العربية. وعليه فإن الربط بين الاحتفال وهذا التاريخ المحدد يعكس رغبة في تذكير الأجيال المتعاقبة بهذا الإنجاز التاريخي.

من جهة ثانية، يحمل هذا التاريخ رسالة سياسية وثقافية مفادها أن اللغة العربية لم تعد شأناً عربياً خالصاً، بل باتت جزءاً من التراث الإنساني المشترك الذي يستحق الاحتفاء والحماية. بينما تركز بعض الاحتفالات اللغوية على الجوانب الأدبية والفنية فحسب، فإن اليوم العالمي للغة العربية يجمع بين البعد الثقافي والبعد السياسي والدبلوماسي، مما يمنحه طابعاً فريداً ومتميزاً. هل سمعت به من قبل؟ ربما نعم، لكن القليلين يدركون عمق الدلالات التي يحملها هذا التاريخ.

اقرأ أيضاً:  تحديات اللغة العربية: الواقع والتحديات المستقبلية

ما الأهداف الأساسية التي يسعى إليها اليوم العالمي للغة العربية؟

يسعى هذا الاحتفال العالمي إلى تحقيق جملة من الأهداف الطموحة التي تصب جميعها في خدمة اللغة العربية وتعزيز حضورها. ومن أبرز هذه الأهداف:

الأهداف الثقافية والتعليمية:

١. تعزيز الوعي بأهمية اللغة العربية كركيزة للهوية الثقافية والحضارية لملايين البشر.

٢. تشجيع استخدام اللغة العربية في مختلف المجالات، وخاصة في البحث العلمي والتكنولوجيا.

٣. دعم تعليم اللغة العربية للناطقين بها وغير الناطقين بها، وتطوير المناهج والأساليب التعليمية.

٤. إبراز الإسهامات الحضارية للغة العربية في تطور العلوم والفنون عبر التاريخ.

٥. تعزيز التعاون الدولي في مجال الدراسات اللغوية والأدبية العربية.

٦. حماية اللغة العربية من مخاطر التهميش والاندثار في عصر العولمة.

لقد أسهمت هذه الأهداف في خلق حراك ثقافي ملموس في كثير من البلدان العربية وغير العربية. فقد شهدنا في السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في عدد المؤتمرات والمبادرات التي تُعنى باللغة العربية، بل وحتى في الجامعات الغربية بدأ الاهتمام بتدريسها يتزايد بوتيرة متصاعدة. كما أن المنصات الرقمية والتطبيقات التعليمية باتت توفر محتوى عربياً غنياً ومتنوعاً، مما يسهل على الأجيال الشابة التفاعل مع لغتهم الأم بطرق عصرية مبتكرة.

كيف يُحتفل باليوم العالمي للغة العربية في مختلف الدول؟

تتنوع أشكال الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية من دولة إلى أخرى، لكنها جميعاً تشترك في هدف واحد: إحياء اللغة العربية وتعزيز مكانتها. ففي المغرب مثلاً، تنظم وزارة الثقافة والمؤسسات التعليمية فعاليات شعرية وموسيقية تحتفي بالتراث اللغوي المغربي الغني. بينما في مصر، مهد الأزهر الشريف ودار الكتب المصرية، تُقام معارض للمخطوطات النادرة وندوات علمية حول تطور اللغة العربية عبر العصور.

أتذكر تجربة حضوري لإحدى الفعاليات في العاصمة بيروت قبل سنوات، إذ كانت المدينة تعج بالأنشطة الثقافية المتنوعة. شاركت في ندوة عن الترجمة من العربية وإليها، والتقيت بمترجمين من جنسيات مختلفة يعشقون العربية ويرون فيها لغة المستقبل لا الماضي فحسب. كانت تلك اللحظات مؤثرة حقاً، وجعلتني أدرك أن اللغة العربية تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية؛ إذ تشكل جسراً للتواصل الإنساني والحضاري. من ناحية أخرى، شهدت في السعودية تنظيم مسابقات ضخمة في الخط العربي والإلقاء الشعري، تجذب المشاركين من كل الفئات العمرية وتعكس شغفاً حقيقياً بهذه اللغة الجميلة.

ما التحديات الجوهرية التي تواجه اللغة العربية في العصر الحديث؟

رغم الاحتفاء السنوي والاهتمام المتزايد، فإن اللغة العربية تواجه تحديات جسيمة تهدد مستقبلها إن لم تُعالج بجدية. فما هي هذه التحديات يا ترى؟

التحديات الأساسية:

١. تراجع استخدام اللغة العربية الفصحى في الحياة اليومية لصالح اللهجات المحلية أو اللغات الأجنبية.

٢. ضعف المحتوى العربي الرقمي مقارنة باللغات الأخرى، خاصة في المجالات العلمية والتقنية.

٣. هيمنة اللغة الإنجليزية على التعليم الجامعي والبحث العلمي في معظم الدول العربية.

اقرأ أيضاً:  اللغة العربية: نشأتها وأقسامها، وهل هي أم اللغات السامية؟

٤. غياب سياسات لغوية واضحة ومستمرة لحماية العربية وتعزيز استخدامها.

٥. ضعف الإنتاج الفكري والعلمي باللغة العربية، مما يقلل من جاذبيتها لدى الأجيال الشابة.

٦. انتشار الأخطاء اللغوية في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.

٧. عدم مواكبة المعاجم اللغوية للمصطلحات الحديثة والمستجدات العلمية.

على النقيض من ذلك، نجد أن بعض الدول غير العربية تولي اهتماماً أكبر باللغة العربية من بعض الدول العربية نفسها. ففي اليابان وكوريا الجنوبية مثلاً، توجد أقسام أكاديمية متخصصة في اللغة العربية وآدابها، وتُقدم منحاً دراسية للطلاب الراغبين في تعلمها. بالمقابل، نجد في بعض الجامعات العربية تفضيلاً واضحاً للتدريس باللغة الإنجليزية حتى في التخصصات الإنسانية! هذا التناقض يدعونا للتفكير العميق في علاقتنا بلغتنا الأم.

هل يمكن للتكنولوجيا أن تنقذ اللغة العربية أم تهددها؟

السؤال يبدو متناقضاً للوهلة الأولى، لكن الحقيقة أن التكنولوجيا سلاح ذو حدين. إن التطور التقني المتسارع قد يشكل تهديداً للغة العربية إذا لم نحسن التعامل معه؛ إذ تهيمن اللغة الإنجليزية على معظم المحتوى الرقمي والبرمجيات والتطبيقات. لكن في الوقت نفسه، توفر التكنولوجيا فرصاً هائلة لنشر اللغة العربية وتعليمها وتطويرها بطرق لم تكن متاحة من قبل.

لقد شهدنا في السنوات الأخيرة تطوراً ملحوظاً في تقنيات معالجة اللغة العربية حاسوبياً، من برامج الترجمة الآلية إلى تطبيقات التعرف على الصوت والكتابة. كما أن منصات التعليم الإلكتروني باتت تقدم دورات متخصصة في النحو والبلاغة والأدب العربي، يمكن الوصول إليها من أي مكان في العالم. وبالتالي، فإن المسألة لا تتعلق بالتكنولوجيا ذاتها، وإنما بكيفية استثمارها وتوجيهها لخدمة اللغة العربية. فهل يا ترى نحن مستعدون للاستفادة من هذه الفرص الثمينة؟

كيف يمكن للفرد العادي المساهمة في الحفاظ على اللغة العربية؟

قد يظن البعض أن الحفاظ على اللغة العربية مسؤولية الحكومات والمؤسسات التعليمية فقط، لكن الواقع مختلف تماماً. فقد يبدأ التغيير الحقيقي من الأفراد والأسر والممارسات اليومية البسيطة؛ إذ إن كل واحد منا يملك القدرة على إحداث فرق إيجابي. فكيف ذلك؟

يمكن للوالدين مثلاً أن يحرصا على التحدث مع أطفالهما باللغة العربية الفصحى، ولو بنسبة معينة من الوقت يومياً. كما يمكن تشجيع الأطفال على قراءة القصص العربية والاستماع إلى الأغاني والأناشيد التي تستخدم لغة سليمة. وكذلك يمكن للمعلمين أن يبتكروا أساليب تدريس ممتعة تجعل اللغة العربية محببة إلى نفوس الطلاب بدلاً من كونها مادة جافة ومملة. الجدير بالذكر أن استخدام اللغة العربية الصحيحة في منصات التواصل الاجتماعي، وتصحيح الأخطاء الشائعة بأسلوب لطيف، يُعَدُّ إسهاماً قيماً في هذا المسار.

من جهة ثانية، يمكن للمثقفين والكتاب والإعلاميين أن يكونوا قدوة في استخدام لغة عربية راقية ودقيقة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة. برأيكم ماذا لو التزم كل صحفي وكاتب ومذيع بقواعد اللغة العربية؟ الإجابة هي أننا سنشهد نهضة لغوية حقيقية تنعكس إيجاباً على المجتمع بأسره. إن الأمر يحتاج إلى وعي جماعي ومسؤولية فردية، فاللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي هوية ووعاء للفكر والثقافة.

اقرأ أيضاً:  تأثير العولمة على اللغة العربية

ما علاقة اليوم العالمي للغة العربية بالهوية الثقافية؟

اللغة والهوية وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن الفصل بينهما. إن اللغة العربية تمثل المكون الأساس للهوية العربية والإسلامية، فهي لغة القرآن الكريم الذي حفظها عبر القرون، وهي وسيلة التعبير عن الأفكار والمشاعر والطموحات لمئات الملايين. وعليه فإن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية يتجاوز كونه مناسبة ثقافية عابرة، ليصبح تأكيداً على الانتماء الحضاري والثقافي.

في زمن العولمة التي تهدد بطمس الخصوصيات الثقافية، يبرز اليوم العالمي للغة العربية كمحطة سنوية لاستعادة الوعي بالذات والتمسك بالجذور. بالإضافة إلى ذلك، فهو يذكرنا بأن التنوع اللغوي ثروة إنسانية يجب صونها، وأن كل لغة تحمل رؤية فريدة للعالم وطريقة مميزة في التفكير. ومما يعزز هذا المعنى أن اليوم العالمي للغة العربية يُحتفى به في جميع القارات، مما يجعله مناسبة عالمية بحق، تربط بين العرب والمسلمين وكل المهتمين بالحضارة العربية الإسلامية في كل مكان.

ما مستقبل اللغة العربية في ظل التحولات العالمية المتسارعة؟

التطلع إلى المستقبل يحمل قدراً من القلق والأمل في آن واحد. فمن جهة، تواجه اللغة العربية تحديات غير مسبوقة بفعل العولمة والهيمنة الثقافية والتطور التقني الذي يفرض لغات معينة على حساب أخرى. لكن من جهة أخرى، توجد مؤشرات إيجابية تبعث على التفاؤل؛ إذ يتزايد الوعي بأهمية الحفاظ على اللغة العربية، وتتكاثر المبادرات الرامية إلى تطويرها وتعزيز حضورها في المجالات كافة.

إن مستقبل اللغة العربية يعتمد بشكل أساس على القرارات التي نتخذها اليوم. فإذا استثمرنا في التعليم الجيد، وطورنا المحتوى الرقمي، وعززنا البحث العلمي باللغة العربية، ودعمنا الإنتاج الأدبي والفكري، فإن المستقبل سيكون مشرقاً. وإن أهملنا لغتنا وتركناها تتآكل تدريجياً، فإننا سنفقد جزءاً أساسياً من هويتنا وتراثنا. إذاً، الخيار بين أيدينا، والمسؤولية تقع على عاتق الجميع: الحكومات، والمؤسسات، والأفراد.

خاتمة

إن اليوم العالمي للغة العربية ليس مجرد احتفال سنوي عابر، بل هو محطة للتأمل والتفكير في علاقتنا بلغتنا الأم. لقد أثبتت اللغة العربية عبر أربعة عشر قرناً من الزمان قدرتها على الصمود والتجدد والعطاء، وهي اليوم أحوج ما تكون إلى أبنائها ليحملوا مشعل الحفاظ عليها وتطويرها. كما أن هذا اليوم يذكرنا بأن اللغة ليست كلمات وقواعد فحسب، بل هي هوية وحضارة وتاريخ وامتداد للمستقبل.

فلنجعل من كل يوم احتفالاً باللغة العربية، من خلال استخدامها الصحيح، والقراءة بها، والكتابة فيها، والتحدث بها. ومما يجدر قوله إن الحفاظ على اللغة العربية واجب وطني وقومي وديني، يشرف كل من يحمله ويعمل من أجله. فاللغة العربية أمانة في أعناقنا، وعلينا أن نسلمها للأجيال القادمة أكثر قوة وحيوية مما تسلمناها.

فهل ستكون أنت من حملة هذه الأمانة الغالية، وهل ستبدأ من اليوم باتخاذ خطوة عملية لخدمة اللغة العربية والارتقاء بها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى