ملحمة جلجامش: رحلة البحث عن الخلود وأصل الأدب العالمي
تحليل شامل لأقدم عمل أدبي في تاريخ البشرية، من ألواح سومر الطينية إلى الوعي الإنساني الحديث.

تُعد ملحمة جلجامش أقدم عمل أدبي عظيم وصل إلينا، وهي رحلة خالدة في أعماق النفس البشرية بحثاً عن معنى الحياة والموت.
مقدمة: الكشف عن أولى صفحات الأدب الإنساني
تُعتبر ملحمة جلجامش حجر الزاوية في صرح الأدب العالمي، فهي ليست مجرد قصة قديمة، بل هي نسيج معقد من الأساطير والتاريخ والفلسفة التي شكلت فهمنا المبكر للوجود الإنساني. نشأت هذه التحفة الأدبية في بلاد ما بين النهرين (Mesopotamia)، وتحديداً في الحضارة السومرية، قبل أن تتطور وتتبلور في نسختها البابلية الأكثر شهرة. إن دراسة ملحمة جلجامش تفتح نافذة فريدة على عالم فكري وديني واجتماعي غاية في الثراء، وتقدم لنا رؤى عميقة حول الأسئلة الكبرى التي شغلت الإنسان منذ فجر الحضارة: الصداقة، الفقد، الصراع بين الطبيعة والمدنية، وهاجس الموت الذي لا مفر منه.
على الرغم من أن آلاف السنين تفصلنا عن زمن كتابتها، إلا أن الموضوعات التي تطرحها ملحمة جلجامش لا تزال تتردد أصداؤها في وعينا المعاصر بقوة مدهشة. تروي هذه الملحمة قصة جلجامش، الملك شبه الإلهي لمدينة أوروك (Uruk)، الذي يبدأ رحلته كحاكم مستبد، ثم يتحول بفضل صداقته مع الرجل البري إنكيدو، ليخوضا معاً مغامرات بطولية. لكن موت صديقه يدفعه إلى رحلة يائسة ومضنية بحثاً عن سر الخلود، وهي رحلة تكشف له في النهاايي عن حقيقة فنائه وحكمة تقبل الحياة كما هي. إن أهمية ملحمة جلجامش لا تكمن فقط في أسبقيتها الزمنية، بل في قدرتها الفائقة على تصوير التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها ومآسيها وانتصاراتها الصغيرة.
الأصول التاريخية والأثرية لملحمة جلجامش
تعود جذور ملحمة جلجامش إلى مجموعة من القصص السومرية المنفصلة التي تم تداولها شفهياً وكتابياً في الألفية الثالثة قبل الميلاد. هذه القصص لم تكن تشكل ملحمة واحدة متصلة، بل كانت تتناول مغامرات متفرقة للملك التاريخي جلجامش، الذي يُعتقد أنه حكم مدينة أوروك حوالي عام ٢٧٠٠ قبل الميلاد. مع مرور الوقت، قام الكتبة البابليون في الألفية الثانية قبل الميلاد بجمع هذه الروايات ودمجها في عمل واحد متماسك، مما أدى إلى ولادة النسخة البابلية القديمة من ملحمة جلجامش.
لكن النسخة الأكثر اكتمالاً وشهرة، والتي تعد المرجع الأساسي لدراسة ملحمة جلجامش اليوم، هي النسخة البابلية القياسية (Standard Babylonian Version). تم تجميع هذه النسخة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد تقريباً على يد كاتب وعالم يُدعى سين-لقي-أونيني (Sîn-lēqi-unninni). قام هذا الكاتب بتنقيح الملحمة وترتيبها في اثني عشر لوحاً طينياً مكتوباً بالخط المسماري، وأضاف إليها مقدمة وخاتمة تضفيان على العمل عمقاً فلسفياً أكبر. تم اكتشاف هذه النسخة في القرن التاسع عشر الميلادي ضمن حطام مكتبة آشوربانيبال في نينوى (عاصمة الإمبراطورية الآشورية)، وكان هذا الاكتشاف بمثابة ثورة في دراسات الشرق الأدنى القديم، حيث كشف للعالم عن وجود أدب عظيم يسبق أعمال هوميروس بقرون طويلة، ويثبت أن ملحمة جلجامش ليست مجرد أسطورة، بل هي عمل أدبي مؤسس.
شخصيات ملحمة جلجامش الرئيسية ودورها في السرد
تتميز ملحمة جلجامش بوجود شخصيات ذات أبعاد نفسية معقدة، تتطور وتتغير مع تقدم الأحداث، مما يمنحها حيوية وواقعية نادرة في الأدب القديم. الشخصية المحورية هي جلجامش نفسه، ملك أوروك الذي وُصف بأنه ثلثاه إله وثلثه بشر. هذا التكوين المزدوج يجعله أقوى من البشر العاديين ولكنه يظل فانياً مثلهم، وهو التناقض الذي يحرك الصراع الداخلي لديه طوال السرد. في بداية الملحمة، يظهر جلجامش كحاكم طاغية يستغل سلطته ونفوذه لإشباع رغباته، مما يثير سخط شعبه والآلهة على حد سواء.
لتحقيق التوازن وكبح جماح جلجامش، تقوم الآلهة بخلق إنكيدو (Enkidu)، الرجل البري الذي يعيش في وئام مع الحيوانات في البرية. يمثل إنكيدو الطبيعة الفطرية النقية في مقابل مدنية أوروك المفرطة. بعد أن يتم “تمدينه” عبر امرأة من المعبد، يتجه إنكيدو إلى أوروك لمواجهة جلجامش. يتحول صراعهما الأولي إلى صداقة عميقة تغير حياة كليهما. يصبح إنكيدو مرآة جلجامش وضميره، ومن خلال هذه الصداقة، يبدأ جلجامش في اكتشاف جوانب أفضل من شخصيته. شخصيات أخرى تلعب أدواراً حاسمة في تطور قصة ملحمة جلجامش، مثل الإلهة عشتار (Ishtar) التي تسبب غضبها في مأساة لاحقة، وإله الشمس شمش (Shamash) الذي يساعد البطلين، والحكيم الخالد أوتنابشتم (Utnapishtim)، الذي يمثل الهدف النهائي لرحلة جلجامش في بحثه عن الخلود.
ملخص أحداث ملحمة جلجامش: رحلة من الطغيان إلى الحكمة
تبدأ أحداث ملحمة جلجامش بوصف دقيق لأسوار مدينة أوروك العظيمة التي بناها ملكها جلجامش، لكنها سرعان ما تنتقل لتصوير طغيانه. نتيجة لشكاوى أهل أوروك، تخلق الآلهة إنكيدو ليكون نداً لجلجامش. بعد معركة ملحمية بينهما تنتهي بتعادلهما، تنشأ صداقة أسطورية بين البطلين. يقرر جلجامش، مدفوعاً برغبته في تخليد اسمه، أن يذهب مع إنكيدو في مغامرة خطيرة إلى غابة الأرز لقتل حارسها الوحش خمبابا (Humbaba). بمساعدة من الإله شمش، ينجح الصديقان في مهمتهما ويعودان إلى أوروك كبطلين، حاملين معهما خشب الأرز الثمين.
بعد هذا الانتصار، تقع الإلهة عشتار في حب جلجامش وتعرض عليه الزواج، لكنه يرفضها بوقاحة، مذكراً إياها بمصير عشاقها السابقين. يثير هذا الرفض غضب عشتار، فتطلب من والدها، إله السماء آنو، أن يرسل “ثور السماء” (Bull of Heaven) لتدمير أوروك. يتمكن جلجامش وإنكيدو من قتل الثور، ولكن هذا التحدي للآلهة يكون له ثمن باهظ. تقرر الآلهة أن أحد البطلين يجب أن يموت، ويقع الاختيار على إنكيدو. يمرض إنكيدو ويموت بعد معاناة طويلة، تاركاً جلجامش محطماً وحيداً. هذا الفقد المأساوي يغير مسار ملحمة جلجامش بالكامل، حيث يدرك جلجامش لأول مرة حقيقة فنائه، فيتخلى عن مجده وملكه وينطلق في رحلة طويلة وشاقة للبحث عن الرجل الوحيد الذي نجا من الموت، أوتنابشتم، ليتعلم منه سر الخلود.
الموضوعات الفلسفية والوجودية في ملحمة جلجامش
تتجاوز ملحمة جلجامش كونها مجرد قصة مغامرات لتغوص في أعماق الأسئلة الوجودية التي لا تزال تشغل الفكر الإنساني. الموضوع الأكثر بروزاً هو الخوف من الموت والسعي المحموم نحو الخلود. موت إنكيدو ليس مجرد حدث محوري في السرد، بل هو الصدمة التي توقظ جلجامش على حتمية فنائه. رحلته اللاحقة ليست بحثاً عن المجد، بل هي هروب من مصيره المحتوم. هذا البحث يمثل الصراع الإنساني الأزلي ضد الموت، والرغبة في ترك أثر دائم يتجاوز حدود الحياة القصيرة. إن ملحمة جلجامش تقدم إجابة عميقة لهذا السؤال، ليس من خلال منح بطلها الخلود الجسدي، بل عبر إرشاده إلى شكل آخر من الخلود، وهو الخلود من خلال الأعمال العظيمة والذكرى الطيبة التي يتركها الإنسان وراءه.
موضوع الصداقة والحب يلعب دوراً محورياً في تحول شخصية جلجامش. العلاقة بين جلجامش وإنكيدو هي واحدة من أقدم وأقوى صور الصداقة في الأدب. إنكيدو يمثل الجانب الإنساني الذي كان جلجامش يفتقر إليه، ومن خلال حبه لصديقه، يتعلم جلجامش التعاطف والولاء. كما تستكشف ملحمة جلجامش العلاقة المعقدة بين الطبيعة والحضارة. إنكيدو يمثل العالم الطبيعي البري، وتحوله إلى رجل متحضر يرمز إلى عملية بناء المجتمعات الإنسانية، بما لها وما عليها. الملحمة لا تقدم إجابة سهلة حول أيهما أفضل، بل تعرض هذا التوتر كجزء أساسي من التجربة الإنسانية، مما يجعل تحليل ملحمة جلجامش ضرورياً لفهم الفكر القديم.
قصة الطوفان في ملحمة جلجامش وأوجه التشابه مع الروايات الأخرى
يُعد اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش أحد أكثر أجزائها شهرة وإثارة للجدل، لأنه يحتوي على قصة طوفان عظيم تظهر تشابهات مذهلة مع قصة طوفان نوح في النصوص الدينية اللاحقة. عندما يصل جلجامش أخيراً إلى أوتنابشتم، يسأله عن سر حصوله على الخلود. يروي له أوتنابشتم كيف قررت الآلهة في الماضي إفناء البشرية بطوفان عظيم، ولكن الإله إيا (Ea) حذره سراً وأمره ببناء سفينة ضخمة ليحمل عليها عائلته وبذور كل الكائنات الحية.
تصف ملحمة جلجامش تفاصيل بناء السفينة، وهطول الأمطار لمدة ستة أيام وست ليالٍ، واستقرار السفينة على قمة جبل نصير، وإرسال الطيور (حمامة، سنونو، غراب) لاستكشاف الأرض. هذه التفاصيل تتوازى بشكل كبير مع الروايات الأخرى للطوفان، مما أثار نقاشات واسعة بين العلماء حول الأصل المشترك لهذه القصص في ذاكرة شعوب الشرق الأدنى القديم. إن وجود قصة الطوفان ضمن ملحمة جلجامش يضيف بعداً آخر لعمقها، حيث تربط مصير بطل فردي بحدث كوني شمل البشرية جمعاء، وتؤكد على فكرة أن الحكمة والنجاة لا تأتيان من تحدي الآلهة، بل من فهم إرادتها والعمل بموجبها.
البنية الأدبية والأسلوب الشعري للملحمة
تمثل ملحمة جلجامش إنجازاً أدبياً رفيعاً، ليس فقط في محتواها ولكن أيضاً في بنيتها وأسلوبها. النسخة البابلية القياسية منظمة بإحكام في اثني عشر لوحاً. الألواح الأحد عشر الأولى تشكل قصة متكاملة تتبع رحلة جلجامش من الطغيان إلى الحكمة، بينما يُعتقد أن اللوح الثاني عشر هو إضافة لاحقة، وهو عبارة عن ترجمة شبه حرفية لقصة سومرية قديمة بعنوان “جلجامش وإنكيدو والعالم السفلي”، ولا يتناسب تماماً مع سياق السرد الرئيسي. هذه البنية تعكس وعياً مبكراً بفن القص المنظم والسرد المتصاعد.
يتميز الأسلوب الشعري في ملحمة جلجامش باستخدام التكرار، وهو أداة أدبية شائعة في الأدب الشفهي القديم، حيث يساعد على ترسيخ الأحداث والأفكار المهمة في ذهن المستمع أو القارئ. على سبيل المثال، يتم تكرار وصف أحلام جلجامش وتفسيراتها، ووصف رحلته الشاقة عبر جبال ماشو المظلمة. كما تستخدم الملحمة الصور البلاغية الغنية والتشبيهات والاستعارات لرسم صور حية للشخصيات والأحداث. على سبيل المثال، يوصف إنكيدو عند خلقه بأنه “ذو شعر كثيف كشعر امرأة”، ويوصف حزن جلجامش على صديقه بأنه “كأنثى أسد سُلب منها أشبالها”. هذا الأسلوب الشعري المتقن هو ما يجعل ملحمة جلجامش عملاً أدبياً مؤثراً وقادراً على تجاوز حاجز الزمن.
التأثير الحضاري والثقافي لملحمة جلجامش
إن تأثير ملحمة جلجامش يمتد إلى ما هو أبعد من حدود بلاد ما بين النهرين. بعد اكتشافها في القرن التاسع عشر، أحدثت ضجة كبيرة في الأوساط الأكاديمية والثقافية، حيث أثبتت وجود تقاليد أدبية وفكرية عريقة في الشرق سبقت الحضارة اليونانية التي كان يُنظر إليها طويلاً على أنها مهد الفكر الغربي. لقد أجبرت ملحمة جلجامش العالم على إعادة تقييم تاريخ الأدب والفلسفة، وأظهرت أن الأسئلة الوجودية الكبرى كانت جزءاً من الحوار الإنساني منذ آلاف السنين.
يعتقد العديد من الباحثين أن أصداء ملحمة جلجامش يمكن العثور عليها في أعمال أدبية وأساطير لاحقة. على سبيل المثال، هناك أوجه تشابه بين مغامرات جلجامش وإنكيدو ومغامرات شخصيات أسطورية يونانية مثل هرقل وأخيل. كما أن رحلة جلجامش إلى العالم السفلي أو بحثه عن الحكمة توازي رحلات أبطال مثل أوديسيوس. لا يقتصر تأثيرها على الأدب القديم، ففي العصر الحديث، أصبحت ملحمة جلجامش مصدر إلهام للعديد من الأعمال الأدبية والفنية والموسيقية، مما يؤكد على حيويتها وقدرتها على مخاطبة الإنسان المعاصر بنفس القوة التي خاطبت بها الإنسان القديم.
الألواح المفقودة والاكتشافات الحديثة
إن القصة التي نعرفها اليوم عن ملحمة جلجامش ليست كاملة تماماً، فالألواح الطينية التي وصلت إلينا تعاني من الكسور والتلف، مما أدى إلى وجود فجوات في النص. هذا يعني أن فهمنا للملحمة هو عملية مستمرة تتطور مع كل اكتشاف أثري جديد. يعمل علماء الآشوريات (Assyriologists) باستمرار على ترجمة وتجميع آلاف القطع المسمارية المكتشفة في مواقع أثرية مختلفة في العراق وسوريا وتركيا، على أمل العثور على أجزاء مفقودة من ملحمة جلجامش.
في السنوات الأخيرة، تم تحقيق اكتشافات مهمة أضافت تفاصيل جديدة للنص. على سبيل المثال، في عام ٢٠١٥، تم اكتشاف لوح جديد أضاف حوالي ٢٠ سطراً إلى اللوح الخامس من الملحمة، والذي يصف غابة الأرز. هذه الأسطر الجديدة قدمت وصفاً أكثر حيوية للغابة، حيث لم تكن مكاناً مظلماً ومخيفاً فحسب، بل كانت أيضاً مليئة بأصوات الطيور والحشرات، مما أضاف بعداً بيئياً غير متوقع للسرد. هذه الاكتشافات تذكرنا بأن ملحمة جلجامش ليست نصاً جامداً، بل هي عمل حي لا يزال يكشف عن أسراره تدريجياً، وكل قطعة جديدة تساعدنا على فهم هذه التحفة الأدبية بشكل أعمق.
لماذا تعد ملحمة جلجامش عملاً خالداً؟
تكمن عظمة ملحمة جلجامش وقدرتها على البقاء في صميم التجربة الإنسانية التي تتناولها. إنها تتجاوز زمانها ومكانها لتقدم رؤية خالدة للطبيعة البشرية. يمكن تلخيص أسباب خلودها في النقاط التالية:
- عالمية الموضوعات: تتناول ملحمة جلجامش موضوعات أساسية وعالمية مثل الصداقة، الحب، الفقد، الخوف من الموت، البحث عن المعنى، والصراع بين الواجب والرغبة. هذه الموضوعات ليست حكراً على حضارة بلاد ما بين النهرين، بل هي جزء لا يتجزأ من حياة كل إنسان في كل العصور.
- عمق الشخصيات: شخصية جلجامش ليست شخصية بطل مثالي، بل هي شخصية معقدة تتطور بشكل جذري. يبدأ كطاغية أناني وينتهي كملك حكيم يدرك حدوده البشرية. هذا القوس التطوري يجعله شخصية يمكن للقراء التواصل معها والتعاطف مع رحلتها نحو النضج. إنها قصة تحول إنساني عميق.
- الأسبقية التاريخية: كونها أقدم عمل أدبي ملحمي معروف، تمنح ملحمة جلجامش مكانة فريدة في تاريخ الفكر الإنساني. إنها تمثل “النقطة صفر” التي يمكن من خلالها تتبع تطور العديد من الأفكار والموتيفات الأدبية والأسطورية عبر الحضارات المختلفة.
كيف تقرأ وتفهم ملحمة جلجامش؟
بالنسبة للقارئ المبتدئ، قد تبدو ملحمة جلجامش نصاً صعباً بسبب طبيعتها المجزأة وأسلوبها القديم. ولكن مع اتباع بعض الإرشادات، يمكن الاستمتاع بها وفهمها بعمق. إليك بعض النصائح:
١. اختر ترجمة جيدة: هناك العديد من الترجمات المتاحة باللغات المختلفة، بما في ذلك العربية. اختر ترجمة حديثة ومعتمدة من قبل أكاديميين متخصصين، والتي غالباً ما تحتوي على مقدمة وشروحات وهوامش تساعد على فهم السياق التاريخي والثقافي للنص.
٢. لا تقلق بشأن الفجوات: تقبل حقيقة أن النص غير مكتمل. الفجوات الناتجة عن الألواح المكسورة هي جزء من تجربة قراءة ملحمة جلجامش. حاول التركيز على الأجزاء المكتملة والسرد العام بدلاً من التشتت بسبب الأجزاء المفقودة.
٣. افهم السياق الأسطوري: تعرف على آلهة بلاد ما بين النهرين وأدوارها (مثل آنو، إنليل، إيا، شمش، عشتار). فهم البانثيون السومري-البابلي سيساعدك على فهم دوافع الشخصيات والآلهة وتفسير الأحداث التي تقع في ملحمة جلجامش.
جوانب هامة في تحليل ملحمة جلجامش
عند تحليل ملحمة جلجامش، هناك عدة زوايا يمكن التركيز عليها لاستخلاص أقصى استفادة من النص. هذا التحليل يساعد على كشف طبقات المعنى المتعددة التي تحتويها الملحمة، مما يجعل دراسة ملحمة جلجامش تجربة فكرية غنية.
- الرمزية: النص مليء بالرموز. على سبيل المثال، ترمز غابة الأرز إلى العالم المجهول والخطير، بينما ترمز مدينة أوروك بأسوارها إلى النظام والأمن والحضارة. الأفعى التي تسرق نبتة الخلود ترمز إلى حتمية الفناء ودورة الحياة الطبيعية.
- قوس تطور الشخصية: تتبع التحول في شخصية جلجامش من بداية الملحمة إلى نهايتها هو مفتاح فهم رسالتها الأساسية. حلل كيف أثرت صداقته مع إنكيدو، وموت إنكيدو، ورحلته الشاقة على نظرته للحياة والخلود والملكية.
- دور الآلهة: لاحظ كيف تتدخل الآلهة في شؤون البشر. فهي ليست كيانات عادلة دائماً، بل غالباً ما تكون متقلبة وغيورة. إن العلاقة بين البشر والآلهة في ملحمة جلجامش تعكس رؤية العالم في بلاد ما بين النهرين، حيث كان الإنسان تحت رحمة قوى طبيعية وإلهية لا يمكنه السيطرة عليها.
خاتمة: إرث ملحمة جلجامش الخالد
في النهاية، تظل ملحمة جلجامش أكثر من مجرد قطعة أثرية أدبية؛ إنها شهادة خالدة على الروح الإنسانية في سعيها الدؤوب لفهم مكانتها في الكون. من خلال رحلة بطلها، تعلمنا أن البطولة الحقيقية لا تكمن في تحدي الموت أو تحقيق الخلود الجسدي، بل في تقبل فنائنا، وفي بناء صداقات حقيقية، وفي ترك إرث دائم من خلال الأعمال الصالحة التي نخدم بها مجتمعاتنا. لقد قدمت لنا ملحمة جلجامش أول بطل مأساوي في التاريخ، بطل يشبهنا في ضعفه وقوته، وفي خوفه وأمله.
بعد مرور ما يقرب من خمسة آلاف عام، ما زالت الألواح الطينية التي تحمل كلمات ملحمة جلجامش تتحدث إلينا بصوت واضح، مذكرة إيانا بأن الأسئلة التي نواجهها اليوم حول معنى الحياة والموت والصداقة قد طرحها أجدادنا على ضفاف دجلة والفرات. إن دراسة ملحمة جلجامش ليست مجرد رحلة إلى الماضي السحيق، بل هي حوار مستمر مع أصول وعينا الإنساني، وتأكيد على أن القصص العظيمة لا تموت أبداً.
سؤال وجواب
١. متى كُتبت ملحمة جلجامش ومن هو مؤلفها؟
تعود جذور الملحمة إلى قصص سومرية متفرقة تعود للألفية الثالثة قبل الميلاد. أما النسخة البابلية القياسية الأكثر اكتمالاً، فقد تم تجميعها وتنقيحها حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد على يد كاتب وعالم يُدعى سين-لقي-أونيني، والذي يُعتبر بمثابة “مؤلف” النسخة التي نعرفها اليوم.
٢. هل كان جلجامش شخصية حقيقية؟
يُعتقد على نطاق واسع أن جلجامش كان ملكاً تاريخياً حقيقياً حكم مدينة أوروك السومرية حوالي عام ٢٧٠٠ قبل الميلاد. اسمه مذكور في “قائمة الملوك السومرية”، ولكن الأحداث الخارقة والمغامرات الموصوفة في الملحمة هي بلا شك عناصر أسطورية تمت إضافتها إلى سيرته.
٣. ما هي اللغة الأصلية التي كُتبت بها الملحمة؟
كُتبت القصص الأولى عن جلجامش باللغة السومرية. أما النسخة الملحمية الموحدة فقد كُتبت باللغة الأكادية (بلهجتيها البابلية والآشورية)، باستخدام نظام الكتابة المسمارية على الألواح الطينية.
٤. ما هي الرسالة الأساسية أو الموضوع الرئيسي في ملحمة جلجامش؟
الموضوع المحوري هو حتمية الموت للإنسان والسعي لفهم معنى الحياة في مواجهة هذا الفناء. تنقل الملحمة رسالة مفادها أن الخلود الحقيقي لا يكمن في الحياة الأبدية، بل في الأعمال العظيمة والذكرى الطيبة التي يتركها الإنسان وراءه.
٥. لماذا تعتبر قصة الطوفان في الملحمة مهمة جداً؟
تكمن أهميتها في تشابهها المذهل مع قصة طوفان نوح في النصوص الدينية اللاحقة، ولكنها تسبقها بمئات السنين. هذا الأمر يشير إلى وجود تقليد قصصي مشترك عن طوفان عظيم كان منتشراً في ثقافات الشرق الأدنى القديم.
٦. ما الذي يمثله إنكيدو في القصة؟
يمثل إنكيدو الطبيعة البرية والفطرية في مقابل الحضارة والمدنية التي يمثلها جلجامش. صداقته مع جلجامش ترمز إلى التكامل الضروري بين هذين العالمين، كما أن موته هو الحدث المحفز الذي يدفع جلجامش في رحلته للبحث عن معنى الحياة.
٧. هل النص الذي وصل إلينا من الملحمة كامل؟
لا، النص الذي نمتلكه اليوم مجزأ وغير كامل. تم تجميعه من عدد كبير من الألواح الطينية المكسورة والتالفة التي عُثر عليها في مواقع أثرية مختلفة. لا تزال هناك فجوات في السرد يعمل العلماء على سدها مع كل اكتشاف جديد.
٨. ما هو دور اللوح الثاني عشر في الملحمة؟
يعتبر اللوح الثاني عشر إضافة لاحقة ولا يتناسب عضوياً مع السرد الرئيسي للألواح الأحد عشر الأولى. هو في جوهره ترجمة شبه حرفية لقصة سومرية منفصلة بعنوان “جلجامش وإنكيدو والعالم السفلي”، ويتناول مواضيع مختلفة عن رحلة جلجامش الأساسية.
٩. كيف أثرت ملحمة جلجامش على الأدب العالمي؟
بصفتها أقدم عمل ملحمي معروف، وضعت ملحمة جلجامش الأساس للعديد من النماذج الأدبية، مثل “رحلة البطل” ونموذج “الصديقين المتناقضين”. يُعتقد أن أصداءها وموضوعاتها قد أثرت بشكل غير مباشر على أساطير وأعمال أدبية لاحقة في مختلف الحضارات، بما في ذلك الأدب اليوناني القديم.
١٠. أين يمكن رؤية الألواح الأصلية لملحمة جلجامش؟
توجد الألواح الطينية الأصلية، وأشهرها تلك المكتشفة في مكتبة آشوربانيبال، محفوظة ومعروضة في عدد من المتاحف الكبرى حول العالم، وعلى رأسها المتحف البريطاني (The British Museum) في لندن.