الوصايا في الأدب الجاهلي: تعريفها، وخصائصها الفنية، وأشهر نماذجها التربوية

في أعماق التراث الأدبي العربي، حيث تتجسد حكمة الأجيال وتجارب الأسلاف، يبرز فن الوصايا كمنارة إرشادية وكنز تربوي لا ينضب. لم تكن الوصايا مجرد كلمات تُلقى عند مشارف الرحيل، بل كانت خلاصة حياة بأكملها، تُصاغ في عبارات بليغة لتكون دستوراً أخلاقياً ومرشداً سلوكياً للأجيال اللاحقة. يستكشف هذا المقال عالم الوصايا بعمق، متناولاً تعريفها كأحد أبرز ألوان الأدب التربوي، ويتتبع مصادرها التاريخية، ويحلل خصائصها الفنية والفكرية التي ميزتها كفرع أصيل من فروع النثر الجاهلي، مستعرضاً نماذج خالدة من أشهر الوصايا التي شكلت وعي الأمة وحفظت قيمها الأصيلة.
تعريف الوصايا ومصادرها التاريخية
تُعدّ الوصايا شكلاً من أشكال الأدب التربوي الذي عُرف في التراث الأدبي العربي القديم، حيث تم تداول هذه الوصايا عن طريق الحفظة والرواة. كما قام المؤلفون بجمع الوصايا في مصنفات مستقلة، أو أدرجوها ضمن فصول وأبواب مخصصة لفن الوصايا في كتب الأدب العامة. ومن أبرز المصنفات التي انفردت برواية الوصايا، يبرز كتاب تاريخ العرب الأولية للأصمعي عبد الملك بن قريب (المتوفى سنة: ٢١٦هـ)، ويشتمل هذا الكتاب على مجموعة من الوصايا مثل وصايا قحطان والملوك من أبناء هود. ومن الكتب الأخرى المتخصصة في الوصايا، نجد كتاب (الوصايا) لدعبل بن علي الخزاعي (المتوفى سنة: ٢٤٦هـ)، وكتاب (الوصايا) لأبي حاتم السجستاني (المتوفى سنة: ٢٤٨هـ)، بالإضافة إلى كتاب (وصايا الملوك وأبناء الملوك) للوشاء، وهي كلها مصادر مهمة لدراسة فن الوصايا.
مضمون الوصايا وغاياتها التربوية
تُوجَّه الوصايا عادةً من قِبَل الموصي إلى أهله وعشيرته عند استشعاره قرب الأجل. وتتمثل الغاية الأساسية من هذه الوصايا في تقديم النصح والإرشاد نحو السلوك القويم، والتحفيز على التزام الفضائل والتخلق بالأخلاق الكريمة. وتنطوي بنية الوصايا على قدر كبير من الحكم والأمثال، كما تتضمن خلاصة الخبرات الحياتية، حيث تعبر مثل هذه الوصايا عن نظرة الموصي إلى الدنيا وأحوالها، ورأيه في الطبيعة البشرية وسلوكياتها المختلفة، مما يجعل الوصايا مرآة للتجربة الإنسانية.
قضية الأصالة والانتحال في أدب الوصايا
وقد رأى بعض الباحثين أن نصوص الوصايا لا تخلو من شبهة الوضع والانتحال، مرجعين ذلك إلى أن عملية نقل الوصايا اعتمدت بشكل أساسي على الرواية الشفهية والحفظ، وليس على التدوين الموثق. ومع ذلك، فقد ورد في بعض المصادر أن بعض الوصايا اتخذت شكل رسالة مكتوبة يقوم الموصي بصياغتها وإرسالها إلى الموصى إليه، مما يعزز من موثوقية هذا النوع من الوصايا. ومن الأمثلة على الوصايا المكتوبة، وصية أكثم بن صيفي التي وجهها إلى قبيلة طيء، ووصيته الأخرى إلى النعمان بن خميصة البارقي، وهما مثالان بارزان على الشكل المكتوب لفن الوصايا.
الخصائص الفكرية والفنية لفن الوصايا
لا توجد في الوصايا خصائص فنية فارقة تميزها بشكل مطلق عن أنواع النثر الأخرى، إذ يُعتبر فن الوصايا فرعًا من فروع النثر الجاهلي الذي يحمل خصائصه الفكرية والفنية العامة. فعلى الصعيد الفكري، ينعكس في الوصايا الفكر الهادئ والعميق، والحكمة المتزنة، والنظرة الواقعية لمشكلات الحياة، مع استنباط للمعاني من صميم التجربة الحية لا من الفلسفة النظرية. أما من الناحية الفنية، فتتسم الوصايا بالجمع بين اللغة المرسلة والأسلوب المسجع، واستخدام الجمل القصيرة المتوازنة، مع ضعف نسبي في الروابط المنطقية بين الأفكار، والاعتماد على الأساليب الإنشائية من أمر ونداء ونهي، وهي سمات مميزة لفن الوصايا.
نماذج من الوصايا في الأدب العربي
في الوصية الأولى – وهي من الوصايا الطويلة والمشهورة – يقدم أكثم النصح لبني طيء بالتقوى، وصلة الرحم، والعناية بالخيل والإبل، بالإضافة إلى أمور أخرى. حيث يقول في نص هذه الوصية: «أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرحم. وإياكم ونكاح الحمقاء، فإن نكاحها غرر وولدها ضياع. وعليكم بالخيل فأكرموها، فإنها حصون العرب. ولا تضعوا رقاب الإبل في غير حقها، فإن فيها ثمن الكريمة ورقوء الدم، وبألبانها يتحف الكبير، ويغذى الصغير.. والعدم عدم العقل لا عدم المال.. ومن عتب الدهر طالت معتبته *** ومن رضي بالقسم طابت معيشته… وآفة الرأي الهوى..».
ومن نماذج الوصايا العربية البارزة، وصية الحارث بن كعب التي وجهها إلى بنيه وقد حضرته الوفاة. وفي هذه الوصية المحددة، يقول: «يابني عليكم بهذا المال فاطلبوه أجمل الطلب، ثم اصرفوه في أجمل مذهب، فصلوا به الأرحام، واصطنعوا منه الأقوام، واجعلوه جنة لأعراضكم، تحسن في الناس قالتكم».
وربما كانت الوصية تتخذ شكل توجيه تربوي، يعلم فيه الكبير الصغير، وينقل فيه المجرب المتمرس بأمور الدنيا خبراته إلى الغرير الناشئ. ومن أشهر الوصايا التربوية، تبرز وصية أمامة بنت الحارث التي أودعت فيها خلاصة تجاربها في الحياة، وودعت بها ابنتها أم إياس عند زفافها إلى زوجها. ومما جاء في نص هذه الوصية: «أي بنية إن الوصية لو تركت لفضل في أدب تركت ذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.. أي بنية إنك فارقت الجوّ الذي منه خرجت *** وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه *** وقرين لم تألفيه. فأصبح بملكه إياك عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أمةً يكنْ لك عبداً وشيكاً. يابنية احملي عني عشر خصال تكن لك ذخراً وذكراً: الصحبة له بالقناعة *** والمعاشرة بحسن السمع والطاعة *** والتعاهد لموقع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشتم منك إلا طيب الريح…». وتُعدّ هذه الوصية نموذجًا فريدًا ضمن فن الوصايا، حيث تُصنّف من أجمل الوصايا وأرقاها وأكثرها حرصًا على استقامة العلاقات الإنسانية الكريمة بين الزوجين، مما يبرز القيمة العظيمة التي تحملها مثل هذه الوصايا.
خاتمة
وفي الختام، يتضح جلياً أن فن الوصايا يتجاوز كونه مجرد شكل أدبي قديم، ليصبح سجلاً حياً للحكمة الإنسانية ومرآة عاكسة للقيم الاجتماعية والأخلاقية في العصور العربية الأولى. فمن خلال تحليل تعريفها ومصادرها وخصائصها، ندرك أن الوصايا كانت وسيلة فعالة لنقل الخبرة وتوريث الفضيلة، حيث جمعت بين عمق الفكرة وبلاغة الأسلوب. إن النماذج التي تم استعراضها، بدءاً من وصايا الملوك الحكماء وصولاً إلى وصية الأم لابنتها، تؤكد على الدور المحوري الذي لعبته الوصايا في بناء الأسرة والمجتمع. وبذلك، يظل إرث الوصايا شاهداً على أن الكلمة الصادقة النابعة من تجربة حية هي الأبقى أثراً والأعظم قيمة، لتبقى منارة تهتدي بها الأجيال في مسيرتها نحو حياة كريمة وفاضلة.
الأسئلة الشائعة
١ – ما هو التعريف الأكاديمي الدقيق لفن الوصايا؟
الإجابة: تُعرَّف الوصايا أكاديمياً بأنها لون من ألوان الأدب التربوي، وشكل من أشكال النثر الفني الذي ازدهر في الأدب العربي القديم. هي نصوص بليغة يوجهها شخص ذو خبرة وتجربة (الموصي)، غالباً عند إحساسه بدنو الأجل أو في مواقف حياتية فاصلة، إلى طرف آخر (الموصى إليه)، سواء كان فرداً أو جماعة. تهدف الوصايا بشكل أساسي إلى تقديم النصح والإرشاد، ونقل خلاصة التجارب الحياتية، والحث على التمسك بالفضائل والأخلاق الكريمة، وتجنب الرذائل. وتعتبر سجلاً تاريخياً يعكس القيم الاجتماعية والفكرية السائدة في عصرها.
٢ – ما هي الغاية الأساسية التي تسعى الوصايا إلى تحقيقها؟
الإجابة: الغاية الأساسية لفن الوصايا هي غاية تربوية وإصلاحية بالدرجة الأولى. فهي تسعى إلى تحقيق عدة أهداف متكاملة؛ أبرزها: تقديم النصح والإرشاد لتوجيه سلوك الأفراد والجماعات نحو الطريق القويم، ونقل الحكمة والخبرة المتراكمة عبر الأجيال من الكبار إلى الصغار، والحفاظ على الموروث القيمي والأخلاقي للمجتمع. كما تهدف الوصايا إلى ترسيخ الفضائل مثل الشجاعة والكرم وصلة الرحم، وتعتبر بمثابة دستور أخلاقي ينظم العلاقات الإنسانية داخل الأسرة والقبيلة.
٣ – كيف ينظر الباحثون إلى قضية أصالة نصوص الوصايا وموثوقيتها؟
الإجابة: تنقسم آراء الباحثين حول هذه القضية؛ حيث يرى فريق منهم أن الكثير من نصوص الوصايا، خاصة تلك المنسوبة للعصر الجاهلي، قد شابها الوضع والانتحال، وذلك بسبب اعتمادها الأساسي على الرواية الشفهية والحفظ، مما فتح الباب للإضافات والتعديلات عبر الزمن. في المقابل، يرى فريق آخر أن العديد من الوصايا تحمل قدراً كبيراً من الأصالة، مستدلين بوجود نماذج مكتوبة على شكل رسائل، مثل وصية أكثم بن صيفي، مما يمنحها درجة أعلى من الموثوقية. وبشكل عام، يتم التعامل مع نصوص الوصايا بحذر أكاديمي، مع تحليل مضمونها ولغتها لتحديد مدى توافقها مع العصر الذي تُنسب إليه.
٤ – ما هي أبرز الخصائص الفنية والأسلوبية التي تميز فن الوصايا؟
الإجابة: تتميز الوصايا بخصائص فنية وأسلوبية تجعلها فرعاً مميزاً من النثر العربي. من أبرز هذه الخصائص: استخدام الجمل القصيرة والمتوازنة التي تسهل الحفظ والتأثير، والمزج بين الأسلوب المرسل (الخالي من السجع) والأسلوب المسجوع لإضفاء جرس موسيقي وجاذبية على النص. كما تعتمد الوصايا بشكل كبير على الأساليب الإنشائية مثل الأمر والنهي والنداء، وذلك لتحقيق غايتها المباشرة في التوجيه والإرشاد. ويُلاحظ فيها ضعف الروابط المنطقية الصريحة بين الجمل أحياناً، حيث تُعرض الأفكار بشكل متوالٍ يعتمد على قوة المعنى وتأثيره.
٥ – ما هي الموضوعات الرئيسية التي تتناولها الوصايا العربية؟
الإجابة: تتناول الوصايا طيفاً واسعاً من الموضوعات التي تعكس شؤون الحياة كافة. تشمل الموضوعات الرئيسية: الحث على القيم الدينية والأخلاقية كتقوى الله وصلة الرحم، وتقديم النصائح الاجتماعية المتعلقة بالزواج واختيار الزوجة، وإرشادات عملية في إدارة شؤون الحياة اليومية مثل العناية بالخيل والإبل وإدارة المال. كما تحتوي الوصايا على قدر كبير من الحكمة والفلسفة العملية المستمدة من التجربة، والتي تتناول نظرة الموصي إلى الحياة والموت، وطبائع البشر، وكيفية التعامل مع تقلبات الدهر.
٦ – من هم أبرز أعلام فن الوصايا الذين ورد ذكرهم في كتب التراث؟
الإجابة: يزخر التراث العربي بالعديد من الأعلام الذين اشتهروا بترك الوصايا البليغة. من أبرزهم أكثم بن صيفي التميمي، الذي يُعد من أشهر حكماء العرب وله وصايا عديدة ومشهورة. وكذلك الحارث بن كعب، الذي ترك وصية جامعة لبنيه عند وفاته. وفي مجال الوصايا التربوية الموجهة للنساء، تبرز شخصية أمامة بنت الحارث، التي قدمت لابنتها وصية خالدة عند زفافها، تُعد دستوراً في بناء العلاقات الزوجية السليمة. بالإضافة إلى هؤلاء، جمع الرواة والمؤلفون مثل الأصمعي ودعبل الخزاعي العديد من الوصايا المنسوبة للملوك والحكماء القدماء.
٧ – هل يمكن تصنيف الوصايا إلى أنواع مختلفة؟
الإجابة: نعم، يمكن تصنيف الوصايا بناءً على سياقها ومضمونها إلى عدة أنواع. النوع الأول والأشهر هو “وصايا المحتضر”، وهي التي يلقيها الموصي عند شعوره بقرب الموت. النوع الثاني هو “الوصايا التربوية”، وهي التي لا ترتبط بالوفاة، بل بمناسبة اجتماعية هامة كالزواج أو السفر، وتهدف إلى تقديم توجيهات محددة، مثل وصية أمامة لابنتها. كما يمكن تصنيفها إلى “وصايا سياسية أو حربية” يوجهها القادة لجيوشهم أو خلفائهم، و”وصايا اجتماعية عامة” تهدف إلى إصلاح شأن القبيلة أو المجتمع ككل.
٨ – كيف تمكن فن الوصايا من الانتقال عبر العصور وصولاً إلينا؟
الإجابة: انتقل فن الوصايا إلينا عبر قناتين رئيسيتين. القناة الأولى هي “الرواية الشفهية”، حيث قام الحفظة والرواة بتناقل هذه النصوص جيلاً بعد جيل، مما ساهم في انتشارها الواسع ولكنه عرضها لبعض التغيير. أما القناة الثانية فهي “التدوين والكتابة”، فبعض الوصايا كانت تُكتب في الأصل على شكل رسائل، ثم جاء عصر التدوين في القرون الهجرية الأولى، حيث قام المؤلفون الكبار مثل الأصمعي وأبي حاتم السجستاني بجمع هذه الوصايا وتصنيفها في كتب متخصصة أو ضمن فصول في كتب الأدب العامة، مما ضمن حفظها بشكل دقيق وموثق.
٩ – ما القيمة التي يمثلها دراسة فن الوصايا في العصر الحديث؟
الإجابة: تمثل دراسة فن الوصايا قيمة كبيرة في العصر الحديث على عدة مستويات. فعلى المستوى الأدبي، هي مصدر غني لفهم تطور النثر العربي وخصائصه الفنية. وعلى المستوى التاريخي والاجتماعي، تُعد الوصايا وثائق هامة تكشف عن البنية الفكرية والقيم الأخلاقية وأنماط الحياة في المجتمعات العربية القديمة. أما على المستوى الإنساني، فلا تزال الكثير من الوصايا تحمل حكماً ونصائح خالدة تصلح لكل زمان ومكان، وتوفر دروساً في العلاقات الإنسانية والأخلاق وإدارة الحياة، مما يجعلها إرثاً تربوياً قيماً.
١٠ – ما علاقة الوصايا بفروع النثر الجاهلي الأخرى مثل الخطابة والأمثال؟
الإجابة: ترتبط الوصايا بعلاقة وثيقة بفروع النثر الجاهلي الأخرى. فهي تشترك مع “الخطابة” في العديد من الخصائص، مثل الإيجاز وقوة العبارة والاعتماد على الإقناع والتأثير المباشر، لكنها تختلف في أن الخطبة تُلقى غالباً أمام جمهور حاشد في مقام عام، بينما الوصية تكون في سياق أضيق وأكثر خصوصية. كما تتقاطع الوصايا بشكل كبير مع “الأمثال والحكم”، بل إنها غالباً ما تكون الوعاء الذي تُصاغ فيه الحكم وتُجمع فيه الأمثال، حيث تُعد الوصية بناءً متكاملاً يتكون من مجموعة من الحكم والأمثال المترابطة التي تخدم هدفاً توجيهياً واحداً.