شرح قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ ومَنْزِلِ … بسِقْطِ اللِّوى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
شرحُ المفرداتِ
قفا: فعلُ أمرٍ مِنَ الوقوفِ، خاطبَ بِهِ اثنينِ كانَا يسيرانِ معَهُ، أو خاطبَ بِهِ واحداً، فنزَّلَهُ منزلةَ اثنينِ على عادةِ العربِ أنْ تكونَ الرِّفقةُ ثلاثةً فمَا فوقَ، فيكونُ كلامُهُ قدْ جرى على ما أَلِفَ مِنْ خطابِهِ لصاحبيهِ، ومثلُهُ قولُ سويدِ بنِ كراعٍ العكليِّ:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ … وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعاً
وإنَّمَا فعلِتِ العربُ ذلِكَ؛ لأنَّ الرَّجلَ يكونُ أدنى أعوانِهِ اثنينِ: راعِي إبلِهِ وراعِي غنمِهِ، وكذلِكَ الرِّفقةُ أدنى ما تكونُ ثلاثةً، فجرى خطابُ الاثنينِ على الواحدِ لمرونِ ألسنتِهِمْ عليهِ.
-ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بِهِ: قفْ قفْ، فإلحاقُ الألفِ أمارةٌ دالَّةٌ على أنَّ المرادَ تكريرُ اللَّفظِ كمَا قالَ أبو عثمانَ المازنيُّ في قولِهِ تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنونَ: ٩٩] المرادُ مِنْهُ: أرجعنِي أرجعنِي أرجعنِي، جُعِلَتِ الواوُ عَلَماً مُشْعِراً بأنَّ المعنى تكريرُ اللَّفظِ مراراً.
-وقِيلَ: أرادَ قِفَنْ على جهةِ التَّأكيدِ، فقَلَبَ النُّونَ ألفاً في حالِ الوصلِ؛ لأنَّ هذهِ النُّونَ تُقْلَبُ ألفاً في حالِ الوقفِ، فحَمَلَ الوصفَ على الوقفِ، ألا ترى أنَّكَ لو وقفْتَ على قولِهِ تعالى: {لَنَسْفَعَا} [العلقُ: ١٥] قلْتَ: لنسفعاً؟ ومِنْهُ قولُ الأعشى:
وَصَلِّ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّاتِ وَالضُّحَى … وَلَا تَحْمَدِ الْمُثْرِينَ وَاللَّهَ فَاحْمَدَا
أرادَ فاحمدنَّ فقلبَ نونَ التَّأكيدِ ألفاً.
نبكِ: فعلٌ مضارعٌ مِنَ البكاءِ بالمدِّ والقصرِ، قالَ الخليلُ: مَنْ قصرَ البكا ذهبَ بِهِ إلى معنى الحزنِ، ومَنْ مدَّهُ ذهبَ بِهِ إلى معنى رفعِ الصَّوتِ، هذا قولُهُ، وإنْ شئْتَ قلْتَ: البكا بالقصرِ إسالةُ الدَّمعِ مِنْ غيرِ رفعِ صوتٍ، وبالمدِّ إسالةُ الدَّمعِ معَهُ، قالَ كعبُ بنُ مالكٍ الأنصاريُّ رضيَ اللَّهُ عنْهُ:
بَكَتْ عَينِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا … وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
ذكرى: مصدرٌ بمعنى التَّذكُّرِ.
حبيبٍ: هوَ اسمٌ مفعولٍ بمعنى محبوبٍ، يستوي فيهِ المذكَّرُ والمؤنَّثُ.
بسقطِ: بتثليثِ السِّينِ فيهِ ثلاثُ لغاتٍ: سِقْطٌ، وسَقْطٌ، وسُقْطٌ؛ أي: مُنْقَطَعُ الرَّملِ حيثُ يستدقُّ طرفُهُ، والسَّقطُ أيضاً ما يتطايرُ مِنَ النَّارِ، والسَّقطُ أيضاً المولودُ لغيرِ تمامِ مُدَّةِ الحَمْلِ.
اللِّوى: المكانُ الَّذي يكونُ رملُهُ مستدقَاً، وقيلَ: هوَ رملٌ يتلوَّى وينحني.
واللِّوى: ما التوى مِنَ الرَّملِ، وقالَ الأصمعيُّ: اللِّوى: الجَدَدُ بعدَ الرَّملةِ.
وفي التَّهذيبِ: اللِّوى: مُنْقَطَعُ الرَّملةِ. وفي الأساسِ: مُنْعَطَفُهُ، أو مُسْتَرَقُّهُ، كمَا في المُحكمِ، والجمعُ: ألْواءٌ.
-بسقطِ اللِّوى: مُنْقَطَعُ الرَّملِ، واللِّوى حيثُ يلتوي الرَّملُ ويرقُّ.
وإنَّمَا خُصَّ منقطعُ الرَّملُ وملتواهُ؛ لأنَّهُمْ كانُوا لا ينزلونَ إلَّا في صلابةٍ مِنَ الأرضِ؛ ليكونَ ذلِكَ أثبتَ لأوتادِ الأبنيةِ وأمكنَ لحفرِ النُّؤيِ، وإنَّمَا تكونُ الصَّلابةُ حيثُ ينقطعُ الرَّملُ ويلتوي ويرقُّ.
-الدَّخولِ وحوملِ: الأوَّلُ بفتحِ الدَّالِ على زنةِ فعولِ، والثَّاني بزنةِ فوعلِ: موضعانِ شرقي اليمامةِ، قالَ صاحبُ الدُّررِ اللَّوامعِ: والصَّحيحُ أنَّ الَّتي يعني امرؤُ القيسِ مواضعُ ما بينَ إمِرَّةَ وأسودِ العينِ.
الدَّخُولُ كقَبُولٍ: موضعٌ فِي دِيارِ بني أبي بكرِ بنِ كِلابٍ، يُذكَرُ مَعَ حَومَلِ.
وقالَ الكلابيُّ: الدَّخولُ: ماءٌ لعمروِ بنِ كلابٍ فيهِ أبنيةٌ.
معنى البيتِ
يا صاحبيَّ قفا وأعينانِي على البكاءِ والحزنِ عندَ تذكُّري حبيبتي الَّتي فارقتْنِي، ومنزلاً خرجَتْ مِنْهُ، هذا المنزلُ الَّذي كانَ يقعُ بمنقطعِ الرَّملِ الملتوي بينَ الدَّخولِ وحوملِ.
يأمرُ صاحبيهِ أنْ يقفا مَعَهُ ليعاوناهُ على البكاءِ عندَ منازلِ أحبابِهِ الَّتي كانَ يلقاهُمْ فيهَا وليجدِّدَ الذِّكرياتِ القديمةَ.
تحليل البيت
يخاطب الشاعر صاحبيه -على عادة الجاهليين -فيطلب منهما -والحزن يعتصر قلبه على فراق محبوبته -بأن يقفا ليساعداه على البكاء عند منزل حبيبته حيث كان يلقاها بين الدخول وحومل؛ ليجدد الذكريات القديمة معها، فيستخدم فعل الأمر (قفا) وجواب الطلب (نبك) مجزوماً، ويتبعهما بالذكرى وما يلازمها من الحبيب ومنزله وهذه هي البيئة الجاهلية التي سادت الشعر وقتئذ.
ثم يستمر في سرد البيئة الجاهلية، ويعيّن مكان منزل محبوبته وهو مكان منقطع الرمل وملتويه؛ لأنهم كانوا لا ينزلون إلا في صلابة من الأرض؛ ليكون ذلك أثبت لأوتاد الأبنية وأمكن لحفر النؤي، وإنما تكون الصلابة حيث ينقطع الرمل ويلتوي ويرق.
ويزيد من تفاصيل المكان التي حفظها، فالمكان يقع بين موضعين يسميان الدخول فحومل، وهما شرقي اليمامة، وقيل ما بين إمِرَّة وأسود العين، وقيل: الدَّخُولُ موضع فِي دِيار بني أبي بكر بن كِلاب، يُذكَر مَعَ حَومَل وقال الكلابي: الدخول: ماء لعمرو بن كلاب فيه أبنية.
وفي زيادة هذه التفاصيل دليل على تعلقه الشيء بالمكان حتى أنه حفظ كل تفاصيله.
نلاحظ استخدامه لأحرف الجر وظرف المكان وهي تناسب الحديث عن المواضع.