مصطلحات أدبية

الكرنفالية عند باختين: كيف غيرت فهمنا للأدب والثقافة؟

ما الذي يجعل الكرنفال مفهوماً نقدياً ثورياً في الفكر الأدبي؟

تُمثل نظرية ميخائيل باختين حول الكرنفالية نقطة تحول جذرية في فهمنا للنصوص الأدبية والممارسات الثقافية. لقد قدم الناقد الروسي رؤية فريدة تربط بين احتفالات الساحات الشعبية وبين آليات إنتاج المعنى داخل الأدب، مما فتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين والدارسين.

ما هي الكرنفالية وما أصولها النظرية؟

عندما نتحدث عن الكرنفالية في السياق الباختيني، فإننا نشير إلى أكثر من مجرد مفهوم نقدي؛ إذ نحن أمام منظومة فكرية متكاملة تعيد تعريف العلاقة بين النص والسياق الاجتماعي. قدم ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin) هذا المصطلح في دراساته المعمقة حول أعمال الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه خلال خمسينيات القرن العشرين، مستلهماً فكرته من احتفالات الكرنفال الشعبية في أوروبا العصور الوسطى وعصر النهضة. كانت تلك الاحتفالات تمثل لحظات استثنائية تُعلق فيها القواعد الاجتماعية الصارمة مؤقتاً، وتُقلب فيها الهرميات التقليدية رأساً على عقب.

بالإضافة إلى ذلك، فإن باختين لم يقتصر على وصف الكرنفال كحدث اجتماعي فحسب، بل تعمق في فهم بنيته الداخلية وآلياته الرمزية. إن الكرنفالية بالنسبة له هي رؤية للعالم (Worldview) تتحدى الخطاب الأحادي المهيمن وتفتح المجال لتعددية الأصوات والآراء. هذا المنظور يُعَدُّ ثورياً في عصره، خاصة في ظل الأنظمة الشمولية التي كانت تسعى لفرض صوت واحد على المجتمع. وعليه فإن فهم الكرنفالية يتطلب منا استيعاب السياق التاريخي الذي أنتجها، وكذلك الظروف السياسية والثقافية التي دفعت باختين لصياغة نظريته بهذا الشكل الجذري.

كيف ارتبطت الكرنفالية بالثقافة الشعبية الأوروبية؟

لقد وجد باختين في احتفالات الكرنفال الأوروبية نموذجاً حياً للتعبير الشعبي الحر والعفوي. كانت هذه الاحتفالات تُقام في الساحات العامة، خارج جدران الكنائس والقصور، مما يمنحها طابعاً ديمقراطياً فريداً. في تلك اللحظات الزمنية المحددة، كان الملك يصبح شحاذاً والشحاذ يصبح ملكاً، وكانت الأقنعة والأزياء المبالغ فيها تخفي الهويات الطبقية وتسمح بحرية غير مسبوقة في التعبير والسلوك. فما هي العناصر الثقافية التي جعلت هذه الممارسات ممكنة؟ الإجابة تكمن في الوعي الشعبي الجمعي الذي كان يفهم الكرنفال كمساحة مؤقتة للتحرر من القيود الاجتماعية.

من ناحية أخرى، فقد لاحظ باختين أن الكرنفالية لم تكن مجرد ترفيه سطحي، بل كانت تحمل أبعاداً فلسفية عميقة. إن الضحك الكرنفالي ليس ضحكاً ساخراً أو استهزائياً، بل هو ضحك تحرري يجمع بين النقد والاحتفاء، بين الهدم والبناء. كما أن الثقافة الشعبية التي ولدت منها الكرنفالية كانت تحمل ذاكرة جماعية تمتد لقرون، ذاكرة تحتفظ بأشكال المقاومة الرمزية ضد السلطات الرسمية. هذا الارتباط الوثيق بين الكرنفال والثقافة الشعبية جعل باختين يرى فيه مفتاحاً لفهم الأشكال الأدبية التي تبنت هذه الروح التحررية، وبالتالي أصبحت الكرنفالية أداة تحليلية قوية لقراءة النصوص الأدبية التي تحمل بصمات هذا الوعي الشعبي.

ما العناصر الأساسية للكرنفالية في التحليل الأدبي؟

تتميز الكرنفالية بمجموعة من الخصائص المحورية التي تجعلها مفهوماً نقدياً متفرداً. لقد حدد باختين عناصر أساسية يمكن من خلالها تمييز النص الكرنفالي عن غيره، وهذه العناصر تشكل منظومة متكاملة تعكس الروح الكرنفالية في الأدب.

العناصر المركزية للكرنفالية:

١. قلب الهرميات: تعمل الكرنفالية على عكس التسلسلات الهرمية الاجتماعية؛ إذ يصبح الأعلى في الأسفل والأسفل في الأعلى، مما يخلق فضاءً نصياً يتحرر من القيود الطبقية.

٢. المزج بين المتناقضات: إن الجمع بين الجاد والهزلي، المقدس والمدنس، الرسمي والشعبي، يشكل جوهر الرؤية الكرنفالية للعالم.

٣. الجسد المادي: تركز الكرنفالية على الجانب المادي للوجود الإنساني، بما يشمل الأكل والشرب والجنس والإخراج، رافضة الروحانية المجردة.

٤. تعددية الأصوات: يُعَدُّ التعدد الصوتي (Polyphony) سمة مهمة، إذ تتعايش أصوات مختلفة دون أن يهيمن صوت واحد على الآخرين.

٥. الزمن الكرنفالي: يتميز بكونه زمناً استثنائياً خارج التسلسل الزمني العادي، زمناً للتجديد والولادة المستمرة.

بينما تظهر هذه العناصر بوضوح في الأعمال الأدبية الكبرى، فإنها ليست مجرد تقنيات شكلية، بل تعبر عن رؤية فلسفية شاملة للحياة والمجتمع. وكذلك يمكننا القول إن فهم هذه العناصر يساعدنا على قراءة النصوص الأدبية قراءة أعمق تكشف عن الطبقات المخفية من المعنى. أتذكر عندما قرأت للمرة الأولى رواية “دون كيخوته” لثربانتس بعيون باختينية، كيف انكشفت لي أبعاد لم ألحظها من قبل، خاصة في تلك المشاهد التي يختلط فيها النبيل بالفلاح، والوهم بالحقيقة؛ إذ كانت الكرنفالية حاضرة في كل صفحة تقريباً.

كيف تتجلى الكرنفالية في الأعمال الأدبية؟

إن الأدب الذي يحمل روح الكرنفالية يتميز بخصائص واضحة تميزه عن الأدب الرسمي أو الكلاسيكي. فقد درس باختين بعمق أعمال فرانسوا رابليه، خاصة روايته الشهيرة “جارجانتوا وبانتاجرويل”، ووجد فيها تجسيداً مثالياً للكرنفالية الأدبية. في هذا العمل، تظهر الشخصيات العملاقة التي تأكل وتشرب بكميات هائلة، مما يمثل احتفاءً بالجسد المادي والغرائز الإنسانية. كما أن السرد يمزج بين العالم الواقعي والخيالي، بين الحكمة والحماقة، بطريقة تعكس الفوضى الإبداعية للكرنفال.

من جهة ثانية، يمكن تتبع الكرنفالية في أعمال أدبية عديدة عبر العصور. الجدير بالذكر أن دوستويفسكي كان محط اهتمام باختين أيضاً؛ إذ وجد في رواياته تعددية صوتية فريدة لا تخضع لسيطرة صوت المؤلف الواحد. إن شخصيات دوستويفسكي تتحاور وتتصارع وتطرح وجهات نظر متباينة دون أن يحسم الراوي الأمر لصالح رؤية واحدة. هذا وقد لاحظت شخصياً أثناء تدريسي لرواية “الإخوة كارامازوف” كيف أن الطلاب ينقسمون في تعاطفهم مع الشخصيات المختلفة، وهذا بالضبط ما قصده باختين بالتعددية الصوتية. وبالتالي فإن الكرنفالية ليست مجرد موضوع يتناوله الأدب، بل هي طريقة في الكتابة وبناء النص.

ما الفرق بين الخطاب الرسمي والخطاب الكرنفالي؟

يُؤسس باختين تمييزاً واضحاً بين نمطين من الخطاب: الخطاب الرسمي المونولوجي، والخطاب الكرنفالي الحواري. يمثل الخطاب الرسمي صوت السلطة الواحد الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة؛ إذ يفرض معايير صارمة ويحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. هذا الخطاب يتسم بالجدية الدائمة والتراتبية الواضحة والانغلاق على ذاته.

اقرأ أيضاً:  الكوميديا: فلسفة الإضحاك وآلياته الاجتماعية

خصائص التمييز بين الخطابين:

١. البنية السردية: الخطاب الرسمي يتبع بنية خطية ومنطقية، بينما الخطاب الكرنفالي يتميز بالتشتت والتعددية.

٢. اللغة المستخدمة: الرسمي يستخدم لغة فصحى ومعيارية، في حين يمزج الكرنفالي بين الفصحى والعامية والمبتذل.

٣. العلاقة بالقارئ: الرسمي يخاطب القارئ من موقع السلطة والتعليم، بينما الكرنفالي يدعوه للمشاركة والحوار.

٤. موقف الجسد: الرسمي يتجاهل أو يقلل من شأن الجسد المادي، والكرنفالي يحتفي به ويضعه في المركز.

٥. الموقف من الحقيقة: الرسمي يدعي امتلاك الحقيقة الواحدة، والكرنفالي يعترف بنسبية الحقائق وتعددها.

على النقيض من ذلك، فإن الخطاب الكرنفالي يفتح المجال لأصوات مهمشة كانت مستبعدة من الخطاب الرسمي. إنه يمنح الكلمة للمجنون، للأبله، للمهرج، لكل من تم إسكاته في الخطاب الجاد. هل سمعت به من قبل عن شخصية المهرج الحكيم في الأدب؟ إنها تجسيد مثالي للكرنفالية؛ إذ تجمع بين الحماقة الظاهرية والحكمة العميقة، وتقول الحقيقة من خلال قناع الهزل. لقد واجهت موقفاً شخصياً يوضح هذا الأمر؛ إذ كنت في ندوة أكاديمية رسمية للغاية، وكان أحد الحضور يطرح أسئلة بدت ساذجة للوهلة الأولى، لكنها في الواقع كانت تهز أسس النقاش المُتفق عليه ضمنياً، وكذلك كانت تكشف عن افتراضات غير معلنة في الخطاب الأكاديمي السائد.

لماذا تُعَدُّ الكرنفالية أداة للتحرر الثقافي؟

تحمل الكرنفالية في طياتها إمكانية تحررية هائلة، ليس فقط على المستوى الأدبي، بل على المستوى الاجتماعي والسياسي أيضاً. إن قلب الهرميات وتحدي السلطات الرسمية، حتى لو كان رمزياً ومؤقتاً، يفتح فضاءً للتفكير في بدائل ممكنة للنظام القائم. لقد فهم باختين أن الكرنفال لا يقدم ثورة حقيقية بالمعنى السياسي المباشر، لكنه يحافظ على ذاكرة الحرية ويبقي حلم التحرر حياً في الوعي الجمعي.

بالمقابل، فإن السلطات الرسمية عبر التاريخ أدركت الخطر الكامن في الكرنفالية، ولهذا حاولت السيطرة عليها أو منعها في أحيان كثيرة. إن السماح للناس بتذوق طعم المساواة ولو لأيام معدودة قد يثير تساؤلات خطرة حول شرعية الهرميات الدائمة. كما أن الكرنفالية تعلمنا أن المعايير الاجتماعية ليست طبيعية أو أبدية، بل هي بنى قابلة للتفكيك وإعادة البناء. من ناحية أخرى، يمكن للأدب الكرنفالي أن يلعب دوراً تحررياً من خلال تقديم نماذج بديلة للتفكير والعيش، ومن خلال إعطاء صوت لمن لا صوت لهم في الخطاب الرسمي. وعليه فإن الكرنفالية تتجاوز كونها مجرد أداة نقدية لتصبح موقفاً أخلاقياً وسياسياً يرفض أي شكل من أشكال الهيمنة الأحادية.

كيف أثرت الكرنفالية في النقد الأدبي المعاصر؟

امتد تأثير نظرية باختين حول الكرنفالية إلى مساحات واسعة في النقد الأدبي والثقافي المعاصر. فقد تبنى نقاد ما بعد البنيوية والنقد الثقافي العديد من أفكار باختين، خاصة تلك المتعلقة بتعددية الأصوات ونسبية المعنى. إن مفهوم الحوارية (Dialogism) الذي طوره باختين أصبح أداة تحليلية مركزية في دراسة النصوص، سواء كانت أدبية أو سينمائية أو حتى خطابات سياسية. كما أن الدراسات ما بعد الكولونيالية وجدت في الكرنفالية إطاراً نظرياً مفيداً لفهم كيف تقاوم الثقافات المهمشة الخطابات الاستعمارية المهيمنة.

إذاً كيف يمكننا تطبيق الكرنفالية في قراءاتنا المعاصرة؟ يمكننا البحث عن اللحظات التي ينقلب فيها النص على نفسه، حيثما تظهر التناقضات والمفارقات، حيثما يُسمع صوت مختلف يتحدى السردية السائدة. هذا وقد أثرت الكرنفالية في دراسات الثقافة الشعبية أيضاً؛ إذ استخدم باحثون كثر مفاهيم باختين لتحليل الكوميديا والساتيرا والأشكال الفنية الشعبية. ومما يُلفت الانتباه أن الكرنفالية وجدت صدى قوياً في الثقافة العربية، خاصة في الأعمال التي تعتمد على السخرية والمفارقة لنقد السلطة والمجتمع. برأيكم ماذا تمثل شخصيات مثل جحا أو أبو شادوف في تراثنا؟ الإجابة هي أنها تجسيدات عربية للروح الكرنفالية، حيث الحكمة تتنكر في زي الحمق، والنقد يتخفى وراء الضحك.

الخاتمة

في نهاية هذه الرحلة مع الكرنفالية في نظرية باختين، يتضح لنا أننا أمام مفهوم غني ومتعدد الأبعاد يتجاوز حدود النقد الأدبي ليصبح فلسفة في رؤية العالم والتعامل معه. لقد نجح ميخائيل باختين في استلهام روح الكرنفال الشعبي وتحويلها إلى أداة نظرية قوية تساعدنا على فهم كيف تتشكل المعاني، وكيف تتصارع الأصوات، وكيف يمكن للأدب أن يكون مساحة للتحرر والمقاومة.

إن الكرنفالية تذكرنا بأن الحياة أكثر ثراءً وتعقيداً من أي خطاب أحادي يحاول اختزالها؛ إذ تدعونا لاحتضان التناقضات، للاحتفاء بالتنوع، ولرفض كل أشكال الهيمنة الثقافية والفكرية. إنها تُعلمنا أن الضحك يمكن أن يكون فعلاً ثورياً، وأن الهزل قد يحمل حقائق أعمق من الجدية الرسمية. وبالتالي، فإن دراسة الكرنفالية ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل هي دعوة لإعادة النظر في علاقاتنا بالنصوص، بالثقافة، وبالسلطة.

هل أنت مستعد لقراءة النصوص الأدبية بعيون كرنفالية جديدة تكشف لك عوالم من المعاني المخفية والأصوات المكتومة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى