علوم القرآن الكريم

إعجاز القرآن الكريم: ما أوجهه وكيف شهد له العرب والعالم؟

كيف تجلى البيان المعجز في كتاب الله وأقر بفضله الموافق والمخالف؟

يمثل البحث في معجزة القرآن الخالدة ركناً أساسياً من أركان الدراسات الإسلامية واللغوية، إذ يكشف عن جوانب الإبداع البياني والإعجاز العلمي والتشريعي الذي لا تنقضي عجائبه. وقد تحدى هذا الكتاب العظيم البشرية جمعاء منذ نزوله حتى يومنا هذا، فعجز الفصحاء والبلغاء عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه.

المقدمة

إن إعجاز القرآن الكريم يمثل القضية المحورية التي تواجه كل باحث عن الحقيقة، وكل دارس للغة العربية وآدابها. فالصورة الأدبية للقرآن الكريم صورة زاخرة بمختلف ألوان البيان المعجز، متنوعة واسعة الأبعاد حتى لا يكاد أن يحيط البحث بجزء منها مهما توسع وأفاض. وقد ظل هذا الإعجاز شاهداً حياً على صدق الرسالة المحمدية عبر العصور، يتحدى العقول ويأسر القلوب، ويدعو الإنسانية إلى التأمل في عظمة الخالق سبحانه وتعالى.

غير أنا ههنا نعرض لوجازات شديدة الاختصار عن هذه الصورة في مبحثين، تدرس في أولهما الصورة الأدبية العامة للقرآن، وهي «إعجاز القرآن». وتقدم في ثانيهما: دراسات فنية خاصة في بيان القرآن. تُعَدُّ بمثابة التطبيق للمبحث الأول في نطاق محدود جداً لا يتسع المجال لأكثر منه.

جوهر دراسات القرآن وأهميته في الثقافة العربية

هذا الموضوع هو جوهر دراسات القرآن، ولبابها، وهو أهم قضية في العربية: يواجهها العقل الحديث، والمثقف في العصر الحديث، وإنها لترتبط ارتباطاً بالغاً غاية التوثق والقوة بثقافتنا العامة، واللغوية خاصة، وإن كانت دور العلم في جميع بلاد العرب تقرر منهاجاً قاصراً في تدريس اللغة العربية وآدابها قصوراً واضحاً عن تخريج النشء المتمكن من لغته العربية، والتذوق الأدبي الناضج.

على أن قضية إعجاز القرآن لا تختص بجانب اللغة العربية، بل إنها تشمل ما هو أرحب من ذلك، تشمل بناء الإنسان العربي أو المسلم، من حيث هو إنسان قادر على تذوق الجمال في الصورة، أو في الفكر، أو في الصورة والفكر جميعاً. ومن هنا كانت معرفة معنى إعجاز القرآن، وأسرار هذا الإعجاز، وجوانبه في القرآن أمراً لا يستغني عنه الدارس لأثره الكبير في ثقافته، بل في تكوين ذوقه الفني، وإدراكه الجمالي.

تعريف المعجزة في اللغة والاصطلاح

والمعجزة مأخوذة في اللغة من العجز، وهو ضد القدرة، وأعجزه الشيء صيره عاجزاً عنه، فهو معجز، ومعجزة، قال الحافظ ابن حجر: (وسميت المعجزة لعجز من يقع عندهم ذلك عن معارضتها، والهاء فيها للمبالغة).

أما المعجزة في الاصطلاح فهي: أمر يجريه الله على يد النبي يفوق طاقات البشر، ويخرق قوانين الطبيعة وخواص المادة، يتحدى النبي به قومه، فلا يقدر أحد على معارضته. ويطلق على المعجزات دلائل النبوة وأعلام النبوة، ونحو ذلك، وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات ولهذا لم يكن لفظ المعجزات وارداً في القرآن ولا في الأحاديث، إنما ورد فيهما: الآية، والبينة والبرهان.

تنوع المعجزات بحسب أحوال الأقوام

وتتنوع المعجزات كثيراً من نبي إلى نبي، ومن قوم لقوم، وذلك بحسب حال القوم الذين يبعث فيهم النبي. ويرسل إليهم الرسول، فيجعل الله تعالى المعجزة لكل نبي وثيقة الصلة بخبرة قومه، فكان كل نبي يتحدى قومه بأفضل ما أتقنوه وبرعوا فيه، ليعلموا أن هذه المعجزة ليست مما أتقنوه ولا يمكن أن تبلغها طاقتهم، فيكون ذلك أدل على عجزهم وصدق نبيهم، فيبادر إلى الإيمان أهل الصدق والاستعداد للحق.

فلما كان قوم موسى برعوا في السحر وتفوقوا كانت معجزة موسى عليه السلام هي العصا تنقلب حية وتلقف ما يأفكون. واليد يضمها إلى جناحه فإذا هي بيضاء للناظرين. ولما بعث عيسى عليه السلام في قوم برعوا في الطب جعل الله معجزته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. ولما كان العرب قوم بيان ولَسَن، يقادون بمقَولِهِم كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى هي القرآن الكريم.

أقسام المعجزات النبوية

وتنقسم المعجزات إلى قسمين:

القسم الأول: المعجزات الحسية:

مثل معجزة الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم حتى روى المئين، وتكثير الطعام القليل، وقلب الحصى حية، وإحياء الموتى.

القسم الثاني: المعجزات العقلية:

مثل الإخبار عن المغيبات، والقرآن الكريم.

الإعلام الإلهي بإعجاز القرآن الكريم

وقد أعلن إعجاز القرآن على العالم من أعظم مصدر ثابت وهو القرآن نفسه. حيث نادى على رؤوس الأشهاد وفي كل جيل وقبيل يتحدى الناس بل العالم أن يأتوا بمثله، قال تعالى: (أم يقولون تقوَّله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين).

فقد كيلهم بالعجز عن هذا التحدي فلم يفعلوا ما تحداهم، فجاءهم بتخفيف التحدي فتحداهم بعشر سور فحسب في هذه الآية: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون).

التحدي القرآني المتدرج والإعلان الحاسم

ثم أرخى لهم حبل التحدي، ووسع لهم غاية التوسعة فتحداهم بسورة واحدة أي سورة ولو من قصار السور، قال تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً والمسلمون قليل مستضعفون، وكان الوحي يتتابع وهو يتحداهم، ويفضح عجزهم الذي استبان وظهر لكل من له عين تبصر، وأذن تسمع وعقل يعي، وقد قطع الله عليهم بل على الثقلين كلهم منافذ اللدد بهذا الإعلان الحاسم: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

وقد أمعن القرآن في هذا التحدي وأكده في سورة البقرة المدنية، فتحداهم ثانية بسورة منه، وأكد عجزهم عن ذلك بالإعلان على العالم أنهم لن يستطيعوا ذلك، ولن يفعلوه أبداً. (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين).

الدليل القاطع على إعجاز القرآن الكريم

فكان هذا البلاغ القاطع الذي لا معقب له هو الغاية التي انتهى إليها أمر هذا القرآن، وأمر النزاع فيه، ليس مع قوم النبي أو العرب فحسب، بل مع البشر جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وأن القرآن معجز، وأن الآيات الكثيرة، ثم الآيات القليلة، كل ذلك كان في تلاوته على سامعه من العرب الدليل الذي يقطع بأن هذا القرآن مفارق لجنس كلام البشر في خصائص النظم والبيان.

وهذا هو البلاغ الذي لا معقب له من بين يديه ولا من خلفه، فكل ذي اختصاص إذا وضعت بين يديه شيئاً لا تناله قدرة أهل اختصاصه حكم بالعجز عن بلوغها وتناولها، وذلك واضح مشاهد للعيان، ووصف الإعجاز إذا ثبت للقرآن ثبت لأي سورة منه، فكان الواقع معلناً مصداق الأمر، وهو أن القليل من آيات القرآن والكثير منها كل ذلك متصف بخصوصية الإعجاز، ومنطو على دليل مستبين قاهر يحكم له بأنه ليس من كلام البشر.

المعجزات الكثيرة في القرآن الكريم

وهكذا نجد القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل سورة واحدة من القرآن، ولو من قصار سوره، وإذا كانت أقصر سورة فيه هي الكوثر تتألف من ثلاث آيات قصار علمنا أن كل آية طويلة معجزة، وكل عدة آيات قصار تبلغ سورة الكوثر أو أكثر من ذلك فهي معجزة كذلك.

وإذا علمت أن عدد آيات القرآن يزيد على ستة آلاف آية علمت كم عدد المعجزات في القرآن الكريم، فضلاً عن النظر فيما يحمله من أوجه الإعجاز المتعددة، فتكون معجزاته بذلك كثيرة متنوعة يضيق عنها الحصر والتعداد.

مزايا الإعجاز القرآني المتفردة

كانت معجزات الأنبياء السابقين خوارق مادية حسية وقعت ورآها الناس الذين حضروها في المكان والزمان الذي وقعت فيه تلك الخوارق الحسية، ثم مضت وانقضت، فهي تقيم الحجة على الأجيال القادمة بواسطة نقلها عمن شاهدها مباشرة بمعاينتها. أما الإعجاز القرآني فيمتاز على غيره بمزايا عديدة نذكر منها ما يلي:

اقرأ أيضاً:  تعريف علوم القرآن وأهميتها ونشأتها ومكانتها

١- الخلود والعمومية:

أن المعجزة القرآنية معجزة عقلية عامة لكل العهود والأعصار، وستظل باقية إلى يوم القيامة، فالحجة بها ملزمة وقت تنزل القرآن على الرسول الكريم، كما أنها ملزمة في كل آن بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأنه معجزة بيانية والبيان متاح لكل الناس، وهو معجزة عقلية، والعقل هبة الله وهبها لكل الناس.

٢- اتحاد الدليل والمدلول:

أن القرآن لكونه معجزة بذاته فقد اختص بخصوصية انفرد بها عن جميع المعجزات بل عن جميع البراهين والبينات فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي، والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له، كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة، لاتحاد الدليل والمدلول، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أُوحيَ إليَّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).

٣- التوافق مع سنن الكون:

وثمة خصوصية أخرى بالغة الأهمية في مزايا المعجزة القرآنية على غيرها من المعجزات الحسية، تكمن في طبيعة الإعجاز في كل: ذلك أن الإعجاز في الخوارق الحسية بأنها أمور مخالفة للمعتاد من سنن الكون، وقواعد الطبيعة، فتأتي المعجزة الحسية ويدركها الناس بتلك المخالفة لقوانين الطبيعة فيعلمون إعجازها وصدق النبي الذي ظهرت على يديه. أما إعجاز القرآن فإنه لم يكن بواسطة مخالفة السنن الكونية، وصرف الإنسان عنها، بل إن معجزة هذا القرآن يدركها الإنسان بمقدار إعمال عقله وفهمه بل إنه كلما ازداد معرفة بسنن الكون والطبيعة ازداد يقيناً بإعجاز هذا القرآن.

كفاية القرآن عن كل معجزة

ولذلك واجه القرآن عناد المشركين وتطلبهم للمعجزات بخصوصية القرآن الكبرى التي تجعله يكفي عن كل معجزة، فقال عز وجل: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون).

إن إعجاز القرآن الكريم يتجلى في هذه الميزة الفريدة التي تجعل منه حجة دائمة ومتجددة، تخاطب العقل والقلب معاً، وتزداد وضوحاً مع تقدم العلوم والمعارف الإنسانية.

شهادة العرب الفصحاء بإعجاز القرآن الكريم

يسجل التاريخ للأمة العربية مأثرة ليست لأمة غيرهم، هي رسوخهم الأدبي العريق منذ أقدم العصور، التي تصل إلى أعماق العصر الجاهلي، حتى لم يعلم لهم شعر غير ناضج، بل إنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان ومن العلم بأسراره ووجوهه ما يجعلهم يميزون بالبداهة بين الغث والسمين، والأفصح والفصيح، تمييزاً فطرياً، كما نميز الحلو من الحامض، واللون عن غيره من الألوان، لا يسع أحداً منهم أن يخون فيه الأمانة، أو يجور في الحكم، كما تشهد بذلك منافساتهم وحكوماتهم الأدبية في المجامع العامة، والمواسم السنوية الحافلة، التي تقام في الأسواق، ويتبارى الشعراء والخطباء، ويحكم بين المتنافسين والمتبارين فيها الحكماء.

وهكذا لما أمر الله نبيه أن يبلغ دعوته للناس راح يتتبع أفراد عشيرته وقومه يقرأ عليهم ما نزل عليه من القرآن، ولم يكن برهانه ولا ما أمر به أن يلزمهم حجة وبرهاناً، إنما هو إله واحد وأن محمداً نبي الله إلا دليلاً واحداً هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه، لكنهم أبوا وجحدوا، فدخل عليهم التحدي من كافة أقطار قدرتهم البشرية، وطالبهم أن يأتوا بمثله، لكنهم عجزوا عن معارضته بشيء ينسجونه من كلامهم أو يكون من نظم غيرهم.

عجز العرب عن معارضة القرآن الكريم

فإن القرآن وسع عليهم، ولم يقل لهم «قولوا مثله» بل قال: «فليأتوا بحديث مثله»، وقال: (فأتوا بسورة مثله)، فما كان بعد هذا أسهل عليهم من النظر في مجدهم اللغوي المؤثل يختارون منه ما يجدونه كفواً للمعارضة وإزالة مرارة التحدي، لكنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك، بل انفضوا يواجهون الإعجاز والتحدي باعتلالات هزيلة، واعتذارات متهافتة، بأنه أساطير الأولين أو قول شاعر مجنون أو نحو ذلك من التعللات التي لا تغني عن الحق شيئاً. مما يدل أبلغ الدلالة على عجزهم عن معارضته، ولاسيما أن فيها ذباً عن أديانهم ودفاعاً عن آلهتهم التي صارت أقل شيء، وتخلصاً من خزي السكوت وعار الهزيمة.

ولذا قال الإمام الجرجاني: أم هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رئاسة، ولهم دين ونحلة، فيؤلب عليهم الناس، ويدبر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وفي قتل صناديدهم وكبارهم، وسبي ذراريهم وأولادهم، وعمدته التي يجد بها السبيل إلى تألف من يتألفه ودعاء من يدعوه، ودعوى له إذا هي أبطلت بطل أمره كله، وانتقض عليه تدبيره، ثم لا يعرض له أحد في تلك الدعوى ولا يشتغل بإبطالها مع إمكان ذلك ومع أنه ليس بمتعذر ولا ممتنع.

اعتراف الوليد بن المغيرة بإعجاز القرآن الكريم

وقد صدرت عن سادة العرب الفصحاء البلغاء اعترافات صريحة بإعجاز القرآن، أملتها عليهم سجيتهم العربية، وطبيعتهم الفنية التي لا يمكن معها جور ولا محاباة، وإن كانوا مخالفين للقرآن ودعوته. هذا الوليد بن المغيرة من زعماء مكة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لم؟ قال ليُعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله. قال الوليد: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً، قال أبو جهل: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له.

قال الوليد: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجز ولا قصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال فدعني أفكر. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره من غيره، فنزلت: (ذرني ومن خلقت وحيداً، وجعلت له مالاً ممدوداً، وبنين شهوداً، ومهدت له تمهيداً. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيداً. سأرهقه صعوداً، إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر. ثم قتل كيف قدر. ثم نظر، ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر).

شهادة الوليد الصريحة بعلو القرآن

فليس اعتراف أبلغ مما صدر عن الوليد بن المغيرة، فهو على رئاسته وتقدمه في العلم بالفصاحة ينزه القرآن عن مشابهة شيء من فنون القول الممكنة للعرب. ويجلي البيان عن رفعة مقامه عن هاتيك الأفانين حتى تندحر جميعها دونه: «إنه ليعلو وما يعلى وإنه ليَحطِم ما تحته».

وروى الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد ساعدهم.

حوار عتبة بن ربيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم

فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل يا أبا الوليد أسمع).

اقرأ أيضاً:  الوحي: معناه وصفاته ومظاهره في الكتاب والسنة

قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: (أفرغت يا أبا الوليد؟)، قال: نعم. قال: (فاستمع مني)، قال: أفعل.

تأثير القرآن على عتبة بن ربيعة

قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، حم: تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه فلما سمع عتبة أنصت وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك).

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد به. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.

خوف المشركين من تأثير القرآن الكريم

ولقد تحيرت العرب في شأن هذا القرآن لأنه نزل بلسانهم، لسان عربي مبين، ثم هم يجدونه مباينا لكلامهم، فحاروا ماذا يقولون فيه من طغيان اللدد والخصومة. ولهذا فإنهم كانوا يخافون أن يفلت الزمام من أحدهم فيدخل في الإسلام لتأثره بعظمة القرآن، حتى قالوا لبعضهم كما سجل القرآن ذلك عليهم: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون).

فكانوا إذا تلا النبي القرآن عليهم صخبوا وصفقوا كيلا يتمكن الناس من سماع القرآن بهذا الضجيج، فكانت طريقتهم في الغلبة طريفة. والحقيقة التي يشهد لها الواقع كما قال الإمام أبو بكر الباقلاني: إن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز، ولكن اختلفت أحوالهم، فكانوا بين جاهل وجاحد، وبين كافر نعمة وحاسد، وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات، وجائر عن النظر في الدلالات، وناقص في باب البحث ومختل الآلة في وجه الفحص، ومستهين بأمر الأديان، وغاو تحت حبالة الشيطان، ومقذوف بخذلان الرحمن. وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة ودرجات الحرمان مختلفة.

نماذج من الشعراء الذين أسلموا بفضل القرآن

وهلا جعلت بإزاء الكفرة، مثل لبيد بن ربيعة العامري في حسن إسلامه، وكعب بن زهير في صدق إيمانه، وحسان بن ثابت، وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أسلموا؟ على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر، أو بحر زاخر، انتهى.

وهذه أمثلة مما أشار إليه الإمام الباقلاني: روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه حديثاً طويلاً عن إسلامه، وفيه: أن أنيساً أخا أبي ذر ذهب إلى مكة ثم عاد فقال لأبي ذر: (لقيت رجلاً بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم. ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر. والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون).

شهادة جبير بن مطعم رضي الله عنه

ونسوق لك تصريح جبير بن مطعم بأن سبب تحول قلبه إلى الإسلام، أنه أصغى إلى تلاوة الرسول سورة الطور في صلاة المغرب. فقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير عن أبيه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي).

وهذا عمر – وكان في جاهليته أشد الناس عداء للإسلام وأذى للمسلمين – راح يمضي في بعض طرق مكة متوشحاً سيفه. فلقيه نعيم بن عبد الله وكان يكتم إسلامه: فسأله أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله، فقال نعيم: لقد غرتك نفسك، أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم، قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه.

قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه

فتحول عمر إلى بيت أخته، وكان خباب بن الأرت يعلمها وزوجها سورة طه من صحيفة معه. فلما سمعوا صوت عمر اختبأ خباب. فلما دخل عمر قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئاً، قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بصهره سعيد، فقامت فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فقالا له: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. فلما رأى ما بأخته من الدم، ندم وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، فاستحلفته أن يردها سالمة وطلبت إليه أن يغتسل ففعل.

فلما أخذ الصحيفة قرأ فيها صدر السورة: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى) ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس يقول: (اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب) فالله الله يا عمر، فقال له عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فدله فذهب إليه فأعلن إسلامه.

شهادة غير المسلمين والأجانب بإعجاز القرآن الكريم

وفي عصرنا هذا نجد المنصفين من غير المسلمين يشهدون بعظمة القرآن وإعجازه، ويعترفون للقرآن بذلك، فهذا الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي وقد كلفته وزارتا الخارجية والمعارف الفرنسية بترجمة سورة من السور الطوال التي لا تكرار فيها، ففعل وقدم في مقدمة ترجمته الصادرة سنة ١٩٢٦ نتيجة عمله الطويل الضخم بهذه الشهادة للقرآن فقال:

أما أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جل وعلا، فإن الأسلوب الذي ينطوي على كنه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهاً. والحق الواقع أن أكثر الكتاب شكاً وارتياباً قد خضعوا لسلطان تأثيره، ذلك أن هذا الأسلوب الذي طرق في أول عهده آذان البدو كان نثراً جد طريف، يفيض جزالة في اتساق نسق، متجانساً مسجعاً، لفعله أثر عميق في نفس كل سامع يفقه العربية. لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان أداء تأثير هذا النثر البديع «الذي لم يسمع بمثله» بلغة أخرى، وخاصة الفرنسية القاسية الضيقة «التي لا تتسع للتعبير عن الشعور»، زد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات العصرية ليست لغة دينية، وما استعملت فقط للتعبير عن الألوهية.

شهادات الأدباء المسيحيين بإعجاز القرآن الكريم

قال الرافعي: وصرح لنا بذلك «أي بإعجاز القرآن» أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير، وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية، وقد أشار إلى رأيه ذاك في مقدمة كتابه (نجعة الرائد)، وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران، ولا نعرف من شعراء القوم من يجاريه فأقر لنا بمثل ما أقر به أستاذه اليازجي، والأمر بعد إلى العقل «المنصف»، والعقل «المنصف» ليس له دين إلا الحق، والحق واحد لا يتغير.

كذلك الأديب الشاعر المعاصر نقولا حنا قد تلا القرآن، فجذبه إليه وشغل قلبه وفؤاده، وزاده إيماناً بالله على إيمانه، وقذف في أعماق فكره وضميره يقيناً راسخاً بأن القرآن هو كتاب الله المعجز العزيز وأنه يسمو على سائر معجزات الأنبياء، فهو معجزة إلهية خالدة تبرهن بنفسها على نفسها. وأعلن ذلك في قصيدة من روائع الشعر، عنون لها بهذا العنوان (من وحي القرآن) وقال في هذه القصيدة:

اقرأ أيضاً:  الإعجاز الموسيقي في القرآن الكريم: كيف يتحقق النظم الصوتي المعجز؟

يقولون ما آياته، ضل سعيهم * وآياته – ليست تعد – عظام
كفى معجز الفرقان للناس آية * علا وسما كالنجم ليس يرام
فكل بليغ عنده ظل صامتاً * كأن على الأفواه صُمٌّ كمام
وشاء إله العرش بالناس رحمة * وأن يتلاشى حقدهم وخصام
ففرق ما بين الضلالة والهدى * بفرقان نور لم يشبه قتام

الخاتمة

لقد تبين لنا من خلال هذا العرض الموجز أن إعجاز القرآن الكريم حقيقة ثابتة لا تقبل الجدل، شهد بها العرب الفصحاء في عصر النبوة رغم عداوتهم للإسلام، وأقر بها المنصفون من غير المسلمين في العصر الحديث. فالقرآن الكريم يمثل معجزة خالدة متجددة، تخاطب العقل والوجدان معاً، وتزداد وضوحاً مع تقدم العلوم والمعارف الإنسانية.

إن إعجاز القرآن الكريم ليس مقتصراً على الجانب البياني واللغوي فحسب، بل يشمل جوانب متعددة من الإعجاز التشريعي والعلمي والغيبي، مما يجعله آية باقية للعالمين إلى قيام الساعة. وقد امتازت هذه المعجزة القرآنية بالخلود والعمومية، وبكونها تتحدى العقل البشري دون أن تخرق السنن الكونية، بل تدعو الإنسان إلى التفكر والتدبر فيها.

ولا يزال التحدي القرآني قائماً منذ أربعة عشر قرناً، ولم يستطع أحد من البشر أن يأتي بسورة من مثله، مما يؤكد أن هذا الكتاب العظيم هو كلام الله المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه الحجة الدامغة والبرهان الساطع على صدق الرسالة الإسلامية.

سؤال وجواب

١. ما المقصود بإعجاز القرآن الكريم؟

إعجاز القرآن الكريم هو عجز البشر جميعاً عن الإتيان بمثل القرآن أو سورة منه رغم التحدي المستمر منذ نزوله. والمعجزة في الاصطلاح هي أمر يجريه الله على يد النبي يفوق طاقات البشر ويخرق قوانين الطبيعة وخواص المادة. وقد تحدى القرآن الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحداهم بعشر سور فعجزوا، ثم بسورة واحدة فعجزوا كذلك. ويشمل إعجاز القرآن الكريم جوانب متعددة منها الإعجاز البياني واللغوي والتشريعي والعلمي والغيبي.

٢. ما الفرق بين المعجزة القرآنية ومعجزات الأنبياء السابقين؟

تمتاز المعجزة القرآنية بأنها معجزة عقلية خالدة باقية إلى يوم القيامة، بينما كانت معجزات الأنبياء السابقين خوارق مادية حسية وقعت في زمان ومكان محددين ثم انقضت. كما أن القرآن هو بنفسه الوحي المدعى والخارق المعجز، فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير، بخلاف معجزات الأنبياء التي كانت مغايرة للوحي. وإعجاز القرآن لم يكن بمخالفة السنن الكونية، بل يدركه الإنسان بإعمال عقله، وكلما ازداد معرفة بسنن الكون ازداد يقيناً بإعجازه.

٣. لماذا كانت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم؟

لأن العرب كانوا قوم بيان وفصاحة يقادون بمقولهم، فجاءتهم المعجزة في أعلى ما برعوا فيه وهو اللغة والبلاغة. وقد جرت سنة الله تعالى أن يجعل المعجزة لكل نبي وثيقة الصلة بخبرة قومه وما أتقنوه، فكان موسى عليه السلام في قوم برعوا في السحر فكانت معجزته العصا، وعيسى عليه السلام في قوم برعوا في الطب فكانت معجزته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وهكذا كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم لأنه بعث في قوم الفصاحة والبيان.

٤. كم عدد المعجزات في القرآن الكريم؟

عدد المعجزات في القرآن الكريم كثير يضيق عنه الحصر والتعداد، فقد تحدى القرآن العرب أن يأتوا بسورة واحدة ولو من قصار السور، وأقصر سورة هي الكوثر تتألف من ثلاث آيات قصار، مما يعني أن كل آية طويلة معجزة وكل عدة آيات قصار تبلغ سورة الكوثر أو أكثر فهي معجزة. وبما أن عدد آيات القرآن يزيد على ستة آلاف آية، فإن عدد المعجزات يكون كثيراً جداً. وإذا نظرنا إلى أوجه الإعجاز المتعددة في القرآن من بياني وعلمي وتشريعي وغيبي تكون المعجزات أكثر.

٥. هل اعترف العرب بإعجاز القرآن الكريم؟

نعم، اعترف كثير من فصحاء العرب بإعجاز القرآن الكريم رغم عداوتهم للإسلام. فالوليد بن المغيرة قال عن القرآن: والله إن لقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته. وعتبة بن ربيعة قال بعد سماعه القرآن: سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. وأنيس أخو أبي ذر قال: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر.

٦. كيف تدرج التحدي القرآني للعرب؟

بدأ التحدي القرآني بأن يأتي العرب بمثل القرآن كله في قوله تعالى: فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين. ولما عجزوا خفف التحدي إلى عشر سور في قوله: قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله. ثم خفف التحدي مرة أخرى إلى سورة واحدة في قوله: قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله. وأكد هذا التحدي في سورة البقرة بقوله: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله. ثم قطع الله عليهم بأنهم لن يستطيعوا ذلك أبداً.

٧. ما الحكمة من كون المعجزة القرآنية عقلية وليست حسية؟

الحكمة من كون المعجزة القرآنية عقلية أنها تكون حجة دائمة على جميع الأجيال إلى يوم القيامة، فالحجة بها ملزمة وقت تنزلها كما أنها ملزمة في كل آن بعده. أما المعجزات الحسية فقد كانت تقع ثم تنقضي فتصير حجتها بالنقل عمن شاهدها. والمعجزة العقلية متاحة لكل الناس لأن البيان متاح والعقل هبة الله لكل إنسان. كما أن إعجاز القرآن يدركه الإنسان بإعمال عقله، وكلما ازداد معرفة بسنن الكون ازداد يقيناً بإعجاز القرآن، بخلاف المعجزات الحسية التي تخالف السنن الكونية.

٨. هل شهد غير المسلمين بإعجاز القرآن الكريم؟

نعم، شهد كثير من المنصفين من غير المسلمين بعظمة القرآن وإعجازه. فالدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي قال: أما أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جل وعلا، فإن الأسلوب الذي ينطوي على كنه الكائن الذي صدر عنه لا يكون إلا إلهاً. والشيخ إبراهيم اليازجي وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية أقر بإعجاز القرآن. والشاعر خليل مطران أقر بمثل ذلك. والأديب نقولا حنا كتب قصيدة من روائع الشعر عنونها بـ من وحي القرآن قال فيها: كفى معجز الفرقان للناس آية علا وسما كالنجم ليس يرام.

٩. لماذا لم يعارض العرب القرآن رغم فصاحتهم؟

لم يعارض العرب القرآن لأنهم أدركوا عجزهم التام عن ذلك رغم أنهم كانوا في أوج فصاحتهم وبلاغتهم. فقد كان معارضة القرآن أسهل عليهم من تحمل الحرب والقتال وترك الأوطان، لكنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك بل انفضوا يواجهون الإعجاز باعتلالات هزيلة واعتذارات متهافتة. وقد كان فيهم من الرسوخ الأدبي والعلم بأسرار البيان ما يجعلهم يميزون بالبداهة بين الغث والسمين. وقد كانوا يخافون أن يسمعوا القرآن فيتأثروا به، ولذلك قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون.

١٠. ما علاقة إعجاز القرآن بالثقافة العربية واللغوية؟

ترتبط قضية إعجاز القرآن ارتباطاً بالغاً غاية التوثق والقوة بالثقافة العامة واللغوية خاصة، فهي جوهر دراسات القرآن ولبابها وأهم قضية في العربية يواجهها العقل الحديث والمثقف في العصر الحديث. ومعرفة معنى إعجاز القرآن وأسراره وجوانبه أمر لا يستغني عنه الدارس لأثره الكبير في ثقافته بل في تكوين ذوقه الفني وإدراكه الجمالي. فقضية إعجاز القرآن لا تختص بجانب اللغة فقط بل تشمل بناء الإنسان من حيث هو قادر على تذوق الجمال في الصورة أو في الفكر أو فيهما جميعاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى