الأدب العربي

سجع الكهان: أسلوبه، خصائصه، ونماذجه في النثر الجاهلي

نظرة عميقة في فن الكلام المقفى عند العرب قبل الإسلام ودوره في التأثير والسلطة

يمثل سجع الكهان ظاهرة لغوية وأدبية فريدة في العصر الجاهلي، حيث امتزجت فيه البلاغة بالغموض والتنبؤ. يستكشف هذا المقال جوهر هذا الفن، ويكشف عن أسرار تأثيره وسلطانه على العقلية العربية القديمة.

مقدمة

يُعد سجع الكهان أحد أبرز الأساليب النثرية التي سادت في العصر الجاهلي، وهو ليس مجرد زخرفة لفظية، بل كان أداة تأثير قوية ارتبطت بطائفة الكهان الذين ادعوا معرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل. لقد استخدموا هذا الأسلوب الموزون والمقفى ليضفوا على كلامهم هالة من القداسة والغموض، مما جعله نافذاً في قلوب وعقول العرب آنذاك. إن فهم طبيعة سجع الكهان وخصائصه لا يقتصر على كونه دراسة أدبية فحسب، بل هو مدخل أساسي لفهم البنية الاجتماعية والثقافية والدينية للمجتمع الجاهلي، وكيف كان للكلام المسجوع سلطة تتجاوز أحيانًا سلطة السيف.

مفهوم السجع في اللغة والاصطلاح

السجع في اللغة الصوت المتوازن. قال أحمد بن فارس: «السين والجيم والعين أصل يدل على صوت متوازن.. ويقال سجعت الحمامة إذا هدرت». وفي الاصطلاح والكلام المقفى.. وسجع تسجيعاً: تكلم بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن.

وصاحبه سجاعة، وهو من الاستواء والاستقامة والاشتباه، كأن كل كلمة تشبه صاحبتها. قال ابن جني: سُمي سجعاً لاشتباه أواخره وتناسب فواصله. إن فهم هذا التعريف يوضح أن جوهر سجع الكهان يعتمد على التناغم الصوتي في نهايات الجمل.

دور الكهان ومكانتهم في العصر الجاهلي

السجع في الجاهلية ضرب من الكلام التزم فيه الكهان السجع، لا يفارقونه وربما ورد في كلام غيرهم كالسجع في بعض الخطب والوصايا والأمثال. والكهان – كما تصورهم أخبار العصر الجاهلي – طائفة من الناس كانت تدعي التنبؤ ومعرفة المغيبات. وكان أسلوب سجع الكهان هو أداتهم الرئيسة في التواصل.

وكل كاهن كان يدعي أن له رئياً أو تابعاً من الجن يسترق له السمع، وينضو حجب الغيب، ويستطلع ما سيكون. وكان العربي الجاهلي يصدق الكاهن أحياناً، ويفزع إليه يستشيره في المعضلات، ويستنصحه في جلائل الأعمال كعقد حلف، الكشف عن قاتل، وإشعال حرب ويحتكم إليه في خصومة أو منافرة، أو تعبير رؤية. وقد يستبق الكاهن قومه فيتنبأ لهم بما سيقع، فيحذرهم كارثة تهددهم، أو غزوا يدبر لهم. وحكم الكاهن في أغلب الأحوال كان مقبولاً لا يرد، وقضاؤه كان نافذاً لا ينقض، فإذا شاعت للكاهن شهرة، وأثر عن تنبئه الصدق في بعض المواقف اتسع نفوذه، وجاز حدود القبيلة التي ينتمي إليها.

أشهر الكهان وأقوالهم المأثورة

من أشهر الكهان الذين برعوا في استخدام سجع الكهان وأثروا في مجتمعاتهم:

  • سطيح الذئبي.
  • شق بن مصعب الأنماري.
  • المأمور الحارثي.
  • خنافر الحميري.
  • عوف بن ربيعة الأسدي الذي حرض قومه على الثورة بحجر بن الحارث وعلى قتله.
  • زبراء الكاهنة.
اقرأ أيضاً:  مصادر الأدب الجاهلي: بين رمال الشك وجذور التوثيق

وقد رويت عنهم أقوال أكثرها مصنوع، يشيع فيه إلى جانب السجع غريب اللغة، وحلف الأيمان بكل ما في الكون من مظاهر القوة المستورة والظاهرة، وما يحيط بالأرض من كواكب ونجوم. وهذا الأسلوب من الكلام كان يجعل لهم سلطاناً سحرياً على الدهماء. إن أسلوب سجع الكهان كان يعتمد على هذا المزيج من الإيقاع واللغة الغامضة والأقسام المهيبة.

نماذج تحليلية من سجع الكهان

إليك فقرات من سجع الكهان نختارها من خبر طويل، رواه صاحب الأغاني: وكان قسي بن منبه مقيماً باليمن، فضاق عليه موضعه، فأتى الطائف.. فأتى إلى الظرب العدواني.. فوجده نائماً تحت شجرة فأيقظه، وقال: من أنت؟ قال: أنا الظرب قال: علي آلية إن لم أقتلك أو تحلف لي لتزوجني ابنتك. ففعل، وانصرف الطرب ومشى معه، فلقيه ابنه عامر بن الظرب فقال: من هذا يا أبت؟ فقص قصته. قال عامر: الله أبوك لقد ثقف أمره، فسمي يومئذ ثقيفاً. قال وغير الظرب بتزويجه قسياً، وقيل: زوجت عبداً فسار إلى الكهان يسألهم، وانتهى إلى شق، وكان أقربهم منه. فلما انتهى إليه قال: إنا قد جئناك في أمر فما هو؟ قال شق:

  • جئتم في قسي
  • وقسي عبد إياد أبق ليلة الوادي، في وج ذات الأنداد
  • فوالى سعد اليفاد، ثم لوى بغير ميعاد.

ثم توجهوا إلى سطيح الذئبي.. فقالوا: إنا جئناك في أمر فما هو؟ قال سطيح:

  • جئتم في قسي
  • وقسي من ولد ثمود القديم، ولدته أمه بصحراء تريم
  • فالتقطه إياد وهو عديم، فاستعبده وهو مليم.

خصائص أسلوب سجع الكهان الفنية

ومن سجع الكهان ما خاطبت به زبراء الكاهنة بني رئام إذ قالت:
واللوح الغافق
والليل الغاسق،
والصباح الشارق،
والنجم الطارق
والمزن الوادق
إن شجر الوادي ليأدو ختْلاً، ويحرق أنياباً عُصْلاً.
وإن صخر الطود لينذر ثكلاً، لا تجدون عنه معلا

ولم يكن أسلوب السجع قاصراً على الكهان، فقد شاع في كلام العائفين كقول سعد بن زيد مناة يخاطب جندب بن العنبر: أما والذي أحلف به لتأسرنك ظعينة، بين القرية والرقينة، وقد أخبرني طيري أنه لا يغنيك غيري وشاع في المحاورة بين الناس كالمحاورة بين معبد بن زرارة وعمرو بن هند.

السجع في كلام غير الكهان: المحاورات والوصف

فقد أحب معبد بن زرارة أن يعتذر لعمرو بن هند ويستغفره لقومه، فركب إليه بعد يوم أواره، وانتظر خروجه إلى الصيد، فلما رآه داناه واعترضه في الصحراء، يريه أنه قادم من سفر فقال له عمرو: من أين أقبلت أيها الراكب؟ قال: من بلد سماؤه غبراء، وأرضه قشراء … وتربه مور، وماؤه غور، وأهله يتكنفون بالغثاث”، ويتقرمصون في البراث. فالطفل مرموع، واليافع مقصوع، فلا مسكة لفقير، ولا صمته لصغير، ولا حراك لكبير…

اقرأ أيضاً:  غزل الكهول في الشعر الجاهلي: تحليل عميق لصدى الحسرات وقوة الذكريات

وهذه النموذجات من السجع – وإن اختلفت موضوعاتها – متفقة الصياغة، فأصحابها يعتمدون ضروباً من الزخرفة والتنميق والتحبير والتجويد والإيقاع الموسيقي، ليكون الكلام أدخل في النفس، وأبعد أثراً»، وقد يمزجون السجع بالازدواج، وهو قريب من السجع في إيقاعه الصوتي. ومن أمثلة ذلك حديث سعد بن مالك بن ضبيعة وقد وفد على النعمان الأكبر، فسأله النعمان عن أرضه، هل أصابها غيث يحمد أثره، أو يروي شجره؟ فقال سعد: «أما المطر فغزير، وأما الورق فشكير وأما النافذة فساهرة، وأما الحازرة فشبعى نائمة. وأما الرمثاء فقد امتلأت مساربها، وابتلت جنائبها . . .

جماليات النثر المسجوع وقربه من الشعر

وأضافوا إلى السجع ألواناً من التصوير محكمة الصنعة، بارعة الصقل، فجاء نثرهم قطعاً فنية آسرة. وصف علبة بن مسهر الحارثي أعمامه في وفادته على ذي فائش الحميري، فقال: … فأما زياد فما استل سيفه من ملكت يده قائمه إلا أغمده في جثمان بطل، أو شوامت جمل. وكان إذا حملق النجيد، وصلصل الحديد، وبلغت النفس الوريد، اعتصمت بحقويه الأبطال اعتصام الوعول بذرى القلال، فذاد عنهم الأبطال ذياد القروم، عن الأشوال.

ولا يخفى ما في هذا النثر المسجع المصوّر من سحر يقربه من الشعر. ولو طاف به طائف من إيقاع الخليل بن أحمد لما دفعه عن الانتماء إلى الشعر دافع. وهذا يعني أن في رأي من رأى أن النثر المسجوع مرحلة من الشعر الموزون المقفى حظاً من الصدق.

خاتمة

في الختام، يتضح أن سجع الكهان لم يكن مجرد شكل من أشكال التعبير الفني، بل كان نظاماً متكاملاً من التواصل يجمع بين البلاغة اللغوية والتأثير النفسي والسلطة الاجتماعية. من خلال دراسة نماذجه وخصائصه، ندرك كيف استطاع الكهان وغيرهم من خطباء الجاهلية تطويع اللغة لخلق إيقاع موسيقي آسر وصور فنية مبهرة، مما مهد الطريق لتطور أشكال النثر الفني في العصور اللاحقة. يظل سجع الكهان شاهداً على عبقرية اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن أعقد الأفكار وأعمق المشاعر بأسلوب فريد ومؤثر.

سؤال وجواب

١. ما هو تعريف سجع الكهان في الأدب الجاهلي؟
هو ضرب من الكلام المقفى التزم به الكهان في العصر الجاهلي، يعتمد على فواصل متوازنة صوتياً كفواصل الشعر ولكن دون وزن، وكان أداة رئيسة لهم في التنبؤ والتأثير.

٢. ما هو الدور الاجتماعي للكهان في العصر الجاهلي؟
كان الكهان طائفة تدعي معرفة الغيب، يلجأ إليهم الناس للاستشارة في الأمور الهامة كالحروب والأحلاف، والفصل في الخصومات، وتعبير الرؤى، وكان حكمهم نافذاً ومقبولاً.

٣. كيف كان الكهان يكتسبون مصداقيتهم؟
كان كل كاهن يدعي أن له تابعاً من الجن يسترق له السمع ويكشف له الغيب، وكانت شهرتهم تزداد وتتسع إذا صدقت تنبؤاتهم في بعض المواقف.

٤. ما هي الخصائص الفنية الرئيسة لأسلوب سجع الكهان؟
يتميز أسلوبهم باستخدام السجع، واللغة الغريبة، وحلف الأيمان بمظاهر الكون، بالإضافة إلى ضروب من الزخرفة اللفظية والتصوير الفني والإيقاع الموسيقي لإضفاء تأثير سحري على السامعين.

٥. من هم أشهر الكهان الذين عُرفوا في العصر الجاهلي؟
من أشهرهم سطيح الذئبي، وشق بن مصعب الأنماري، والمأمور الحارثي، وخنافر الحميري، وعوف بن ربيعة الأسدي، والكاهنة زبراء التي حذرت قومها بسجعها الشهير.

٦. هل اقتصر استخدام أسلوب السجع على الكهان فقط؟
لا، لم يكن الأسلوب قاصراً عليهم، بل شاع أيضاً في كلام العائفين، وفي بعض الخطب والوصايا، وحتى في المحاورات اليومية بين الناس كما في حوار معبد بن زرارة وعمرو بن هند.

٧. ما الفرق بين السجع والازدواج في النثر الجاهلي؟
السجع هو توافق الفواصل في الحرف الأخير، أما الازدواج فهو تقارب الجمل في الطول والوزن الصوتي، وقد كان النثر الجاهلي يمزج بينهما لتحقيق إيقاع موسيقي مؤثر.

٨. كيف استخدم سجع الكهان عناصر الطبيعة في كلامهم؟
كانوا يقسمون بمظاهر الكون والقوة كـ “اللوح الخافق والليل الغاسق” ليضفوا على كلامهم رهبة وقداسة، مما يعزز من سلطتهم الروحية على الناس.

٩. ما هي العلاقة بين النثر المسجوع والشعر؟
النثر المسجوع، بما فيه من إيقاع وتصوير فني محكم، يقترب كثيراً من الشعر، حتى إن البعض يرى أنه يمثل مرحلة تمهيدية للشعر الموزون المقفى.

١٠. ما الهدف من استخدام اللغة الغريبة في سجع الكهان؟
كان الهدف هو إضفاء الغموض والهيبة على كلامهم، وجعله يبدو وكأنه صادر من مصدر غير بشري، مما يزيد من تأثيره وسلطانه السحري على عقول الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى