تراجم

الماوردي: من هو، سيرته حياته وهل كان معتزلياً؟

هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الشافعي، يُعْرَف بالماوردي نسبة إلى عمل ماء الورد وبيعه، كان رئيس الشافعية في عصره وأقضى القضاة، وهو متفنِّنٌ في شتى العلوم، ومصنِّف فيها.

عصره

شهد العصر الذي عاش فيه الماوردي أزمات سياسية أدت إلى اضطرابات أمنية في الدولة العباسية، فتحولت إلى دويلات متناحرة، دان بعضها بالولاء الشكلي للخليفة العباسي، واستقل بعضها الآخر عن الدولة العباسية استقلالاً تاماً.

غير أن هذا الضعف السياسي قارنة ازدهار علمي كبير، فقد شجع أمراء تلك الدويلات العلماء والأدباء وأرباب الفكر وأحاطوهم بعنايتهم وإكرامهم وعطاياهم؛ فنشطت الحركة العلمية وأعمال التصنيف، ونبغ الكثير من رجالات العلم والأدب وأُسست لهم المدارس والمؤسسات التعليمية المختلفة.

حياته

ولد الإمام الماوردي في البصرة عام ٣٦٤ هـ، وبها كانت نشأته وبداية تلقيه العلم، حيث تقفه على يد أبي القاسم الصَّيمري.

ثم ارتحل إلى بغداد فتلقى عن شيخها أبي حامد الإسفراييني، وبقي في بغداد يتلقى العلم إلى أن بلغ أهلية التدريس فدرَّس في بغداد والبصرة.

وُلِّيَ القضاء في بلدان شتى، ثم عاد بعد ذلك إلى بغداد ليستقر فيها يُدَرِّسُ ويضع مصنفاته. توفي في بغداد يوم الثلاثاء من ربيع الأول سنة خمسين وأربعمئة، وعمره ست وثمانون سنة، ودفن من الغد في مقبرة باب حرب، وصلى عليه تلميذه الخطيب البغدادي، وحضر جنازته الكثير من اهل العلم ورجال الحكم.

مصنفات ومؤلفات الماوردي

يعد الإمام الماوردي عالماً موسوعياً، قال عنه السبكي في (الطبقات): «له التَّفَنُّنُ التام في سائر العلوم.

وقال عنه ياقوت الحموي: في (معجم الأدباء): «له تصانيفُ حسان في كل فن».

فمِنْ كتبه رحمه الله:

١ –النكت والعيون: وهو كتاب في تفسير القرآن الكريم، أخذ عليه بعض العلماء تأييده للمعتزلة في تأويل بعض الآيات على ما يوافق مذهبهم.

٢ –الحاوي: وهو موسوعة كبرى في فقه الشافعية، تجلت في مقدرته العلمية واستقلاله في النظر والاجتهاد والترجيح، قال عنه ابن خِلِّكان: «مَْن طالع كتاب الحاوي له؛ يشهد له بالتبحر ومعرفة المذهب».

٣ –الإقناع: وهو كتاب في الفقه الشافعي، اختصر به كتاب الحاوي، وكان قد كتب هذين الكتابين للخليفة القادر بالله، ونقل ياقوت الحموي عن الماوردي قوله: «بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، واختصرته في أربعين» يريد كتابيه الحاوي والإقناع.

٤ –أعلام النبوة: كتاب في العقيدة يبحث مسائل علامات النبوة ومعجزات الأنبياء.

٥ –كتاب الأمثال والحكم: جمع فيه عدداً من الأحاديث الجامعة والأقوال البليغة وأشعار الحكمة.

اقرأ أيضاً:  ابن القيم أو ابن قيم الجوزية: فقيه وإمام ونحوي

٦ –الأحكام السلطانية: وهو أشهر كتبه، وأول ما طُبع منها، إذ طبع في بون سنة ١٨٥٣، وتُرجِم إلى لغات عديدة، ويبحث في مسائل الحكم، وإدارة الدولة، وما يتعلق بذلك؛ من شروط الخليفة وواجباته، وأمور الوزارة والإمارة والقضاء، وغير ذلك.

٧ –نصيحة الملوك: في الفقه السياسي، عمل على تحقيقه الدكتور رضوان السيد.

٨ –قوانين الوزارة وسياسة الملك: في الفقه السياسي كذلك، حققه الدكتور رضوان السيد.

٩ –تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق المِلك وسياسة المُلك.

١٠ –أدب الدنيا والدين.

والكتب الخمسة الأخيرة تكشف عن مكانة الإمام الماوردي ومعرفته العميقة في قضايا السياسة والحكم، ومسائل علم النفس، والاجتماع والأخلاق، حتى غدا رائداً لكثير ممن جاء بعده في هذا المجال.

سيرته ومكانته العلمية

تشهد مصنفات الماوردي بعلمه الغزير ومعرفته الموسوعية؛ فهو مفسر وقاضٍ، وهو كذلك أديب لغوي ومُرَبٍّ، إضافة إلى كونه صاحب فكر سياسي وإداري.

وقد حَفِظَتْ لنا المصادر بعضاً من ثناء علماء مصر عليه، فقد قال عنه أبو الفضل بن خيرون: «له التصانيف الحسان في كل فن من العلم».

وقال عنه أبو إسحاق الشيرازي: «له مصنفات كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الفقه والأدب، وكان حافظاً للمذهب».

وقال عنه أبو بكر الخطيب البغدادي: «كان من وجوه فقهاء الشافعيين، وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه وفي غير ذلك، وكان ثقة».

والإمام الماوردي بالإضافة إلى ما سبق صاحب شخصية علمية مستقلة كما تدل على ذلك كتاباته المختلفة، وعلى وجه خاص كتاب (الحاوي) حيث ظهر فيه استقلاله العلمي في النظر والاستدلال والترجيح، وكان من مجتهدي المذهب، يأبى على نفسه التقليد.

روى ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) أن الماوردي كان قد سلك طريقة في توريث ذوي الأرحام يورث القريب والبعيد بالسوية، وهو مذهب بعض المتقدمين، فجاءه يوماً الفقيه الشينيزي فصعد إليه المسجد وصلى ركعتين ثم التفت إليه قائلاً: «أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع»، فقال: «بل أجتهد ولا أقلد»، فلبس نعله وانصرف.

فقوله: بل أجتهد ولا أقلد، قد تمثله تماماً في مباحث كثيرة حتى ولو أدى به الاجتهاد إلى الانفراد عما ذهب إليه جماهير أصحاب المذهب.

ولعل هذا ما يوضح لنا تهمة الاعتزال التي رُمِيَ بها، فقد نقل الذهبي والسبكي عن ابن الصلاح قوله في الماوردي في الطبقات: «هذا الماوردي عفا الله عنه يُتَّهَمُ بالاعتزال وكنت لا أحقق ذلك عليه، وأتأوله له، وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة وجوهاً يسردها، يمزج فيها أقاويلهم، من غير تعرض منه لبيان ما هو الحق منها، فأقول: لعله قصد إيراد كل ما قيل من حق وباطل، ولهذا يورد من أقاويل المشبهة مثل هذا الإيراد، حتى ودته في بعض المواضيع يختار قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة»، ثم يقول ابن الصلاح: «وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحوناً بكثير من تأويلات أهل الباطل تدسيساً وتلبيساً على وجه لا يفطن بتمييزها غير أهل العلم، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بانتسابه إلى المعتزلة حتى يُحَذَّرَ، وهو مجتهد في كتمان موافقته لهم فيما هو لهم فيه موافق».

اقرأ أيضاً:  مصطفى صادق الرافعي: أعجوبة الأدب العربي بين الشعر والنثر

ثم يقول ابن الصلاح مستدركاً: «ثم هو ليس معتزلياً مطلقاً، فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم».

وقال الذهبي عنه في ميزان الاعتدال، وفي المغني: «علي بن محمد أقضى القضاة، أبو الحسن الماوردي، صدوق في نفسه، لكنه معتزلي».

ويَستدرك ابن حجر على هذا الاتهام فيقول في لسان الميزان: «ولا ينبغي أن يطلق عليه اسم الاعتزال».

ولإن كان الإمام الماوردي قد خالف أصحابه من الشافعي الأشاعرة في بعض ما ذهبوا إليه؛ كمسألة إدراك حُسْن الأشياء وقُبحها بالعقل، ومسألة القدر، كما يقول ابن الصلاح، فإن هذه المخالفة إنما جاءت عن نظر واجتهاد، وهو المنهج الذي اختصه الماوردي لنفسه في بحثه وعلمه، ولا يلزم من اتفاق رأيه مع رأي المعتزلة في بعض المسائل أن يكون معتزلياً، ولا ينبغي أن يحجبنا ذلك عن الإفادة من علمه الموسوعي وآثاره القيمة.

هذا وقد كان الماوردي صاحب أخلاق رفيع وآداب حسنة، وتنقل لنا المصادر بعضاً من شهادات أهل العلم بمنزلته وفضله ونبل أخلاقه.

قال عنه تلميذه ابن خيرون: «كان رجلاً عظيم القدم، مقدماً عند السلطان، أحد الأئمة».

ويروي ياقوت الحموي عن عبد الملك الهمذاني تلميذ الماوردي قوله: «لم أر أوقر منه، ولم أسمع منه مضحكة قط، ولا رأيت ذراعه منذ صحبته إلى أن فارق الدنيا».

وقال ابن كثير: «وقد كان حليماً وقوراً أديباً، لم يُرِي أصحابه ذراعه يوماً من الدهر مع شدة تحرزه وأدبه».

وقال ابن الجوزي: «وكان وقوراً متأدباً، وكان ثقة صالحاً».

وحُكي عنه أنه قال: «ما أعلم أن لأحد علي مظلمة»، وقد كان فقيهاً يعلم أن الغيبة من المظالم.

ومما يروى عنه في ورعه وإخلاصه ما قيل: إنه لم يُظهر شيئاً من تصانيفه في حياته وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لمن يثق به: «الكتب في المكان الفلاني، كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها؛ لأنني لم أجد نية خالصة لله تعالى لم يشبها كدر، فإن عانيت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه يقبل مني شيء، فاعمد إلى تلك الكتب وألقها في دجلة، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك، فاعلم أنها قد قبلت، إني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة»، قال ذلك الرجل: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي، فعلمت أنها علامة القبول؛ فأظهرت كتبه بعده.

اقرأ أيضاً:  سقراط: رائد الفلسفة الغربية ومؤسس التفكير النقدي

قال تلميذه ابن خيرون: «لعله هذا بالنسبة إلى الحاوي وإلا فقد رأيت من مصنفاتٍ غيره كثيراً وعليه خطه، ومنه ما أكملت قراءته عليه في حياته».

عاصر الماوردي خليفتين عباسيين هما القادر بالله والقائم بأمر الله، وكان الماوردي من رجال السياسة المشهورين في الدولة العباسية، وعمل سفيراً للقائم بأمر الله في مهمات سياسية وقانونية رسمية مع دولة بني بُوَيه، ومع السلاجقة حيث تعرضت الدول العباسية لانشقاق تلك الدول عن سلطانها والانتساب إلى الخليفة العباسي شكلاً فقط، وقد عمل الماوردي على الحفاظ على وحدة الدول العباسية والدفاع عنها ضد محاولات التجزئة، وهذا ما يعكس وعياً لدى الماوردي بحركة الحياة في عصره ومشاركته فيها على نحو إيجابي، ولعل عصر الاضطرابات الذي عاشه الماوردي أورثه إبداعاً في السياسة والعفة فتجده يؤكد ضرورة الخلافة واستمرارها كما يحدد واجبات الخليفة المناطة في منصبه.

ولم يمنعه ذلك من إبداء الحق والتمسك به حتى مع السلطان، فإنه لما أضاف جلالُ الدولة ابن بويه إلى اسمه عبارة: (شاه شاه الأعظم ملك الملوك) وخُطِبَ له بذلك، فأفتى بعض الفقهاء بالمنع وأنه لا يقال ملك الملوك إلا لله تعالى، واختلف فقهاء بغداد في جواز التلقب بهذا اللقب، فأفتى فريق منهم بجوازه كالقاضي أبي الطيب الطبري، وأفتى الماوردي بالمنع وشدد بذلك، وكان الماوردي من خواص جلال الدولة، فلما أفتى بالمنع انقطع عن الاتصال بجلال الدولة فطلبه جلال الدولة فمضى إليه الماوردي على وجل، فلما دخل عليه قال له جلال الدولة: «أنا أعلم أنك لو حابيت أحداً لحابيتني لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدِّين، فزاد بذلك محلك عندي. »

والحديث عن نبل أخلاق الماوردي ومروءته وصيانته يطول غير أن كتابه (أدب الدنيا والدين) يكشف لنا عن شخصية مؤلفة من اهتمامه بتزكية نفسه، وترويضها على معالي الأمور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى